الصديق الذي يحب أن يصف نفسه ب"ما بعد حداثي" كان قد بدأ يتصبّب عرقاً وهو يقرأ الجريدة. الخبر الذي كانت عيناه مسمّرتين عليه كان يتحدث عن دستور أوروبا الموحدة الذي يجري نقاشه فقرةً فقرة، ويثير ما لا يُحصى من خلافات. وقد تبين له أن الموقف من العراق ليس الموضوع. الموضوع هو الموقف من الدين والله في الدستور العتيد لمشروع بدأ أصلاً تحت تأثير... الحديد والصلب. إنتظرناها من أميركا فجاءت من أوروبا. هكذا قال بحسرة. ذاك ان القوى القارية التي تضافرت لجعل موضوع الدين على هذا الالحاح كثيرة: الكنيسة البابوية والأحزاب المسيحية الديموقراطية الأوروبية واليهود والمسلمون الأوروبيون. وقد أضيف الى هؤلاء جميعاً الوافدون الجدد من أوروبا الوسطى والشرقية، لا سيما منهم البولنديين المعروفين بموقع الدين في حياتهم وسياستهم بعد سقوط الشيوعية أقاموا صليباً في مبنى البرلمان. الصديق، رغم "ما بعد حداثيته"، علماني وتنويري. لكن الأمور بدأت تحيّره قليلاً. فأكثر ما يستهويه في ما بعد الحداثة تلك المساواة التي تقيمها بين شتى الثقافات، فتستبعد كل تراتُب هرمي يربط ثقافة بأخرى. وهذه المساواة بين الثقافات استهوت مؤخراً حتى جاك شيراك! الذي انزعج صديقي لاضطراره الى الاتفاق معه. فهي ما ينظر اليها الصديق لا بوصفها حقيقة نظرية مجردة فحسب، بل أيضاً كعنصر يواكب، بأحسن ما تكون المواكبة، حالة التمازُج التي تشهدها المدن المتعددة الثقافات. مع ذلك بدا التوفيق صعباً عليه: فالذي يبدو اليوم أن الاقرار بهذه المساواة الثقافية أقصر الطرق الى الاجتماع أو الاقتتال عند المحطة الدينية. وفي المقابل، فالقول بتفوق ثقافة التنوير، وهي الأقدر على محاصرة المحطة المذكورة، إخلال بأحد أساسيات ما بعد الحداثة و"تعدد سرودها". لا بل هو، عند غلاة ما بعد الحداثيين، ربما انطوى على عنصرية مرفوضة! لكن التباس صديقي وحيرته أصبح من الصعب السيطرة عليهما. وإذا كان الخبر الأخير قد أوصلهما الى مرحلة متقدمة، فإن 11 أيلول سبتمبر والتداعيات التي ترتبت عليها، أسست كلها هذين الحيرة والالتباس. والسؤال المطروح: كيف يكون المرء معادياً للعنصرية من دون احتمال العودة الى الدين، وكيف يكون، في المقابل، متحمساً للتعددية من دون إقرار بتفوق إحدى الثقافات؟ إلتباس صديقي وحيرته يتجاوزانه بالطبع الى بيئة أوسع، رغم أنه ربما كان الوحيد الذي يتصبب عرقاً كلما قرأ خبراً من هذا النوع في الجريدة.