لم تشأ الإدارة العراقية أن يكون ردها على اتهامات بن لادن لها بالكفر، ونقده الشديد لمذهبها الاشتراكي، رداً مباشراً. والحال أن أسامة بن لادن بما صبّ من هجوم شديد وتكفير صريح للنظام العراقي ولجميع النظم الاشتراكية إنما يدشن للمرحلة الرابعة من العلاقة بين الأصولية والاشتراكية... وهي مرحلة عراك وشجار، ذلك أن كلا الطرفين غير قادر على الحرب. بدأت المرحلة الأولى مع ذيوع الفكر الاشتراكي وتسلله الى العالم العربي والإسلامي في الربع الأول من القرن العشرين، وهي تقريباً الحقبة التي شهدت بدايات الأصولية الإسلامية، والفارق الزمني بين الثورة البلشفية في روسيا وبين نشأة جماعة الأخوان المسلمين في مصر يصل الى أحد عشر عاماً فقط. وقد جاء الصف الثاني من الجيل المؤسس للجماعة على خريطة فكرية تحتل الاشتراكية فيها موقعاً مميزاً. وظهرت مقولات عدة تمحورت حول ما سمّي لاحقاً باليسار الإسلامي، وتكثّف الضوء من حول شخصيات الإسلام المشهورة بالعدل والقناعة، كالعُمريْن ابن الخطاب وابن عبدالعزيز وأبي ذر الغفاري. وشاع القول الشهير لأمير الشعراء أحمد شوقي في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم: الاشتراكيون أنت إمامهم لولا دعاوى القوم والغلواء. وكان الهدف من ذلك إظهار المضمون الاجتماعي للإسلام، وسحب البساط من تحت أقدام الإشتراكية. وعلى رغم أن تكوين جماعة الاخوان المسلمين كان من البورجوازية والطبقة الوسطى أو ما كان يسمى بالأفندية، وهي فئات لم تكن متعاطفة مع الفكر الإشتراكي، إلا أن ضرورات عدة من بينها جاذبية الإشتراكية وسخط الفقراء... كانت وراء استلهام الحركات الإسلامية الكثير من الرؤى الاشتراكية واستيعابها داخلها. وقد كان الرافد الصوفي في جماعة الأخوان بما يعلن من جانب التربية الروحية والزهد من بين صلات الوصل بين الأصولية والاشتراكية، بل زاد الأمر عند البعض فأصبحت الايديولوجيتان تعبّران عن مفهوم الفقر، وراح خطباء المساجد يحبذون الفقر والفقراء. وظلت الحال كذلك حتى منتصف القرن العشرين، حيث قامت ثورة تموز يوليو 1952 في مصر، ثم ثورة تموز 1958 في العراق، والوحدة المصرية - السورية 1958 في ما مثل الموجة الأولى من حكم الإشتراكية العربية وسيطرة اليسار على الحكم. وقد امتدت هذه المرحلة الى الموجة الثانية من الاشتراكية العربية حين وصل صدام حسين للسلطة في العراق، وحافظ الأسد في سورية ومعمر القذافي في ليبيا وقبلهم أحمد بن بيلا ثم هواري بومدين في الجزائر. وجاءت هذه المرحلة بصراع شديد بين الأصولية وبين الاشتراكية العربية بتطبيقاتها الناصرية والبعثية وما بينهما. وكان التقارب في البرنامج بين الطرفين هو أساس التباعد بينهما في دائرة السلطة. كان الطرفان ضد اسرائيل والى حد ما ضد الولاياتالمتحدة الأميركية، وكان كلاهما مع الإصلاح الزراعي وبناء مؤسسات التحرر الوطني وتعظيم البيروقراطية، وكانا أيضاً ناقمين على النظم السابقة ومعلنين العزم على مقاومة الفساد واستدراك ما فات في زمن الاستعمار، وكانا بالطبع يروجان لسياسات واعدة في التنمية البشرية من صحة وإسكان وتعليم. لكنهما كانا على خلاف شديد في من يطبق ومن يقود، ومن هم الذين تخرج كلمة