تصدر خلال أيام رواية جديدة للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي عنوانها "عابر سرير" عن دار أسستها حديثاً وتحمل اسمها "منشورات أحلام مستغانمي". والرواية هي الثالثة للكاتبة بعد "ذاكرة الجسد" 1993، و"فوضى الحواس" 1998، وتشكل كلها ثلاثية روائية. هنا جزء من الفصل الأول من الرواية. كنا مساء اللهفة الأولى، عاشقين في ضيافة المطر، رتّبت لهما المصادفة موعداً خارج المدن العربية للخوف. نسينا لليلة ان نكون على حذر، ظناً منا ان باريس تمتهن حراسة العشاق. إن حباً عاش تحت رحمة القتلة، لا بد من ان يحتمي خلف اول متراس متاح للبهجة. أكنّا إذاً نتمرّن رقصاً على منصّة السعادة، أثناء اعتقادنا ان الفرح فعل مقاومة؟ ام ان بعض الحزن من لوازم العشاق؟ في مساء الولع العائد مخضّباً بالشجن، يصبح همّك كيف تفكك لغم الحب بعد عامين من الغياب، وتعطّل فتيله الموقوت، من دون ان تتشظى بوحاً. بعنف معانقة بعد فراق، تودّ لو قلت: "أحبّك" كما لو تقول: "ما زلت مريضاً بك". تريد ان تقول كلمات متعذّرة اللفظ، كعواطف تترفّع عن التعبير، كمرض عصيّ على التشخيص. تودّ لو استطعت البكاء. لا لأنك في بيته، لا لأنكما معاً، لا لأنها اخيراً جاءت، لا لأنك تعيس ولا لكونك سعيداً، بل لجمالية البكاء امام شيء فاتن لن يتكرر كمصادفة. التاسعة والربع، وأعقاب سجائر. وقبل سيجارة من ضحكتها الماطرة التي رطّبت كبريت حزنك. كنت ستسألها، كيف ثغرها في غيابك بلغ سنّ الرشد؟ وبُعيد قُبلة لم تقع، كنت ستستفسر: ماذا فعلْتَ بشفتيها في غيبتك؟ من رأيت عيناها؟ لمن تعرّى صوتها؟ لمن قالت كلاماً كان لك؟ هذه المرأة التي على إيقاع الدفوف القسنطينية، تطارحك الرقص كما لو كانت تطارحك البكاء. ما الذي يدوزن وقع أقدامها، لتُحدث هذا الاضطراب الكوني من حولك؟ كل ذاك المطر. وأنت عند قدميها ترتّل صلوات الاستسقاء. تشعر بانتمائك الى كل أنواع الغيوم. الى كل احزاب البكاء، الى كل الدموع المنهطلة بسبب النساء. هي هنا. وماذا تفعل بكل هذا الشجن؟ أنت الرجل الذي لا يبكي بل يدمع، لا يرقص بل يطرب، لا يغنّي بل يشجى. امام كل هذا الزخم العاطفي، لا ينتابك غير هاجس التفاصيل، متربّصاً دوماً برواية. تبحث عن الأمان في الكتابة؟ يا للغباء! ألأنك هنا، لا وطن لك ولا بيت، قررت ان تصبح من نزلاء الرواية، ذاهباً الى الكتابة، كما يذهب آخرون الى الرقص، كما يذهب الكثيرون الى النساء، كما يذهب الأغبياء الى حتفهم؟ أتُتنازل الموت في كتاب؟ ام تحتمي من الموت بقلم؟ كنا في غرفة الجلوس متقابلين، على مرمى خدعة من المخدع. عاجزين على انتزاع فتيل قنبلة الغيرة تحت سرير صار لغيرنا. لموعدنا هذا، كانت تلزمنا مناطق منزوعة الذكريات، مجرّدة من مؤامرة الأشياء علينا، بعيدة عن كمين الذاكرة. فلماذا جئت بها الى هذا البيت بالذات، إذا كنت تخاف ان يتسرّب الحزن الى قدميها؟ ذلك ان بي شغفاً الى قدميها. وهذه حال جديدة في الحب. فقبلها لم يحدث ان تعلّقت بأقدام النساء. هي ما تعوّدت ان تخلع الكعب العالي لضحكتها، لحظة تمشي على حزن رجل. لكنها انحنت ببطء انثوي، كما تنحني زنبقة برأسها، ومن دون ان تخلع صمتها، خلعت ما علق بنعليها من دمي، وراحت تواصل الرقص حافية مني. اكانت تعي وقع انحنائها الجميل على خساراتي، وغواية قدميها عندما تخلعان او تنتعلان قلب رجل؟ شيء ما فيها، كان يذكّرني بمشهد "ريتا هاورث" في ذلك الزمن الجميل للسينما، وهي تخلع قفّازيها السوداوين الطويلين من الساتان إصبعاً إصبعاً، بذلك البطء المتعمّد، فتدوِّخ كل رجال العالم من دون ان تكون قد خلعت شيئاً. هل من هنا جاء شغف المبدعين بتفاصيل النساء؟ ولذا مات بوشكين في نزال غبيّ دفاعاً عن شرف قدمي زوجة لم تكن تقرأه. في حضرتها كان الحزن يبدو جميلاً. وكنت لجماليته، أريد ان أحتفظ بتفاصيله متقدة في ذاكرتي، أمعن النظر الى تلك الأنثى التي ترقص على أنغام الرغبة، كما على خِوان المنتصرين، حافية من الرحمة بينما اتوسّد خسارات عمري عند قدميها. هي ذي، كما الحياة جاءت، مباغتة كل التوقعات، لكأنها تذهب الى كل حب حافية مبللة القدمين دوماً، لكأنها خارجة لتوها من بركة الخطايا او ذاهبة صوبها. اشتقتها! كم اشتقتها، هذه المرأة التي لم أعد أعرف قرابتي بها، فأصبحت أنتسب الى قدميها. هي ذي. وأنا خائف، إن أطلت النظر الى العرق اللامع على عري ظهرها، ان يصعقني تيار الأنوثة. هي اشهى، هكذا. كامرأة تمضي موليةً ظهرها، تمنحك فرصة تصورها، تتركك مشتعلاً بمسافة مستحيلها. انا الرجل الذي يحب مطاردة شذى عابرة سبيل، تمر من دون ان تلتفت. تميتني امرأة تحتضنها اوهامي من الخلف. ولهذا اقتنيت لها هذا الفستان الأسود من الموسلين، بسبب شهقة الفتحة التي تعرّي ظهره، وتسمّرني امام مساحة يطل منها ضوء عتمتها. أو ربما اقتنيته بسبب تلك الإهانة المستترة التي اشتممتها من جواب بائعة، لم تكن تصدّق تماماً أن بإمكان عربي ذي مظهر لا تفوح منه رائحة النفط، ان ينتمي الى فحش عالم الاقتناء. كنت أتجوّل مشياً، قادماً من الأوبرا، عندما قادتني قدماي الى "فوبور سانت اونوريه". ما احتطت من شارع تقف على جانبيه سيارات فخمة في انتظار نساء محمّلات بأكياس فائقة التميّز، ولا توجّست من محلات لا تضع في واجهاتها سوى ثوب واحد او ثوبين. لم أكن اعرف ذلك الحي، أصلاً. عرفت اسم الحيّ في ما بعد، عندما امدتني البائعة ببطاقة عليها العربون الذي دفعته لأحجز به ذلك الثوب. بتلك الأنفة المشوبة بالجنون، بمنطق "النيف" الجزائري تشتري فستان سهرة يعادل ثمنه معاشك في الجزائر لشهور عدة، انت الذي تضنّ على نفسك بالأقل. أفعلت ذلك رغبة منك في تبذير مال تلك الجائزة التي حصلت عليها، كما لتنجو من لعنة؟ ام لتثبت للحب انك الأكثر سخاء منه؟ ان تشتري فستان سهرة لامرأة لم تعد تتوقع عودتها، ولا تعرف في غيابك ماذا فعل الزمن بقياساتها، أهي رشوة منك للقدر؟ أم معابثة منك للذاكرة؟ فأنت تدري ان هذا الفستان الذي بنيت عليه قصة من الموسلين لم يوجد يوماً، ولكن الأسود يصلح ذريعة لكل شيء. ولذا هو لون اساسي في كل خدعة. أذكر يوم صادفتها في ذلك المقهى، منذ اكثر من سنتين، لم أجد سوى ذريعة من الموسلين لمبادرتها، سائلاً إن كانت هي التي رأيتها مرة في حفل زفاف، مرتدية ثوباً طويلاً من الموسلين الأسود. ارتبكت. أظنها كانت ستقول: "لا" ولكنها قالت: "ربما". أحرجها ان تقول "نعم". في الواقع، لم نكن التقينا بعد. لكنني كنت أحب ان أختلق، مع امرأة، ذكريات ماض لم يكن. أحبّ كلّ ذاكرة لا منطق لها. بدأنا منذ تلك اللحظة نفصّل قصّة على قياس ثوب لم يوجد يوماً في خزانتها. عندما استوقفني ذلك الفستان قبل شهرين في واجهة محل، شعرت انني أعرفه. احببت انسيابه العاطفي. لكأنّه كان يطالب بجسدها ان يرتديه، أو كأنه حدث لها ان ارتدته في سهرة ما، ثم علّقته على "الجسد المشجب" لامرأة اخرى، ريثما تعود. عندما دخلت المحل، كنت مرتبكاً كرجل ضائع بين ملابس النساء. فأجبت بأجوبة غبية عن الأسئلة البديهية لتلك البائعة المفرطة في الأناقة قدر فرطها في التشكك بنيتي. Dans quelle taille voulez- vous cette robe Monsieur? كيف لي أن أعرف قياس امرأة ما سبرت جسدها يوماً إلا بشفاه اللهفة؟ امرأة أقيس اهتزازاتها بمعيار ريختر الشبقيّ. أعرف الطبقات السفلية لشهواتها. أعرف في اي عصر تراكمت حفريات رغباتها، وفي اي زمن جيولوجي استدار حزام زلازلها، وعلى أي عمق تكمن مياه انوثتها الجوفية. أعرف كل هذا... ولم أعد، منذ سنتين، أعرف قياس ثوبها. لم تفاجأ البائعة كثيراً بأمِّيتي، أو ألاّ يكون ثمن ذلك الثوب في حوزتي. فلم يكن في هيئتي ما يوحي بمعرفتي بشؤون النساء، ولا بقدرتي على دفع ذلك المبلغ. غير انها فوجئت بثقافتي عندما تعمّدت ان اقول لها إنني غير معني باسم مصمم هذا الفستان، بقدر ما يعنيني تواضعه امام اللون الأسود، حتى لكأنه ترك لهذا اللون ان يوقّع الثوب نيابة عنه، في مكمن الضوء، وأنني أشتري ضوء ظهرٍ عارٍ بثمن فستان! قالت كمن يستدرك: - أنت رجل ذواقة. ولأنني لم أصدّق مديحها، لاقتناعي ان الذوق لمثلها يرقى وينحطّ بفراغ محفظة نقود وامتلائها، قلت: - هي ليست قضية ذوق، بل قضية ضوء، المهم ليس الشيء بل إسقاطات الضوء عليه. سالفادور دالي احب Gala وقرر خطفها من زوجها الشاعر بول ايلوار لحظة رؤيته ظهرها العاري في البحر صيف 1949. سألتني مندهشة لحديث لم يعوّدها عليه زبائن، شراء مثل هذا الثوب ليس حدثاً في موازنتهم. - هل انت رسّام؟ كدت أجيب: "بل انا عاشق". لكنني قلت: - لا... أنا مصوّر. وكان يمكن ان أضيف أنني مصوّر "كبير"، ما دمت موجوداً في باريس لحصولي على جائزة احسن صورة صحافية عامئذ. فلم يكن في تلك الصورة التي نلتها مناصفة مع الموت، ما يغري فضول امرأة مثلها. ولذا هي لن تفهم ان يكون هذا الثوب الأسود هو احد الاستثمارات العاطفية التي احببت ان أنفق عليها ما حصلت عليه من تلك المكافأة. من قال إن الأقدار ستأتي بها حتى باريس، وإنني سأراه يرتديها؟