إذا كان إدوارد سعيد شبه وضعنا الراهن، كعرب، بحال "انتظار غودو" مستعيداً مسرحية بيكيت الشهيرة في انتظار غودو، "حيث نعيش في انتظار أشياء كثيرة من دون أن نعرف ما هي بالضبط، وكيف ستؤثر فينا وماذا سيأتي بعدها". الحياة، 3 شباط/ فبراير 2000، فإن هذه الحال تنطبق أكثر ما تنطبق على المخرجين في المؤسسة العامة للسينما في سورية. فالمعروف أن المخرج السينمائي السوري، ولأسباب عدة، لا يتاح له أن يحقق إلا فيلماً واحداً كل عشر سنوات، وأن المؤسسة العامة للسينما لا تستطيع أن تنجز أكثر من فيلم واحد كل سنتين. لكن المخرج محمد ملص يمثل استثناء عن هذه القاعدة، ببحثه الدؤوب عن جهات منتجة خارج سورية أو خارج العالم العربي برمته. وقد نجح في ذلك واستطاع أن يجد منتجين لأربعة من مشاريعه السينمائية، وقد أنجزها خلال العامين 1998 و1999. أولها فيلم "فوق الرمل تحت الشمس" 33 دقيقة. وقد أنجزه لمناسبة الذكرى الخمسين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وأنتجته شركة سانكرونيه الفرنسية. وفيه يلج محمد ملص منطقة محرمة، هي السجن السياسي، معتمداً قصة قصيرة في العنوان نفسه، كتبها أحد المساجين السياسيين السابقين، هو المخرج المسرحي غسان جباعي. وقد أفاد من أجواء قصص أخرى كتبها سجين آخر هو الصحافي علي الكردي. كتب جباعي قصته هذه خلال وجوده في السجن، فيتحدث في الفيلم عن تجربته في هذه الكتابة، فهو كما يقول ليس بكاتب وإنما مخرج مسرحي، لكن عتمة السجن هي التي علمته الكتابة، وصنعت منه كاتباً، مثلما جعلته يكتشف مسرح خيال الظل، أداة مناسبة للتعبير والبوح. كتب قصته على أوراق وبأقلام ابتكرها وزملاؤه، إذ تمنع على السجين الأوراق والأقلام. ويعرض محمد ملص في هذا الفيلم ثنائية الداخل والخارج. فالداخل هو السجن الذي ينتمي الى العصور الوسطى، بدءاً بأنظمته وقوانينه وانتهاء ببنائه الشاهق والمعتم والرطب. أما الخارج فهو سجن من نوع آخر، حيث الأم سجينة انتظار عودة ابنها الذي لا أحد يعرف متى ستكون. والفيلم الثاني "حلب: مقامات المسرة" إنتاج الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، بالتعاون مع شركة أميب الفرنسية. وهو عن المنشد السوري الشيخ صبري مدلل الذي يوثق هذا الفيلم أعماله ويقدمه الى المشاهد. وصربي مدلل هو ابن مدينة حلب، ولد عام 1918، وظهرت موهبته الغنائية مذ كان في الثانية عشرة من عمره. تدرب على الأستاذ عمر البطش، الذي علمه أصول الغناء والموشحات، وقدم أعمالاً كثيرة الى الإذاعة، ثم أسس فرقة للمدائح النبوية. وهو أول من أدخل "الدف" على الإنشاد، ووضع نحو أربعين لحناً. وأعماله هي الأكثر تداولاً بين المنشدين في سورية والدول العربية. اشتهر بالغناء المرتجل والأسلوب السهل الممتنع. ومن خلال هذا الفيلم نتعرف الى المدرسة الحلبية في الإنشاد التي أسسها عمر البطش وبكري الكردي وعلي الدرويش، وإلى فرقة "تراث" التي أسسها الشيخ صبري مدلل. أما الفيلم الثالث فهو "البحث عن عايدة"، من إنتاج أحمد عطية - تونس. إنه معالجة بصرية للمونودراما التي كتبتها الممثلة التونسية جليلة بكار، لمناسبة مرور خمسين عاماً على نكبة فلسطين. وهذه المونودراما عبارة عن مفكرة شخصية تستيعد فيها بكار، عبر ذاكرتها، العلاقة بين تاريخ فلسطين وتاريخ تونس والتداخل بينهما، وصولاً الى اللحظة التي غادر فيها المقاتلون الفلسطينيونبيروت الى تونس إثر الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية عام 1982، ومن ثم مطاردة الإسرائيليين لهم حتى هناك، سواء عبر القصف الجوي غارة حمام الشط أو عبر الاغتيال أبو جهاد. والفيلم يسعى عبر البحث عن فلسطين إلى إعادة طرح العلاقة بين السينما والمسرح، ويتصف بخصوصية هذه العلاقة، إذ إن السرد المسرحي يتم في مكان واحد، هو المكان الذي استهدفه الإسرائيليون في حمام الشط، ما يمنحه مذاقاً تجريبياً خاصاً، وجدلاً في العلاقة بين السينما والمسرح. الفيلم الرابع هو عن الفنان المبدع مارسيل خليفة وموسيقاه. يتضمن حواراً معه وتوثيقاً سينمائياً للحفلة الموسيقية الخاصة التي قدمها على مسرح المجمع الثقافي في أبو ظبي، وقدم خلالها عملاً موسيقياً أشبه بكونشيرتو للعود والأوركسترا بعنوان "متتالية أندلسية"، ومقطوعة موسيقية للأوركسترا بعنوان "صباح الليل"، وأغنيتين جديدتين للعود والأوركسترا، من تأليف الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، الأولى بعنوان "علليني" والثانية بعنوان "حيارى". وإلى هذه الأفلام السينمائية الأربعة، كتب المخرج محمد ملص سيناريو فيلم "القدس، ألف حكاية وحكاية" بالاشتراك مع المخرج التونسي رشيد مشهراوي الذي سيتولى إخراج الفيلم في القدس. هذا النشاط للمخرج محمد ملص جدير بأن يقتدي به مخرجو المؤسسة العامة للسينما في سورية، ويبحثوا عن جهات منتجة لمشاريعهم السينمائية قبل أن تذوي وتذوب في انتظار حلول لا يعرفونها ولا يعرفون متى ستأتي ولا من أين..