الإصلاح من أفواههم من دون غيرهم. ولأن مرحلة الفكرة التي شهدت المؤانسة ما بين الأصولية والاشتراكية قد رحلت، فإن مرحلة السلطة التي شهدت المنازلة قد حلّت، وكانت هزيمة الأصولية هي النتيجة الحتمية، وانقطع الطريق الى السلطة، وغاب الاخوان المسلمون في مصر وأعدم سيد قطب، ولقي الإسلاميون هزائم متتالية ومتشابهة في بلدان أخرى. واللافت في هذا السجال ثم الصدام هو نجاح الاشتراكية العربية في أن تتفادى سهام الإسلاميين التي ترميهم بالكفر، بأن أفسحت الاشتراكية طريقاً واسعاً يفصل ما بينها وبين الشيوعية. بل ذهب "عمدة" الاشتراكية العربية الرئيس جمال عبدالناصر الى إلقاء الشيوعيين مع الإسلاميين في السجون نفسها. ونجح عبدالناصر وآخرون في أن يعفي نفسه وتجربته من البعد الفلسفي في الاشتراكية مؤكداً إيمانه الكامل بالدين ومرتحلاً الى مكة لأداء العمرة ومصلياً العيد وخطيباً في الجامع الأزهر... بينما كان الإسلاميون يملأون السجون، ثم إنه نجح في الوقت ذاته في أن يؤكد إيمانه الشديد بالاشتراكية، من التأميم الى سيطرة القطاع العام الى كسر شوكة رأس المال الى صداقة نادرة مع الإتحاد السوفياتي، بينما كان الشيوعيون يملأون السجون نفسها. وإذا كان الصدام وانكسار الأصولية هو الملمح الرئيس في المرحلة الثانية بموجتيها، فإن "الوفاق لا الاتفاق" قد مثل الملمح الرئيس في المرحلة الثالثة. فقد استفادت الأصولية - بعد سنين - من محنتها في الداخل وانطلقت تعمل في الخارج، فكان الهدوء الحذر ما بين الطرفين. وتعد حرب أفغانستان مع الإتحاد السوفياتي المثال النموذجي لتلك المرحلة، فقد ذهبت الحركات الإسلامية الى هناك تحت راية الجهاد ضد "الكفار" السوفيات، ومثّلت أفغانستان الساحة المناسبة للعمل بعد فشل الأصولية في السيطرة على السلطة في مصر إثر اغتيالها الرئيس السادات، وهو ما ولّد لديها إحباطاً عاماً من فكرة السلطة، وعلى رغم أن النظم العربية كانت في ذلك الوقت نظماً اشتراكية بحكم الدستور والمؤسسات والسياسات. غير أنها كانت لأسباب تتعلق بالعلاقة مع الولاياتالمتحدة وبالتخلص من عناصر الحركات الإسلامية بإنهاكهم في حرب طويلة وبعيدة - قد رحّبت وباركت، ولم تمنع أي جهد في هذا السبيل. وفي أي حال نجح الإسلاميون هناك، وكانوا من بين ألف سبب أدّى الى انهيار الاتحاد السوفياتي. وإذا كان خروج الأصولية الى الشرق للاشتباك مع الشيوعية لاقى صمتاً أو قبولاً من الاشتراكية العربية، فإن اتجاه الأصولية - بعد انهيار الشيوعية - صوب الرأسمالية قد لاقى الكثير من الارتباك. فلطالما كان خطاب الاشتراكية العربية يهاجم الولاياتالمتحدة واسرائيل، وجاء أسامة بن لادن ومن معه بخطاب أعقبه زلزال. وأتت أحداث واشنطن ونيويورك وما حولها من تفجير سفارات على الأرض الى تفجير سفن في عرض البحر، لتضع الأصولية والرأسمالية وجهاً لوجه. وقد خفت سحر الاشتراكية كثيراً أمام الإبهار الذي اتخذته لحظة الصدام الكبرى في مانهاتن ما بين تنظيمات الأصولية ومؤسسات العولمة. واللافت - من جديد - هو ذلك التشابه الكبير بين الخطاب الأصولي والخطاب اليساري في مواجهة الولاياتالمتحدة، وبدا واضحاً ذلك الارتياح الذي بدا على جماهير اليسار