اقتراب موعد الحرب على العراق، مصحوباً بلهفات التطلع الى ما سينجلي عنه اليوم الافتراضي المشهود، هو على الأرجح ما يجعل أخبار الساعة الأخيرة بمثابة حدث يفوق ما عداه وسبقه أنباءً وتدليلاً وأهمية "تاريخية". فالأنظار شخصت الى الخطاب الذي ألقاه وزير الخارجية الاميركي كولن باول في اجتماع مجلس الأمن، والذي قيل فيه حتى قبل ان يُتلى انه سيقدم "مؤشرات" على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، "مؤشرات" لا "قرائن" وأدلة دامغة. ها هنا، نعود الى البيان الذي أصدره "فتيان" أوروبا الثمانية، أي رؤساء السلطة التنفيذية في ثماني دول أوروبية بينهم رئيس جمهورية واحد هو فاكلاف هافل التشيكي، وهو البيان الذي نشرته كبرى الصحف العالمية منذ أيام معدودة، وجاء بمثابة رد على "الصخب" الألماني والفرنسي المتمسك بنزع أسلحة الدمار العراقية بطريقة سلمية، أي من دون حرب اذا أمكن الأمر، وفي اطار الشرعية الدولية واحترام منطقها الاجرائي. صفة "الفتوة" التي ننسبها الى موقف الدول الثماني هذه تأتي، في ما يتعدى السخرية البلاغية، بالقياس على تمثيل المانياوفرنسا، بحسب وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد، وتجسيدهما ربما لروح وعقلية "أوروبا العجوز"، والشمطاء استطراداً على سبيل التضمين. والمقصود بهذه العبارة يتعدى نطاق التشكيك بصوابية الموقف الثنائي الفرنسي - الألماني من المسألة العراقية وتبعاتها وما يقع ويحتجب خلف أكمتها، ليطاول المكانة التي تحسبها الدولتان المذكورتان لوزنهما الاقتصادي والسياسي ولعراقة تجربتهما التاريخية في العلاقات الدولية. بعبارة اخرى، ليس لهاتين الدولتين أي حق في ادعاء صفة ورتبة "المشيخة" في ما يخص الشأن العالمي، ويصبح موقفهما بالتالي، سياسياً هذه المرة، الشق الثاني من تحسب المانياوفرنسا، بل هو انزاح وصار اقرب الى ان يكون في شرق القارة. وقد لا يكون مستغرباً هذا الانزياح الذي يتمناه رامسفيلد اكثر مما يلحظه، ما دامت بولندا، مثلاً، التي تولت منذ 1991 تمثيل المصالح الاميركية في العراق وما دامت الدولة الحديثة العهد بالديموقراطية والليبرالية قد كافأت دخولها الى الاتحاد الأوروبي عن طريق صفقة تجارية - عسكرية لشراء طائرات حربية أميركية. ويدخل في هذا الباب "الشرقي" ايضاً مسلسل الصفقات والمقايضات "السوقية" بين الولاياتالمتحدة وروسيا. من يريد ان يؤرخ، من اليوم، مداخل الحرب العراقية ومخارجها، يجدر به ان لا يدع تصريح رامسفيلد ولا بيان الدول الأوروبية "الفتية" يمران مرور الكرام، خصوصاً ان المانياوفرنسا لجأتا الى تهدئة العاصمة التي سببها تصريح رامسفيلد الناضج بدرجة عالية من الازدراء والاستهزاء بكل ما يخالف مذهبه ومعتقده. البيان الذي أصدره "فتيان" أوروبا الثمانية لا يعترض ولا يتحفظ بالطبع عن توصيفات رامسفيلد، بل هو على العكس يؤكد على وحدة القيم التي تجمع بين الولاياتالمتحدة وأوروبا، وهي قيم تتجسد في الديموقراطية، الحرية الفردية، حقوق الانسان، وسلطة القانون. وقد اظهرت هجمات 11 ايلول سبتمبر، بحسب البيان المذكور، مدى استعداد الارهابيين للذهاب بعيداً في مسعاهم "من اجل تدميرنا. فهذه الفظاعات شكلت هجوماً ضدنا كلنا". والقيم المشتركة المشار اليها يتهددها الخطر اليوم اكثر من أي وقت مضى. لذا يتبين اليوم ايضاً اكثر من أي وقت مضى ان "الرابطة الاطلسية المتعدّية حدود الدول هي ضمانة حريتنا". ولئن استطاعت أوروبا، بفضل شجاعة وسخاء الولاياتالمتحدة وقوة بصيرتها، ان تتحرر من شكلي الطغيان اللذين اكتسحا قارتنا في القرن العشرين أي النازية والشيوعية، فإن "الرابطة الاطلسية لا ينبغي لها ان تتحول الى ضحية لمساعي النظام العراقي الحالي المتكررة لتهديد الأمن العالمي". الى جانب التشديد على أهمية الوحدة والتماسك بين اميركا وأوروبا، يؤكد البيان على ان نجاح "النضال اليومي ضد الارهاب وضد انتشار أسلحة الدمار الشامل، يتطلب تصميماً وعزماً لا شائبة فيهما وتماسكاً دولياً جازماً من قبل كل البلدان التي تعتبر الحرية شيئاً ثميناً". ويجزم البيان بأن النظام العراقي وأسلحة الدمار الشامل يشكلان تهديداً للأمن العالمي فحسب، بل كذلك بأن الأممالمتحدة وقرار مجلس الأمن 1441 يقران بوضوح بوجود هذا الخطر. ومن هنا ضرورة التضامن والتماسك والتصميم من قبل المجموعة الدولية للتخلص من اسلحة