أكثر من 500 ألف طالب وطالبة يعودون لمقاعد الدراسة بتعليم مكة    "تلال" تختتم مشاركتها في "سيتي سكيب الرياض" بتوقيع اتفاقيات إستراتيجية لتعزيز جودة الحياة في مشاريعها    وزير الرياضة يشهد ختام منافسات الجولة النهائية للجياد العربية (GCAT)    "المواصفات السعودية" تنظم غدًا المؤتمر الوطني التاسع للجودة    "الأرصاد"سماء صحو إلى غائمة على جازان وعسير والباحة ومكة والمدينة    المكسيكي «زوردو» يوحّد ألقاب الملاكمة للوزن الثقيل المتوسط لWBO وWBA    «الطاقة»: السعودية تؤكد دعمها لمستقبل «المستدامة»    نفاد تذاكر مواجهة إندونيسيا والسعودية    منتخب هولندا يهزم المجر برباعية ويلحق بالمتأهلين لدور الثمانية في دوري أمم أوروبا    شمال غزة يستقبل القوافل الإغاثية السعودية    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    اليوم بدء الفصل الدراسي الثاني.. على الطريق 3 إجازات    20,124 مخالفاً في 7 أيام وإحالة 13,354 إلى بعثاتهم الدبلوماسية    «إعلان جدة» لمقاومة الميكروبات: ترجمة الإرادة الدولية إلى خطوات قابلة للتنفيذ    5 فوائد صحية للزنجبيل    اختلاف التقييم في الأنظمة التعليمية    مهرجان الزهور أيقونة الجمال والبيئة في قلب القصيم    المتشدقون المتفيهقون    الإستشراق والنص الشرعي    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    أهم باب للسعادة والتوفيق    الفرصة المؤكدة و مغامرة الريادة في كفتي ميزان    أغرب القوانين اليابانية    «مزحة برزحة».. هل تورط ترمب ب«إيلون ماسك» ؟    البيان المشترك الصادر عن الاجتماع الثاني للجنة الوزارية السعودية- الفرنسية بشأن العُلا    14% نموا في أعداد الحاويات الصادرة بالموانئ    أمن واستقرار المنطقة مرهون بإقامة دولة فلسطينية مستقلة    اكتشاف تاريخ البراكين على القمر    «واتساب»يتيح حفظ مسودات الرسائل    عروض ترفيهية    محافظ محايل يتفقد المستشفى العام بالمحافظة    شارك في الطاولة المستديرة بباكو..الجاسر: 16 مليار دولار تمويلات البنك الإسلامي للمناخ والأمن الغذائي    مشاركة مميزة في "سيتي سكيب".. "المربع الجديد".. تحقيق الجودة ومفهوم "المدن الذكية"    إطلاق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    السخرية    المؤتمر العالمي الثالث للموهبة.. عقول مبدعة بلا حدود    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يستعرضان الشراكة الإستراتيجية    أشبال الأخضر يجتازون الكويت في البطولة العربية الثانية    ضمن منافسات الجولة ال11.. طرح تذاكر مباراة النصر والقادسية "دورياً"    منتخبنا فوق الجميع    الابتسام يتغلّب على النصر ويتصدّر دوري ممتاز الطائرة    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    رحلة قراءة خاصة براعي غنم 2/2    الحكمة السعودية الصينية تحول الصراع إلى سلام    حكم بسجن فتوح لاعب الزمالك عاما واحدا في قضية القتل الخطأ    ابنتي التي غيّبها الموت..    ألوان الأرصفة ودلالاتها    وطنٌ ينهمر فينا    المرتزق ليس له محل من الإعراب    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    أمير تبوك يطمئن على صحة الضيوفي    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    المؤتمر الوزاري لمقاومة مضادات الميكروبات يتعهد بتحقيق أهدافه    الزفير يكشف سرطان الرئة    أمير الباحة يكلف " العضيلة" محافظاً لمحافظة الحجرة    تركيا.. طبيب «مزيف» يحول سيارة متنقلة ل«بوتوكس وفيلر» !    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المدينة البكماء والقرية الفصيحة . ثقافة "لبنان الكبير" : الصليبي والبستاني وجبران ونعيمة والراسي وآخرون
نشر في الحياة يوم 28 - 11 - 2001

} تطرح الثقافة اللبنانية، في تشكلها بين القرنين التاسع عشر والعشرين، اكثر من سؤال. تنتج الأسئلة ولبعضها صبغة اتهامية من مراوحة ساذجة لبعض هذه الثقافة بين ريف ومدينة، مراوحة اصطناعية ربما هددت بفصل الأدب عن الواقع الحي. كيف ينظر كاتب ومعلق لبناني الى ارتباط هذه المسألة بالطوائف والتصنيف الجغرافي؟
في أحد أيام صيف 1928 قُتل خليل الصليبي في بيروت. بضعة شبان من قريته بطلّون تقدموا منه ومن زوجته العائدين من سباحتهما واغتالوهما. جريمة الشاطىء تلك كان سببها نزاعاً على حقوق ملكية نبع ماءٍ. النبع كان يقع في ارض يملكها هو في بطلّون.
