ربما كانت العنصرية أحطّ ما عرفه البشر. لماذا النعت الأخلاقي: "أحطّ"؟ لقيامها على التمييز بين ناس وناس استناداً الى "العِرق" والمناخ، بغض النظر عما يفعلون. لأنها قضت بوجود "قابليات" معطاة سلفاً. لأنها عارضت التحول واندماج الشعوب والجماعات: فهم ينبغي ان يوجدوا في مكانين. واذا ضمّهم مكان واحد وجب فصلهم في مراتب مغلقة. وعملاً بهذه الخرافات قُتل وهُجّر وأُفقر وأُهين الملايين ممن يُفترض بمؤتمر دوربان أن يكرّمهم. وأن يكرّم جنوب افريقيا نفسها بصفتها التمثال الكبير الحي والرامز الى هزيمة العنصرية. مع هذا ففهم العنصرية لا تزال تشوبه التباسات كبرى تشقّ معسكر مناهضيها: في الأفكار: هل القول إن البشر متساوون وثقافاتهم متفاوتة عنصري؟ البعض يقول نعم، مركّزاً على وحدة البشرية والبُعد الانساني الواحد. البعض يقول لا، مشدداً على ان فكرتي البشرية والانسانية نفسيهما من بنات فكر التنوير وحده. اصحاب ال"نعم" يشيرون الى القسوة في فكر الحداثة الأوروبي الذي أقصى "الآخر" او دمجه الحاقاً. اصحاب ال"لا" يصرّون على ان الانسنة من خارج الحداثة فوضى فحسب. صحيح ان الثقافات كلها كان لها اسهامها، الا ان المحطة الاوروبية هي مكان انعقاد واختبار الثقافات تلك. إذاً: تعميم الأوروبية شرط لتقدم الانسانية جمعاء. لاستحضار قابلياتها المتساوية الى الواقع. القول بتساوي الثقافات في زمننا هذا، والامتناع عن تعريضها للدرس والنقد بحجة التساوي، أقصر الطرق الى الجهل بها وبالتاريخ. عندها ينشأ بدل الوعي بالعنصرية وتجاوزها، ابتزاز بها لمنع التقدم. وهذا ايضاً عليه ردّ أوّله أن "عبادة" التنوير الأوروبي لم تكتف بتهميش الشعوب "غير" الأوروبية، بل أحلّت التنوير محل الدِين. وكان "دِين التقدم" هو المسؤول المباشر عن ظاهرات كالنازية والستالينية. في السياسة: هل العنصرية خط واحد، أي ممارسة من البيض الاستعماريين بحق "غير" البيض المستعمَرين؟ السود الذين يطالبون اميركا بالتعويضات، والعرب الذين يطالبون بمساواة الصهيونية بالعنصرية يجيبون ب"نعم". ألم تبن الصهيونية دولة لليهود وتعامل عرب فلسطين بعدم تساوٍ فعلي معهم؟ ألم تشحن اميركا البيضاء السود من افريقيا وتعرّضهم لنظام عنصري شهير؟ أميركا الرسمية والأوروبيون يقولون لا. فالهند، مثلاً، عرفت ولا تزال نظام "الكاست" التراتُبي المغلق. والمتاجرة بالرق لم تقتصر على البيض الاوروبيين والاميركان اذ عاشت طويلا تجارة رقيق بين الهند وافريقيا والعالم العربي. والشعوب الافريقية و"شعوب" الصين تبادلت الاستعباد في ما بينها لحقب عدة. أما اسرائيل فمنحت مواطنيتها المساوية، ولو نظرياً، للعرب الذين بقوا فيها. واستطراداً: هل العنصرية استعمارية حتماً وحكماً؟ أيضاً هناك نعم ولا. نعم: لأن الاثنين ولدا من ضمن عملية تاريخية واحدة. ولا: لأن العنصرية كلها شر فيما الاستعمار خير مخلوط بالشر. ومن ثم: هل ترتبط العنصرية حتماً وحكماً بثنائية الغنى والفقر؟ نعم: لأن النظام العنصري وُجد أصلاً للدفاع عن مصالح بعينها وللحؤول دون توسيع نطاق الأسياد المستفيدين. لا: لأن هناك، أيضاً، عنصرية يوجهها الفقراء للأغنياء، كما نعرف في البلدان العربية "الفقيرة" حيال "الغنية". وفي بلدان آسيوية وافريقية حيال التجار الصينيين والكوريين واللبنانيين. وكما في بعض المشاعر حيال "اليانكي" الأميركي و"ثقافة الهمبرغر والكوكا كولا". وقبلاً في ذاك الشطر من اللاسامية الأوروبية الموجه الى المتمولين اليهود. في المواقف: هل ينبغي دفع تعويضات للسود الاميركان؟ نعم. الجواب بديهي. لا. لأن المطلوب اليوم تقديم المعونات والغاء الديون، فضلاً عن تقديم الاعتذار. لكن لماذا التعويضات لليهود؟ حتى ضحايا المحرقة الاحدث عهداً من عبودية السود ينبغي ان يوضع حدّ زمني لتعويضهم. الأسئلة كثيرة واشكالية. علوم الاجتماع والتاريخ لم تحلّها وقد لا تحلّها. المهمّ، وقد توافر منبر عالمي لطرح الموضوع كونياً، التغلب على السؤال الذي يحكم سابقيه: كيف يُحدّ من العنصرية في المستقبل؟ كيف العمل لانجاح تجارب التعدد الثقافي والاثني؟ كيف يُستخدم التاريخ للتعلم والتجنب، بدل توسيع مسافات الحقد بتوسّل الماضي؟