من جراء الإهانة التي ألحقها تنظيم القاعدة بالولاياتالمتحدة. وأصبح جمهور بن لادن خليطاً من الأصوليين واليساريين الذين ساءهم الانفراد الأميركي بقيادة العالم الى ما يعتقدون أنه الهاوية. وتحت وطأة "العدو المشترك" بدا أسامة بن لادن وكأنه زعيم ائتلاف جماهيري واسع يضم في عباءته كل الساخطين والرافضين من المؤمنين ومن غير المؤمنين. الى أن جاءت رسالة بن لادن الأخيرة التي أذاعتها قناة "الجزيرة" مساء عيد الأضحى الماضي لتقع الفتنة وتعود القطيعة. قال بن لادن "ان الاشتراكيين كفار حيثما كانوا" و"الاشتراكيون وهؤلاء الحكام قد سقطت ولايتهم منذ زمن بعيد" و"لا يضر في هذه الظروف أن تتقاطع مصالح المسلمين مع مصالح الاشتراكيين في القتال ضد الصليبيين مع اعتقادنا بكفر الاشتراكيين". وهكذا غَلَبَ الفقه السياسة، وأفصح بن لادن وتنظيم الجهاد/ القاعدة عن رأيهم في كفر الحكام وكفر المحكومين إن هم أيّدوا حكامهم. ثم إنه تكفير صريح لا لبس فيه للفكر الناصري والبعثي ولكل تجارب الاشتراكية العربية. وعلى ذلك فإن الشُقّة ما بين بن لادن والاشتراكية العربية هي أبعد بكثير منها بينه وبين الولاياتالمتحدة بل وإسرائيل. وهي عودة الى الفكرة الثابتة لدى تنظيمات الجهاد التي ترى بأن "الجهاد ضد الأنظمة العربية أهم من الجهاد ضد إسرائيل أو الولاياتالمتحدة"، أو بتعبير أيمن الظواهري فإن "الطريق الى القدس يمرّ أولاً بالقاهرة"، أو بتعبير ثالث فإن "قتال الكفار مقدّم على قتال أهل الذمة". وهكذا ابتدأ بن لادن المرحلة الرابعة من العلاقة بين الأصولية والاشتراكية على خلفية الحرب المحتملة في العراق. وهي مرحلة القطيعة على ما يبدو، فحكم التكفير الصريح للنظم الاشتراكية العربية في نسختها الحالية، والتي هي بالضرورة نسخة باهتة من نظم الخمسينات والستينات، لم يترك مجالاً للمصالحة أو التقارب، بعد أن تقدم الفقه وغلبت العقيدة، فيما تراجع الفكر وغابت السياسة. ولا شك في أن الوقيعة التي أحدثها بن لادن برسالته في كفر الاشتراكية جاءت في مصلحة الولاياتالمتحدة وفي صفّ الليبرالية بوجه عام، فها قد وقعت الفتنة بين أكبر الأعداء... الاشتراكية والأصولية معاً، ولم يعد لبن لادن القدرة على اجتذاب اليسار المحبط خلف صورته الغيفارية الجذابة مرة أخرى. وهكذا فإن الأصولية التي اختارت سلفاً أن تعارك الشيوعية في أفغانستان في ظرف مناسب، اختارت لاحقاً أن تعارك الرأسمالية في أشد مراحلها توحشاً وأعلاها قدراً وقدرة. ثم إذا هي تخوض المعركة الخطأ تخسر بغير داعٍ رفاقاً آخرين كان بإمكانهم أن يبقوا جمهوراً ثابتاً وخلفية عريضة... لا تكفّ عن التصفيق. أما الرأسمالية التي خاضت معركة "الأصولية" في أفغانستان في غياب الإشتراكية، فإنها تخوض معركة "الإشتراكية" في العراق في غياب الأصولية... لتخوض لاحقاً معارك أخرى في غياب الطرفين وفي حضور فلول بائسة لا تقوى على التظاهر. وتبقى الفائدة الأعظم التي قدمتها الأصولية للرأسمالية ممثلة في أحداث واشنطن ونيويورك، وهي الأحداث التي أجهزت على المشروع السياسي والأخلاقي لمناهضة العولمة والأمركة، بعد أن تحولت الولاياتالمتحدة من متّهم الى ضحية ثم الى صاحب قضية. * كاتب مصري.