الحدث لم تكترث له الا قلة قليلة من متعلمي بيروت. في الريف اللبناني، ما خلا بطلّون ربما، لم يُسمع بالصليبي الذي كان في ال58 يومذاك. الا انها سنوات غنية بالحركة والسفر والاتصال والتعلّم، وقبل كل شيء: الفن.
القصة شيّقة وطَموحة: فخليل الصغير بدأ يرسم في قريته في جبل لبنان. بدأ يستخدم رؤوس عيدان الثقاب، ثم الأقلام فالفحم. في 1886 انتسب الى الكلية الانجيلية السورية التي صارت لاحقاً الجامعة الأميركية. في 1890 سافر الى أدنبره باسكتلندا لاستكمال دراسة الرسم. هناك التقى بجان سنغر سارجنت الذي اقترح عليه ان يتوجه الى الولايات المتحدة، ففعل.
في أميركا التقى بشابة من فيلادلفيا فتزوجها. بعد فترة قصيرة عادا الى بريطانيا للعيش فيها: أولاً في أدنبره ثم في لندن. في صالون أدنبره نال عمله "فينوس ميلو" Venus de Milo ميدالية ذهبية.
خليل، على ما يبدو، كان مشدوداً الى الآفاق لا الجذور. القوارب لا الشجر. لم يعد الى قريته ليتباهى امام اقاربه بنجاحه في الخارج. انتقل الى باريس وتتلمذ على بوفيس دو شافان. وفعلاً حقق نجاحات ملحوظة: فبينما كان في العاصمة الفرنسية عرض في "صالون المستقلين" وفي "دوران رويّال". هناك التقى بيار اوغست رينوار ووقع تحت تأثيره كما تحت تأثير الانطباعيين عموماً. وبعودته الى لندن في 1898 وقضائه هناك سنتين، غدا رسام بورتريات على الموضة.
إجمالاً قضى الصليبي عشر سنوات في الغرب. ومع غرّة القرن العشرين رجع الى الوطن بصحبة زوجته كاري. ربما انتابه آنذاك ضعف ما حيال الجذور الا أنه، على أي حال، استقر في مكان ملتبس: باشر التدريس في الجامعة الاميركية ببيروت. كذلك رسم بورتريات لا تُعدّ لأصدقاء ووجهاء، على جاري تلك الأيام التي تقلّد أياماً سبقتها في اوروبا. لكنه رسم خصوصاً بورتريات لزوجته. وفي 1920 أقام مرسمه الخاص في بيروت حيث درّس تلاميذ له بينهم قيصر الجميّل وعمر أنسي ممن سمّوه "أب النهضة الفنية اللبنانية".
حدثٌ آخر تعرّض له كان بمثابة الضارّة النافعة: ف"الأنجليك" الملائكية، احد بورترياته المرسوم لزوجته كاري، أثار اهتماماً كبيراً في صالون باريس للعام 1922 بسبب "جلاله وألمعيته الشفّافة"، ولكنْ أيضاً بسبب تعرّضه للسرقة. العثور على "الأنجليك" استغرق شهرين أسهما في إشهارها وإشهاره.
في هذه الغضون كان خليل الصليبي أدار ظهره للفن الديني الذي ساد طويلاً من قبل. ركّز على دراسة الرسم "العاري". تحرر من الشكلية، بحسب بعض نقّاده، وتشرّب أفكار الأنغلو ساكسون الليبرالية. وهو لم يراع الرأي العام اذ "أخذه جمال الجسد البشري لحدٍ أصبح مصدر وحيه على الاطلاق"1.
الإقلاع غرباً
هذه الجرأة كلها لم تقتله. قتله نبع الماء في القرية. قتله الجذر الذي ناداه فلبّى.
