عندما قارن آية الله أحمد جنتي رئيس مجلس صيانة الدستور وأحد الاركان البارزة في الجناح المحافظ من على منبر صلاة الجمعة بين التجربة الايرانية وتجربة حركة "طالبان" في افغانستان بعد احداث 11 أيلول سبتمبر، وأشار الى الانجاز الذي حققته هذه الحركة في تطبيق الاحكام الشرعية الاسلامية من دون الحاجة الى الديمقراطية او الحريات، لأن روح النظام الاسلامي وحكمه تتعارض مع هذه المفاهيم، لم يطل الوقت قبل الرد الذي جاء على لسان رئيس الجمهورية محمد خاتمي، الذي بدا مستثاراً من هذا الكلام، لأنه ينال من مشروعه الفكري والسياسي مباشرة، فقال: "لا نريد طالبان ولا إسلامهم". ولما كان خاتمي غير قادر على الافصاح مباشرة عن ابعاد مشروعه الفكري والسياسي الديموقراطي التي تصل حد القول بفصل الدين عن الدولة والتي شكلت موضوعاً للتهجم عليه من الطبقة الدينية، فإنه لجأ الى المواربة في التعبير عن هذه الفكرة التي اوجد لها مرشد الثورة آية الله السيد علي الخامنئي مخرج "الديموقراطية الدينية"، على غرار المخرج المؤسس الذي رافق انتصار الثورة بين الجمهورية والاسلامية. ولا شك في ان هذه التخريجات تعبر عن عمق الصراع بين الساحتين السياسية والدينية، او بتعبير ادق بين طهران العاصمة السياسية ومدينة قم العاصمة الروحية اذا جاز التعبير، والاثر الكبير الذي تتركه هذه الاخيرة في مجريات اللعبة السياسية. اذ ان وقع خطى خاتمي في طهران يتردد صداه في ازقة قم التي تعارض أي شكل من اشكال الديموقراطية باعتبارها مفهوماً غربياً. هذه الجدلية والمفاعيل التي تولدها لدى اصحاب القرار في طهران فضلاً عن التيارين الاصلاحي والمحافظ، والتي تزيد من الخوف من ان تعمد جهات في الحوزة العلمية الى خلق عراقيل امام استقرار النظام في نسج علاقاته الدولية الداخلية، ربما كانت احد الاسباب التي دفعت المحافظين، في المرحلة الاخيرة، للتمهيد الاعلامي والسياسي لرفع الاقامة الجبرية عن الشيخ حسين علي منتظري، بعدما ادركوا ان وضعه في الاقامة الجبرية يتجاوز الرؤية المبسطة ويرتبط بالأبعاد الاستراتيجية للنظام وشرعيته الدينية. ويرى قريبون من منتظري ان المرحلة السياسية المقبلة تحمل مؤشرات على افتراق بين التيار السياسي المحافظ والطبقة الدينية المتشددة في قم، على خلفية الاختلاف حول الكثير من التوجهات السياسية، لعل اهمها المسألة الديمقراطية، وربما هذا ما دفع الى قرار رفع الاقامة الجبرية عنه انطلاقاً من ان المحافظين سيواجهون حاجة ملحة لمن يتصدى للآراء المعارضة في الحوزة على ان تكون من داخلهم وتتكلم باللغة نفسها. واذا صح هذا التقدير، فإن الافراج عن منتظري من دون أي شرط ومن دون أي التزام او تعهد من جانبه، يكون اتى بناء على حاجة لدى التيار المحافظ الذي يعرف مدى العناد الذي يتميز به منتظري وتصلبه في الدفاع عن آرائه الفقهية والسياسية، ولعل ابرزها تحديد صلاحيات الولي الفقيه الدستورية، وتحويل هذا الموقع الى مجرد الاكتفاء بدور الارشاد الديني والاخلاقي من خارج دائرة السلطة والتحكم بمفاصلها. ولعل هذا ما يفسر أبعاد المخاوف القمية التي تجسدت بتوقيع علماء الحوزة عريضة طالبوا فيها مجلس الامن القومي بضمان ألا يتحول منتظري الى وسيلة يستغلها اصحاب الفتن. منتظري والإصلاحات ويرى مراقبون ان