لو قلت ان السيد عمرو موسى قضى أيامه في دافوس غاضباً لنفى ذلك رسمياً، لذلك أكتفي بالقول انه نهض للردّ على الاسرائىليين واليهود الأميركيين من أنصارهم بصوت عال. عمرو موسى قال لي: يجب ان يفهم هؤلاء الناس ان السلام مع مصر لا يكفي. السلام مع سورية ولبنان لا يكفي. السلام لن يتحقق إلا بقيام دولة فلسطينية حقيقية فتصفو نفوس العرب وينجلي الجو لإسرائيل. لم يكن وصفي الأمين العام لجامعة الدول العربية من وحي هذا العام، بل هو منشور في هذه الزاوية في الرابع من شباط فبراير السنة ألفين، أي قبل ثلاث سنوات تماماً، عندما كان عمرو موسى وزير خارجية مصر. وثمة أسباب أكثر لغضب الأمين العام هذه السنة، فقد زاد وضع العراق على القضية الفلسطينية، وتكسّرت النصال على النصال. قبل سنتين، وفي مطلع هذا الشهر أيضاً، كتبت محتجاً على خطاب ناري ألقاه أبو عمار في جلسة عن فلسطين موضوعها "من صنع السلام الى بناء السلام". وكان يفترض ان يلقي أبو عمار كلمته ويتبعه شمعون بيريز، وان يعلّق على كلامهما السيد موسى والبروفسور كلاوس سُواب، رئيس المنتدى. الاّ ان أبو عمار لم يجد خطابه، فبدأ بيريز بخطاب مهادن، وتبعه أبو عمار بعد ان وصل من سلّمه الخطاب، وفاجأ الجميع. وكتبت ذلك اليوم "... وما أعرف يجعلني أجزم بأن ايهود باراك رئيساً للوزراء أفضل من آرييل شارون للفلسطينيين وللاسرائيليين أنفسهم. ولا يعني هذا الكلام انه فاضل وإنما انه أفضل، بعد ان أسفر تردد باراك وتراجعه عن وقوعه في المأزق الذي يجد نفسه فيه اليوم وزعيم ليكود متقدّم عليه بفارق 20 نقطة في كل استفتاء منذ أسابيع". قبل سنتين كان السلام في متناول اليد، وقد كتبت كيف وصل كبير المفاوضين الفلسطينيين الدكتور صائب عريقات من طابا وهو يحمل خرائط عن القدس تظهر ممراً يسلكه اليهود من حائط المبكى الى القدس الغربية. غير ان شارون انتصر في تلك الانتخابات ودمّر العملية السلمية، وانتصر مرّة أخرى بعد سنتين ليقضي على ما تبقى من آمال السلام. الوجود الفلسطيني في دافوس تراجع مع السلام، غير ان السيد سلام فياض، وزير الماليةالفلسطيني، مثل حضوراً نوعياً، فهو يحظى بثقة الأميركيين والأوروبيين، ومعهم الفلسطينيون، بل ان الاسرائيليين لا يعترضون عليه. وهو قدّم أكثر الميزانيات شفافية في الشرق الأوسط كلّه. وسمعته في دافوس يتحدث عن نظام مالي مفتوح، ومحاسبة كاملة، وتجميع استثمارات السلطة الوطنية كلها تحت مظلّة وزارته. وهو تحدث بتفصيل عن صندوق الاستثمار الفلسطيني الذي يرأسه، ووجدت من أسماء الأعضاء الآخرين الذين أعرف ما يوحي بالثقة فعلاً، فقد كان هناك صبيح المصري نائباً للرئيس، وماهر المصري، وزير الاقتصاد والصناعة والتجارة، عضواً، والسيد محمد رشيد مديراً عاماً للصندوق، والسيد سامر خوري عضواً. كان هناك عضوان آخران هما طارق ناصر الدين وعزام الشوا، الا انني لا أعرفهما شخصياً. وكالعادة، فقد كنت اذا ضيّعت مندوباً عربياً أذهب الى بار مفتوح هو الوحيد المسموح بالتدخين حوله، وأجد الاخوان عند زاوية منه. ولم يختلف السيد سلام فياض ومرافقوه عن البقية، فكلهم من غزية، ان غوت، وان دخّنت. كالعادة أيضاً، كان هناك شمعون بيريز، الذي بت مقتنعاً بأنه من آثار دافوس، كما ان الأعمدة الرومانية من آثار بعلبك، الا انني تجنّبته كالزكام، وبقيت ضمن الوفود العربية التي كان أكبرها في رفقة الملك عبدالله والملكة رانيا اللذين أشرت الى نشاطهما المتميّز قبل يومين. وبالتأكيد فأفضل ما في دافوس الجلسات مع الأصدقاء، وقد كان هناك كثيرون منهم، مثل وزير الخارجية الأردني مروان المعشر ووزير التخطيط باسم عوض الله، والصديق العزيز عقل البلتاجي وغيرهم. ولا أريد أن أعود هنا الى تسجيل أسماء الأصدقاء، فأكثرهم يعود سنة بعد سنة، وقد تحدثت عنهم في السنوات السابقة. غير انني أقول صادقاً انهم من أرفع مستوى معرفة وأخلاقاً، وكل منهم ندّ لأهم المشاركين من "الخواجات" ما يجعلني أسأل لماذا نحن متخلفون عن الركب، ولدينا مثل هذه الكفاءات من الرجال والنساء. هذه المرّة غاب الشيخ محمد بن راشد، ولي عهد دبي، في آخر لحظة لأسباب قاهرة، ولكن حضر الشيخ حمد بن جاسم بن جبر، وزير خارجية قطر، مرّة أخرى، وهو بحر أخبار ومعلومات، خصوصاً عن الحرب المقبلة على العراق. وجلست معه في المساء زهاء ساعة، ثم ذهب لعشاء مع وزير الخارجية الأميركي كولن باول، وذهبت الى عشاء مع النساء العربيات، حضرت جزءاً منه وأكملت بعشاء مغربي في ضيافة الصديق أندريه ازولاي، المستشار الاقتصادي للملك محمد السادس. في دافوس هذه السنة طغت أخبار العراق على أخبار فلسطين، ولعلّ هذا هو المقصود. واذا وقعت حرب وفتحت أبواب جهنّم على العراق، فمن هو البلد العربي التالي الذي سيشغلوننا بأخباره السنة المقبلة حتى لا نفكّر في ما يجري للعراق، كما أشغلنا بأخبار العراق عن فلسطين هذه السنة.