عام مقتل خليل الصليبي كان العام الثامن على نشأة "لبنان الكبير"، والثاني بعد وضع دستور للبلاد مستوحى من الدساتير الاوروبية. وجهة الاقلاع كانت الغرب. الشرق كله كان يقلع في هذا الاتجاه: مصطفى كمال في تركيا كان يتقدم بخطى سريعة. رضا شاه في إيران. حتى أفغانستان الجبلية والمعزولة، حاول ملكها أمان الله خان ولم يفلح. أما مصر فكانت لا تزال تعيش على اصلاحات اسماعيل وعلى… ديونه. انها "الحقبة الليبرالية" بحسب ألبرت حوراني: حزب الوفد. بنك مصر. أفكار أحمد لطفي السيد وجامعته. حقاً نجح محمد عبده في اعادة تأويل الاسلام.
لكنه كله بدا إقلاعاً متعثّراً. وفي لبنان تحديداً، بدت القرية ترفض الترويض.
الذين كتبوا يومذاك لم يُخفوا أذواقهم وتفضيلهم: فؤاد أفرام البستاني في "على عهد الأمير" الصادر في 1926 والمعاد طبعه مرات عدة، اعترف برضاه عن "عدالة بشير الثاني السريعة التي أدت الى اعدام امرأة برميها في الوادي، داخل كيس و]إعدام[ عشيقها شنقاً لاشتراكهما في قتل الزوج، وذلك بعد الجريمة بخمسة أيام". ولحد خاطر روى حكاية زخور الشمعوني الذي قتل في صيدا اسكافياً أعور كان يتطاول على اللبنانيين. أنهى الراوية حكايته بعبارة وضعها على لسان بشير الثاني: "بورك لك ولي وللبنان بمثل هؤلاء الشجعان"2.
الاعتداد بأيام القرى، بما فيها أسوأها وأقساها، تحوّل نهجاً في الكتابة والأدب - نهجاً راح يتعاظم سنة بعد أخرى: أنيس فريحة وضع "معجم الالفاظ العامية في اللهجة اللبنانية" وندب "حضارة في طريق الزوال" بحسب عنوان كتاب آخر. سلامة الراسي جمع أخباراً كأخبار فؤاد أفرام البستاني في كتاب ذي عنوان دالّ: "لئلا تضيع". وأصدر بعد ذاك كتباً أربعة من الصنف نفسه: "حكي قرايا وحكي سرايا"، "شيح بريح"، "في الزوايا خبايا"، "الناس بالناس".
ماذا يفعل بطل سلامة الراسي؟ إنه "يبسط عدم انسجامه مع العالم عالم الزعامة المتجبّرة، عالم البيروقراطية والدولة، عالم القوى الغريبة التي لا يقوى على مواجهتها، الخ. وهو يضع في وجه هذا العالم الساحق خبراته الدهرية التي لم تعد تفلح - إن افلحت - الا في انقاذه موقتاً"3.
إذاً: الحكمة، الشطارة، الشخصيات اللاتاريخية الصادرة عن ماضٍ مُتخيّل، الموصدة في وجه المستقبل.
أكثر من هذا، أقلع الأدب اللبناني كله في اتجاه القرى. جعلها هويته ومصدر شرعيته. عثر على تعريفه الذاتي في انتسابه اليها: أمين الريحاني "فيلسوف الفريكة". ميخائيل نعيمة "ناسك الشخروب". مارون عبود "أديب عين كفاع". أما جبران خليل جبران فيكاد لا يُذكر اسمه الا مصحوباً ببشري والوادي. كونه في بوسطن وكوننا معه هناك، لا يُضعفان طاقة بشري.
حتى العروبي رشيد سليم الخوري أطلق على نفسه لقب "الشاعر القروي".
ممانعة الحداثة
مناهج التعليم لعبت دوراً مركزياً: فحين لا يُسمّى الاديب باسم قرية سمّي باسم الريف كله، أو باسم الطبيعة وتعاقبها ومنتوجها: رشيد أيوب كاد لا يُذكر خارج "الثلج" الذي ذكّره "أهله بلبنان" وذكّره أمه والوادي في القرية. أشهر قصائد ايليا ابو ماضي مناداته "وطن النجوم"، هو الذي أصدر ديوانه "الجداول" عام 1927 في أهم مدن العالم: نيويورك، قبل ان يُتبعه ب"الخمائل". صلاح لبكي غالباً ما ترافقه قصيدة "هلّي فداك الدفء هلّي". فؤاد سليمان أديب "تمّوز" و"التمّوزيات".