صدام حسين، ناهيك عن ان "الالتقاء بين أسلحة الدمار الشامل والارهاب يشكل تهديداً لا تقدر عواقبه". لذا يعتبر البيان ان القرار 1441 هو آخر فرصة متاحة لصدام حسين كي يلقي أسلحته بوسائل سلمية، و"يعود اليه وحده التقاط الفرصة ليتفادى مجابهة اكثر جذرية". على ان مفتشي الأممالمتحدة، يتابع البيان، اكدوا للتو، وللأسف، نزوع صدام حسين الثابت الى "الكذب والإنكار وعدم الخضوع لقرارات الأممالمتحدة". هذا ما ان محمد البرادعي قال في اليوم ذاته كلاماً مخالفاً، اضافة الى ان تقريري المفتشين الدوليين لم يصل الى مثل هذه الاستنتاجات الاخلاقية، بما في ذلك تقرير هانس بليكس على رغم تحفظاته عن درجة تجاوب السلطات العراقية وتعاونها مع المفتشين الدوليين. الى ذلك، يؤكد بيان "الفتيان" على انه ليس لدى أوروبا أي شيء ضد العراقيين، فهؤلاء هم بالفعل الضحايا الأوائل لفظاعة النظام الحالي في العراق. وهذا كلام لم نسمعه ولم نقرأه عندما استخدم صدام حسين اسلحته الكيماوية ضد قوات الجمهورية الاسلامية الايرانية وضد "المواطنين" العراقيين الأكراد في حلبجة. ما علينا، وبعد تأكيد البيان على ان مهمة حكومات بلدان موقعيه هي حماية السلام والأمن العالميين، وان الفشل في هذه المهمة سيكون بمثابة تقصير "حيال مواطنينا بالذات، وحيال العالم"، يفسر التقرير هذا بأنه لا يمكننا ان ندع ديكتاتوراً ينتهك بطريقة منهجية القرارات الدولية. وإذا لم تطبق هذه القرارات فإن مجلس الأمن سيفقد رصيده، ومصداقيته وسيتسبب هذا باعتلال حال السلم في العالم. وفي الختام يشدد "الفتيان" على بقائهم واثقين من ان "مجلس الأمن سيضطلع بمسؤولياته". والعبارة الأخيرة مأخوذة في سياق البيان، تحتمل تفسيراً من طراز: "سنرى ان كانت فرنسا ستجرؤ على استخدام حق النقض الفيتو". يندر ان نقع على بيان أوروبي يفصح الى هذا الحد عن تطابق قراءته مع القراءة الاميركية بطاقمها ودعاتها الحاليين، مما يولّد الانطباع بأن موقّعي البيان ارتضوا لأنفسهم سلوك المريدين واقتدائهم الحرفي، حتى على مستوى العبارات والمفردات، بسلوك ومذهب شيخ الطريقة. ومعلوم ان التقارب الالماني - الفرنسي هو الذي وضع سكة الاتحاد الأوروبي، ليس بوصفها توسيعاً للسوق المشتركة، وتأطيراً اقتصادياً لبلدان القارة فحسب، بل كذلك خصوصاً باعتبارها مادة وقوام جسم سياسي لا يزال قيد الصيرورة. الشيء الاساسي في بيان "الفتيان" هو التأكيد على ان الصفة السياسية للجسم الأوروبي وكيانه، تنعقد حصراً على الرابطة الاطلسية، ولا داعي بالتالي الى الاستقلال بسياسات من شأنها ان تمنح القارة العريقة قدراً من القطبية العالمية بعد نهاية الحرب الباردة. ويوافق البيان على الخلط الاميركي ذي المنحى الأصولي بين قضايا تقع، نظريا وعملياً، على مستويات مختلفة، كما هي حال الخلط بين الارهاب وبين مسائل قابلة للتفاوض السياسي وفي مقدمها المسألة الفلسطينية ومستقبل العراق. وعلى رغم وجود رأي عام مناهض للحرب في بلدان موقعي البيان، فإن هؤلاء يبدون مستعدين للتضحية ببعض مقتضيات الديموقراطية في بلدانهم من أجل ترجيح كفة الرابطة الاطلسية كما يراها اعضاء النادي الاميركي الحاكم الموزعة مصالحهم بين شركات النفط وشركات صناعة الأسلحة، وهي مصالح يستلزم تسويقها الكثير من الجرعات البلاغية ذات الطابع الرؤيوي الخلاصي والرسولي. وما يجري العمل عليه هو تثبيت السوق الحرة، وليس المجتمعات، أفقاً يتلألأ مثل "أرض الميعاد" تحمل نكهة توراتية لأصحاب العقود والصفقات. انهم ثاتشريون متأخرون ومستجعلون في آن معاً. فالسيدة البريطانية التي دشنت، هي وصنوها الاميركي رونالد ريغان، عهد الليبرالية الجديدة، رأت من ذي قبل، حدسيا، بأنه ليس هناك شيء اسمه المجتمع، فهذا من ابتكار وتخيلات علماء الاجتماع. وما يصفه رامسفيلد ويرتضيه من بعده "فتيان" أوروبا الثمانية، انما هو التلهف الى نهاية هذين الارثين الثقيلين والهرمين: المجتمع والتاريخ. فتح الأسواق وتحريرها، اكثر من أي وقت مضى، يتطلب "تذرير" المجتمعات والأمم، إذا هكذا يمكن ان يصير العالم قرية كونية بحيث تساس وتدار شؤونها كما تساس الشركات العولمية. ويتطلب هذا المزيد من التشوق في ما يخص العراق، الى الانفراج والخلاص من دوامة خافقة، حتى وان كان الخلاص أقرب الى ان يكون ضرباً من "الارتياح الجبان والخرع" على ما تقول عبارة فرنسية.