الافراج عن الشيخ منتظري يشكل انتصاراً يسجل في خانة الاصلاحيين في هذه المرحلة من تاريخ ايران السياسي، على رغم ان آلياته جاءت من خارجهم، وبداية حقيقية للحركة الاصلاحية وسيطرتها على مفاصل السلطة في النظام والدولة، والتي بدأت تداعياتها عملياً بعد مجيء برلمان بأكثرية اصلاحية. ويعتبر هؤلاء ان المرحلة المقبلة قد تعطي الاصلاحيين الفرصة لتثمير الاخطاء التي ارتكبها التيار المحافظ في حق رموزهم وتوظيفها في بلورة مشروع جديد وأكثر فاعلية في المستقبل. فالتيار الاصلاحي المرتبك بسبب الهواجس التي تسيطر عليه من جراء التفكير في مستقبل مشروعه السياسي ومرحلة ما بعد خاتمي، كان ولا يزال يعاني ضعف ادواته في صراعه مع المحافظين، ويفتقر الى غطاء ديني - مرجعي صاحب تاريخ نضالي في الثورة وتأثير في الساحة الدينية والسياسية، فضلاً عن انه يرى مدى الضعف في اداء خاتمي داخل السلطة، ويخشى انسحاب هذا الضعف على ادائه خارجها، ما قد يشكل وهناً في المواجهة مع المحافظين، خصوصاً ان الرئيس المقبل الذي يعتقدون انه سيكون اصلاحياً سيعتمد في قوته الشعبية على رصيد الرئيس الحالي. ومنتظري العائد الى دائرة الضوء وإن لم يغب عنها تماماً لن يلتزم الصمت، اذ ليس لديه الكثير ليخسره بعد ما تعرض له من اقصاء عن منصب نائب قائد الثورة، لذلك سيسعى الى الافادة مما تبقى له من فرصة في العمر ليبدأ معركته السياسية في هامش خاص، لا يبتعد من الاصلاحيين، بل يتحرك في خط مواز لهم، من دون الاثقال على رموزهم. وعليه يكون في مقدوره ان يوفر الغطاء لهم لبلورة مشروعهم المقبل الذي يلتقي مع رؤيته التي تتلخص في الضرب على وتر اخراج ولاية الفقيه من دائرة السلطة وتحويلها الى سلطة اجتماعية مدنية تكتفي بالنقد والارشاد والنصيحة في ما يشبه انظمة الملكيات الدستورية، وبالتالي ترسيخ مبدأ فصل السلطات. وقد لا يكون قرار رفع الاقامة الجبرية عن منتظري بعيداً من التوجه الذي بدأ يظهر في مواقف خامنئي والذي يشير الى ظهور مسافة بينه وبين المتشددين من التيار المحافظ بسبب تفاعلات ملف الاستاذ الجامعي الاصلاحي هاشم آقاجري وعدم تجاوب السلطة القضائية الخاضعة لسلطة المرشد مع طلبه اعادة النظر في حكم الاعدام. ويسود الاعتقاد ان الافراج عن منتظري سيقوّي شوكة الاصلاحيين ويسمح لهم بإعادة ترتيب اولوياتهم في المعركة مع رموز النظام. ويتوقع ان يعاد فتح ملف الصراع بين الاصلاحيين والرئيس السابق هاشمي رفسنجاني لاستكمال التخلص من الموالين له داخل الدولة ومؤسساتها، ولن يكون ذلك بعيداً من التناغم غير المعلن مع المحافظين الذين اعادوا فتح ملف الفساد الاقتصادي الذي يطاول افراد عائلة رفسنجاني في وقت يستعد الاخير للانسحاب من الساحة السياسية المباشرة، بعدما كان قبل مدة قصيرة يمتلك اكثر مفاصل القرار السياسي في يده. لكن السؤال يبقى، انه اذا كانت الآمال المعقودة لدى الاصلاحيين على منتظري بهذه الاهمية، فهل سيكونون قادرين على المبادرة وتجاوز سياسات رد الفعل في وجه المحافظين، أم يصابون بانتكاسة أخرى تضاف الى انتكاساتهم ولا تقتصر آثارها عليهم، بل تطاول أيضاً الشيخ العائد، وبالتالي يكون المحافظون تمكنوا من اسقاط ورقة منتظري نهائياً من المعادلة السياسية بعدما كانت تشكل مدخلاً لضغوط داخلية ودولية محرجة؟