ولأن الريف منبت نظام القرابة، اتخذ بعض أضلاع الحياة الثقافية اللبنانية شكلاً قرابياً: رشيد ايوب خال ميشال طراد وهو من بسكنتا، قرية مخايل نعيمة. وميشال طراد، بالمناسبة، "لم ينزل الى بيروت الا لماماً، ولا تورّط في النسيج الاجتماعي بما يتجاوز جيرانه وأصحابه وأهل بيته"4. وهناك "المعالفة": التعبير الذي يصف عائلة انجبت عدداً من الشعراء والكتّاب والصحافيين. أما رشيد نخلة، الشاعر والزجّال الذي كتب النشيد الوطني اللبناني، فوالد الأديب أمين نخلة: صاحب "المفكرة الريفية".
هذا كان مفهوماً في عالم القرى للقرن 19: آل البستاني. آل اليازجي... في القرن 20 بدا الأمر أغرب. بدا أشبه بممانعة الجديد. وهي ممانعة عاشت طويلاً كأنها تعطّل ديالكتيك الأزمنة والتحولات. كأن ما صحّ يصحّ أبداً. كأننا حيال جوهر جوهري.
من هذه الريفية الطاغية طلع "نقد أدبي" غريب. "نقد" يستعيض عن المعاني بالأخوانيات الشفوية وبالكلمات، وأحياناً بأصوات الكلمات التي تصوّر اصوات الطبيعة: موسقة، وسوسة، حشرجة، سأسأة، شرقطة. فحين يتناول فؤاد سليمان ميشال طراد، مثلاً، يرى انه "يحسدنا عليه الورد الجوري في لبنان، وتحسدنا عليه حناجر البلابل الذهبية ذوات الشجو والغناء"5.
لكن الشعر، وفي مستويات تعبيرية بسيطة هي دون المعاني، حفل بهذه المفردات الطبيعية. ففي شعر شوقي ابي شقرا، مثلاً، نقع على: شحتار المدفأة، عقصة الحية، الكبوش، ينفخت الخف… مثلما نقع على الامتدادات الحركية للطبيعة: نفلش الرغيف، الكواره، يلبطني، أطبش البوابة، لا تدفشني، تنكة، أشرقط…
خليل حاوي ذهب أبعد. صاغ السلوك موقفاً. هجا المدينة هجاء مُرّاً بأخلاق ريفية لا يرفّ لها جفن. وفي طريقه جرف أوروبا بوصفها المدينة العليا أو المثال:
"عبر باريس بلونا صومعات الفكرِ/ عِفنا الفكر في عيد المساخرْ/ وبروما غطتِ النجمَ، محتهُ/ شهوةُ الكهّان في جمر المباخرْ/ ثم ضيّعناه في لندنَ، ضعنا/ في ضباب الفحم، في لغز التجاره!/ ليلة الميلاد، لا نجمَ/ ولا إيمان أطفال بطفل ومغاره/ ليلة الميلاد.. نصف الليل.. ضيقٌ/ شارعٌ يفرغ.. ضحكات حزينه/ وانحدرنا في الدهاليز اللعينه/ لمغارات المدينه/ أعينٌ ترتد عن بابٍ لبابِ/ أعين نسألها: أين المغاره؟/ واهتدينا بسراج أحمر الضوء لباب/ حُفرت فيه عباره:/ "جنة الأرض هنا، لا حيّة تغوي/ ولا ديّان يرمي بالحجاره/ هاهنا الورد بلا شوك/ هنا العري طهاره!".
هذا البحث المحبط عن المسيح والمسيحية في أوروبا يرتد على المظاهر الأوروبية في بيروت التي جسّدت عصارة السيئ والمرذول. يقول حاوي: "نحن، من بيروت، مأساةً ولدنا/ بوجوه وعقول مستعاره/ تولد الفكرة في "السوق" بغيّا/ ثم تقضي العمر في لفق البكاره"6.
لم يكن من الصدف، إذاً، أن حاوي كان، في شبابه، قومياً سورياً: أي في الحزب المأخوذ بصوفية الأرض. لم يكن من الصدف ان هذا الحزب استهوى، ذات مرة، معظم المثقفين المسيحيين اللبنانيين.
القيم المتعفّفة، بالمسيحي فيها والريفي، لم تقتصر على الشعر: في أواسط الستينات فرح اللبنانيون الاكثر تنوراً بظهور رواية نسائية تُضاف الى عدد قليل جداً في هذا الباب. الرواية لإميلي نصر الله، عنوانها "طيور أيلول"7، لكننا لا نرى الا قرية نحبها وريفاً خائفاً على نفسه: خائفاً من الهجرة ومن التحوّل. ذاك ان سمعان العائد من المهجر صار سايمون. القيم على وشك ان تتغير. المجهول هاجم! الذكوري الأخلاقي كحاوي، والنسوية المفترضة كنصر الله، يتشاركان في التخويف منه. في البكاء على ما فات ويفوت.
أحمد بيضون سمّى هذا الأدب، بالمعنى العريض للكلمة، أدب "الحسرة". درسه خصوصاً في الكتابة التاريخية إذ تظهر الحسرة أكثر ما تظهر "في التأريخ للعادات والتقاليد، وفي كتب الأخبار".
"لئلا تضيع" لسلامة الراسي و"حضارة في طريق الزوال" لأنيس فريحة، بالغا الدلالة. منذ الأب يوسف تاتي الذي عاش في القرنين 19 و20، كان بين دوافع الحسرة "أن كثيراً من هذه العوائد سوف تذهب درج الرياح وتدخل عما قليل في خبر كان". تاتي هذا خشي على العوائد "تهافت أهل الشرق … على التخلق بأخلاق الأجانب وسلوك مناهجهم". وحين كتب عيسى اسكندر المعلوف، في الموضوع نفسه، بعد 15 عاماً في: "لبنان مباحث علمية واجتماعية" كان "انتشار العادات الافرنجية" قد غيّر أحوال اللبنانيين فعلاً "كلها أو بعضها الا بعض عادات الدروز". واستمر الأمر لاحقاً فظل "الحاضر نفسه هو الذي يُمتحن بهذا الماضي النفيس، بصفائه وبطمأنينته وبمعالم الصحة والبساطة فيه"8.
إنها الطبيعة
مستجدات الزمن بحداثته ورأسماليته وانفتاحه على العالم لم تفعل غير مفاقمة التهديد. هكذا، مثلاً، رأينا لحد خاطر، في 1974 و1977، يجمع "العادات والتقاليد اللبنانية" ويصدرها في جزءين. الأهم جاء مع الاخوين رحباني على امتداد عقود: لم يفعلا الا التصويت للقرية وأخلاقها، مرةً بعد مرة، بالشعر واللحن والصوت.
لكن هناك شيئاً آخر أسوأ هو ما قتل خليل الصليبي. انه الشعور، لدى مسيحيي لبنان عموماً، بأنهم مسوقون بالقوة الى الحداثة. وإلا هل كان مثقفوهم ليتحسروا كما فعلوا؟ لقد بدوا مثل الطفل الذي يُنتزع من عالم الأم الى عالم الأب بمجرد أن تبدو عليه ملامح الرجولة. ينسلخ ويُقتلع. يسير كئيباً ينغّصه الحنين الى ما كانه بين الخالات والعَمّات.
والحنين لم يستهدف القرية وحدها. لقد وُضع تاريخٌ قومي بأكمله يقوم على رموز ريفية ظُنّ انها توحّد اللبنانيين: فخر الدين المعني وبشير الشهابي. الاثنان غير مسيحيين منحازان الى المسيحية، كلٌ بطريقته. ثانيهما فيه كل مواصفات الذكورية القومية والاستبدادية التي تغتني بها الأرياف وتتغنى. فحين قُيّض للبنانيين ان ينالوا استقلالهم في 1943، وان يكتب احدهم نشيداً وطنياً للبلد الوليد، تداعت الصور التي تقدّم الشعب آتياً من الطبيعة ك"أُسد غاب"، سهله والجبل "منبت للرجال". النساء لم يكن لهن منبت فيه!
والحداثة والطبيعة يصعب ان تلتقيا. الحداثة تكيّف النظر الى الطبيعة، فلا يكون حديثاً جداً من يكون طبيعياً جداً. تتيح للانسان، بأدواتها وأفكارها، ان ينتقل من المواجهة التقنية لأخطار الطبيعة، الى المواجهة الأخلاقية لأفعاله الانسانية.
شرط ذلك: أن يكون فعلاً راغباً في الانتقال. في التمديُن. في القطع.
المسيحي اللبناني لم يكن راغباً. الانتقال الجزئي الذي أحدثه أحدثه غصباً عنه.
لماذا أحدث هذا الانتقال الجزئي إذاً؟ لأن المسلم اللبناني كان أشد منه رفضاً للانتقال من عالم السلطنة العثمانية. المسيحي اللبناني أراد أن يتمايز عنه. أن يتباهى عليه. ثم انه وجد ما يحميه، كأقلية، في حضور الغرب كما في أفكاره. هكذا تصاحبت حداثته الجزئية مع تباهٍ عصبي قديم.
هنا تصلّب الاستعداد للارتداد عن الحداثة وعليها. الأخيرة، في أوروبا، لم تنفصل عن المعارك داخل الواحد الديني والأخلاقي. عن مواجهة للكنيسة. عن تشكيل صراعي للنقابات. عن انتزاع، بالقوة كما بالقناعات، لحقوق المرأة. عن مجابهة للعنصرية. الحداثة اللبنانية جاءت على العكس: مرجعيتها الأوروبية لا يُرى اليها الا بصفتها واحداً موحداً نستقبله واحدين موحدين في مواجهة واحد موحد هو المسلم الشرقي. انها تحمل، منذ وقت مبكر، بذرة "صراع الحضارات".
في هذا، كان المجتمع الأبرشي الضيق يتمايز عن المسلم، أي يتعالى عليه، بالحداثة التنظيمية. وهو فعلاً امتلك الكثير من عناصرها وأولها الكنيسة... ثم الجريدة والبنك. لكن تأملوا التحديث على يد الكنائس؟ هذا جعله يتمايز عن مرجعه الأوروبي بالافتقار الى روحية الحداثة. الى ثقافة الحداثة. الى إلحاد الحداثة. عاش معتَقلاً في المدينة. كان بلهفة ينتظر نهاية الأسبوع كي "يصعد" الى... "الضيعة".
ف"المسرّة"، صوت كنيسة الروم الكاثوليك، قادت منذ 1913، مثلاً، حملة على "المودرنسم"، ارتسم بمثلها شكل الإقبال المتحفظ على القرن 20. في احد اعدادها شن الأب سيور البولسي حملة على السينما، فتعجّب من الأُسَر المسيحية التي "تراها صباحاً في الكنيسة مشهداً بديعاً للملائكة"، وفي المساء "تلاقيها في مسرح السينما المعروف بفساده وبصوره المهتكة لحرمة الفضيلة"9.
الواقعية الأوروبية التي واكبت تحولات الصناعة، اختارت المدينة. اختارت الانخراط في أزمتها. طوّرت رؤيتها للعالم في مختبر تعاملها مع الأزمة تلك. موضوعات تشارلز ديكنز في انكلترا. موضوعات هونوريه دو بلزاك في فرنسا. في المقابل: نساء الحداثة لم يكن "سيدات فاضلات": لا لايدي تشاترلي الانكليزية ولا مدام بوفاري الفرنسية.
عندنا، وليس في لبنان فحسب، لم يُقلع التقليد المديني الا متأخراً: وفي مصر تحديداً، ومع نجيب محفوظ بالأخص. ما بين "دعاء الكروان" لطه حسين 1934 و"الجبل" لفتحي غانم 1957 ظل الريف بيئة الرواية.
الاصلاح الزراعي للستينات حدّث الاهتمام بالريف بقدر ما قُدّم تحديثاً للريف نفسه. زاد في اهمية الأرض وجعلها أقنوماً ايديولوجياً لا طبيعياً فحسب. في غضون ذلك كانت المجتمعات الخليجية التي تدفق عليها النفط تتهيأ لإقحام عالم البادية في روايتها، كما دلّ عبد الرحمن منيف10.
عالم روايتنا ظل اقرب الى الروسي منه الى الاوروبي الغربي. الرِجل في الواقعية والعقل، فضلاً عن القلب، رومنطيقي.
القرب من المدينة
لكن المسيحية اللبنانية طرحت إشكالاً أعقد، ولو في رقعة ضيقة قياساً بالعالم العربي. فالوعي المسيحي انتمى تنظيمياً الى سوية المسيحيات السياسية لأوروبا الجنوبية الفرانكوية الاسبانية خصوصاً. رعاه تقليد كولونيالي، فرنسي وكاثوليكي، كما تناغم مع تشكيل اجتماعي لا يطرح أي تحدٍ على السلوك العائلي والدموي بالمعنى الايطالي الجنوبي. هذا الوعي بدا، بقيادة الكنيسة، قابلاً للتعايش مع درجة من التحديث. مع درجة من توطيد المؤسسات والحياة المدنية، بما يتجاوز المعدل الوسطي في الجوار العربي. غير أن قابليته للارتداد بدت حادة أيضاً.
ففي أبسط المستويات لعب قرب الريف "الجبل" من المدينة الدور نفسه الذي يلعبه ضعف النسيج المديني أصلاً، والعاجز تالياً عن تذويب العصبيات الموروثة او اضعافها. انه المكان الذي تسهل العودة اليه يومياً اذا رغب العائد. المكان الذي يؤتى منه بعديد المواد الزراعية التي تُستهلك بيتياً. المكان الذي ينزل أهله الى العاصمة فيقيمون في مناطق سكن متلاحمة ويستأنفون العلاقات التي تسود القرية.
لكننا، على مستوى أعقد، نصطدم بالطبيعة كمفهوم. هذه هي الخصوصية الأهم للمسيحية اللبنانية التي استفادت من صلتها بالحداثة كي تطوّره وتبلوره.
فالطبيعة الريفية التي صدر عنها خليل الصليبي كما صدر قاتلوه، ليست مكاناً، ولا فسحة هرب من المدينة والعمل والمشاغل. انها ليست لهواً ولا نزهة. انها هوية. انها سلاح في مواجهة من هم "بلا طبيعة"، أي أهل المدينة كائنين من كانوا.
وفي طبيعة كهذه تتغلب "الصخور" على "الزهور" غلبة مطلقة، فتحضر في القصائد والرسوم حضوراً حاسماً لا ينافسها عليه منافس. والطبيعة - الهوية، مثل كل هوية، لها عمق وتجسيد نراهما في الحدّين التاريخيين لهذه الحقبة: قبل نشأة "لبنان الكبير" حين أتى من "شمال" الطبيعة و"أصلها" الدعم الذي جسّده يوسف بك كرم، رغم فشله في مهمته لانقاذ زحلة. ومن المكان - المعنى نفسه، ومع احتضار الجمهورية الأولى، حاول سمير جعجع، في حرب الجبل، ما حاوله سلفه الزغرتاوي قبل قرابة قرن.
الاثنان لم ينجحا في تخليص أهل الطبيعة - الهوية. لكن الطوائف غير المسيحية لم تمتلك أنداداً لهما. صحيحٌ أن هناك سنّة وشيعة ريفيين، الا أن ريفيتهم ظلت أمكنة وقرى ولم تصر طبيعة، ولا غدت هوية. واذا بدا الريف الدرزي، وحده، نداً لريف المسيحيين، غير أنه افتقر الى المعاني التي أسبغها المسيحيون، بفضل التحديث النسبي، على ريفهم. فالقصائد والاغاني والخطابات والكتب فاضت في احدى كفتي الميزان وخلت منها الكفة الاخرى. كذلك افتقر ريف الدروز الى البحر الذي يرطّب به المسيحيون جبلهم كلما عنّ لهم ذلك.
الآخرون...
بمعنى آخر، أبقيت الطبيعة الدرزية طبيعةً فحسب فلم ترقَ الى مصاف الهوية. انها ظلت منظراً من دون ناظرين. فلئن سوّى الفلاح المسيحي الأرض فإن الفلاح الدرزي هو الذي سوّته الأرض. واذا انطوت النظرة هذه على تعالٍ، فبمثل هذا التعالي يمكن تسويغ "البعد الحضاري" الذي أريد اضفاؤه على مواجهات الفريقين الدائمة. ذاك ان المواجهات، من طرف المسيحيين، انقاذ للطبيعة ممن يريدونها أن تخدمهم من دون أن يخدموها.
ثم، اذا جسد الشمال اللبناني عمق الطبيعية ومداها عند المسيحيين، فعمق الطبيعة عند الدروز يتجسد في من هم غير لبنانيين: في دروز سوريين وفلسطينيين يتم العبور اليهم من ممر ضيق وناءٍ هو حاصبيا وجوارها. وهؤلاء ضمناً "أقوام" أضافوا الى العجز أمام الطبيعة المجيء من خارج الجنة اللبنانية.
ومثل مفهوم "الطبيعة" مفهوم "الجبل"، وهو عنصر منها لكنه عنصر مَلَكي: ذاك ان القرى تتراكم كماً، لتتجوهر نوعاً في الجبل. انه يطل من علٍ على ما عداه، ومَن عداه، فيسمو ويُشرف ويتفوّق. واذا كان ثمة جبل آخر ينافسه، وهو جبل عامل، فإنه أقصر قامةً بما يجعله مجرد جُبيل يعادل جزءاً صغيراً من رقعة جبل لبنان. لكن، وكما لو أن في التسميات تعييناً للمكانة، أُنزلت تسمية "محافظة الجنوب" بالبقعة التي سبق لها، أيام ناصيف النصّار، أن ناكفت وتمردت واستفزّت، فيما جُعل جبل المسيحيين وحده "جبل لبنان". وفي صيرورته هذه حُفظت للأخير فرادة الجبلية وشمولية التمثيل الوطني في آن، بعدما كان انقضى زمنٌ على مصادرة التاريخ التي اذابت "جبل الدروز" وصهرته في "جبل لبنان"11. أما الجنوبيون أنفسهم فحُرموا النسبتين، الجبلية واللبنانية، وغدوا يستمدون معناهم من الجغرافيا اذ ينتسبون الى "موقع"، الى جهة، بالقياس الى مركز مركزي. وهو، قبل ان تطغى هوية التحرير والصمود، عاش موقعاً دونياً بالقياس الى ذاك الشمالي الأشبه بالغيث في لحظات انحباس.
ولئن بدت عكار هي الاخرى جبلاً، فإنها ما عُمّر "الدير"، دير القمر، من حجره، بحسب قَسَم فخر الدين الشهير على الثأر من بني سيفا. ومن هُدم حجره يصعب ان يناط به البناء، أو أن يقود. فكيف وقد وُصمت تلك العكار بطرفية حيّرتها بين لبنان وسورية، حين كان الجنوب محيّراً بين لبنان وفلسطين. وهي لا تملك ما تقدمه للعقل اللبناني الا المهزلة التي مثّلها أبو سليم الطبل، مع أنه ليس عكارياً، تماماً كما لم يملك الجبل الدرزي الا الحكمة التي تبرع بها، بسماجة، أبو ملحم، مع أنه ليس درزياً.
وبعد كل حساب، فالاثنان، الجنوب وعكار، فقيران.
أما البقاع فسهل. وفي المعنى هذا تجرى مقارنته بسهل عكار ثم تفضيله عليه: ليس لأنه أكبر منه وأغنى فقط، بل أيضاً لأنه أوثق صلةً بالجبل: في التاريخ كما في الجغرافيا. في التملّك كما في الحضور. إنها، البقاع، ما ارتضاه الجبل أنثى له، فهي "الأملاك" و"الضرع" و"الخصوبة". أما عكار فالخادمة، وقد عاشت طويلاً مصدر خادمات وجيش. وبفعل تقاطُع البقاع على هذا النحو مع الجبل، تبدو مدينة زحلة، المسيحية، كأنها وديعة جبلية في تلك الانحاء، أو كأنها ابنة الجبل التي تزور أمها، وقد تُحاصَر فيستدعي الأمر همّة يوسف كرم أو من ينوب منابه.
هوامش
1- عن خليل الصليبي وسيرته وتجربته، أنظر:
تاريخ الفن اللبناني بالانكليزية، صادر عن "الرابطة البريطانية - اللبنانية"، 1989، ص 156-157،
و:كاليري شاهين. مائة عام من الفن التشكيلي في لبنان 1 1880- 1980، 1982، ص2.
2- عن: أحمد بيضون. الصراع على تاريخ لبنان أو الهوية والزمن في أعمال مؤرخينا المعاصرين. منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت. 1989. ه 221.
3- المرجع السابق. ه 222.
4- جاد الحاج. "الحياة" في 30/3/1998.
5- عن جاد الحاج. المرجع السابق.
6- أنظر ديوان خليل حاوي. دار العودة، بيروت. 1993. ص 140 - 143.
7 - صادرة عن مؤسسة نوفل، بيروت.
8 و9- بيضون. ه 220.. ه 261.
10- راجع: محمد حسن عبد الله. الريف في الرواية العربية. عالم المعرفة، الكويت. 1989.
11- راجع بيضون. الصراع… الجزء الاول.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.