استمع الآن، وأنا أكتب هذه الكلمة، إلى اغنية "الجاريات العربيات الثلاث" بصيغتها الاسبانية بعدما انتقلت إلى اسبانيا من بغداد منذ أيام هارون الرشيد، على عهدة المستشرق الاسباني خوليان ريبيرا، لكنها تحورت شعراً وموسيقى، ولم يكد يبقى من لحنها الأصلي سوى سراب لحنٍ عربي، مع ضربات على الدربكة بمصاحبة عزف على آلة أشبه بالربابة، وأمامي النوطة "المهرمنة" للحنها على يد الشاعر الاسباني المعروف فدريكو غارسيا لوركا. تقول كلمات الأغنية: "أنا متيم في حب ثلاث عربيات من حيّان قرب غرناطة عائشة وفاطمة ومريم ثلاث عربيات فاتنات كُنَّ في طريقهن لجني الزيتونة فوجدنها مجتناة... الخ". هذه الأغنية كانت من بين اهتمامات لوركا الموسيقية عندما تعاون مع الموسيقي الاسباني المعروف مانويل دي فايا، في البحث عن جذور الموسيقى الأندلسية. وكان لوركا موسيقياً موهوباً، يجيد العزف على البيانو وله مؤلفات موسيقية هي بين مقطوعات مؤلفة لآلة البيانو وأغنيات تؤدى بمصاحبة البيانو، وأغاني المجموعة أو الجوقة وغير ذلك. ويؤثر أن لوركا وُلد "موسيقياً"، أي حُبي الموهبة الموسيقية منذ ولادته. فقد قيل إنه كان يدندن بألحان موسيقية قبل أن يتعلم النطق. وهذا يعني أن لوركا ينتمي إلى رعيل الأطفال الموهوبين موسيقياً منذ ولادتهم، أو الأطفال المعجزة، مثل موتسارت. وقارئ سيرة حياة لوركا قد يخلص إلى نتيجة، مثلي، بأنه ربما كان خيراً له أن ينصرف إلى الموسيقى بكليته، لا أن يوزع مؤهلاته بين الشعر والمسرح والموسيقى وحتى الرسم، لأن مواهبه الموسيقية كانت واعدة جداً وتؤهله لأن يصبح في عداد الموسيقيين اللامعين في وطنه والعالم، من أمثال مانويل دي فايا وألبينيز. ولربما كان من شأن الموسيقى أن تكون عاصماً له من ميتته الفاجعة في مطلع الحرب الأهلية الاسبانية عام 1936، مثلما كانت عاصماً لأستاذه وصديقه الموسيقي الاسباني اللامع مانويل دي فايا. فالموسيقى، حتى في منحاها "الثوري" أو "الايديولوجي"، إذا صح مثل هذا التوصيف، في وسعها أن تضلل الرقابة وتعصم مؤلفها من أيما مساءلة أو محاكمة، مثلما كان الكتّاب في أيام بيتهوفن يغبطونه لأنه يستطيع أن يتملص من الرقابة. لكن "سوء" حظ لوركا أنه كان شاعراً موهوباً أيضاً، أو مطبوعاً، كما نقول نحن بلغتنا العربية. وكان لشعره سحر خاص أيضاً في اللغة الاسبانية، بما في ذلك أهازيجه التي كان يلهج بها الأطفال. بيد أن هناك دلائل وشواهد كثيرة تؤكد أيضاً مؤهلاته الموسيقية العالية. وأصبحت الموسيقى لغته، وحاول أن يحاكي بيتهوفن، الذي تتجلى عبقريته، كما يقول، بترجمة حياته إلى لغة الموسيقى والتعبير من خلال الصوت عن "الأغنية الأليمة للحب المستحيل". وفي الثامنة عشرة من عمره بدأ لوركا بتأليف الموسيقى، وكانت مؤلفاته الأولى من وحي غرناطة، وقد وضع لإحدى هذه المقطوعات العنوان الآتي: "سرينادار" Serenade لقصر الحمراء. السريناد: لحن يُعزف أو يُغنى ليلاً في الهواء الطلق، وبخاصة من جانب عاشق تحت نافذة محبوبته. وفي عام 1920 انتقل الموسيقي مانويل دي فايا من مسكنه في شمال اسبانيا مع شقيقته إلى غرناطة، وأقام في منزل صغير على أحد سفوح الحمراء. وسرعان ما تعرف إليه لوركا، وأصبح فايا بالنسبة الى لوركا بمثابة قديس، فضلاً عن استاذيته. وكان يجمعهما حبهما المشترك للتراث الموسيقي الفولكلوري الأندلسي، وكان لوركا يزوره مراراً في منزله الصغير هذا ويتحدثان عن مشاريع مشتركة لإحياء موسيقى الغجر الأندلسية. ومع أن لوركا كان لا يزال شاباً في الثالثة والعشرين، ودي فايا كهلاً ضعف عمره، ومع أن هذا الأخير أصبح الآن واحداً من الموسيقيين العالميين اللامعين، إلا أن هذه الصحبة أو الشراكة لم تكن غير متكافئة. فمنذ اللحظات الأولى التي عزف فيها لوركا أمام مانويل دي فايا مقطوعة لويبوسي، أدرك هذا الأخير أنه أمام فنان يمكن أن يكون نداً له في حبه للموسيقى وقدراته على الابداع، لهذا أصبح لوركا ملازماً لبيت الموسيقي دي فايا. وبعد قيام الحكم الجمهوري الثاني في اسبانيا في 1931، أعلن لوركا عن استعداده للمساهمة في الخدمة العامة، وتطوع لتدريس الموسيقى وتأسيس فرقة موسيقية للشباب وتعاون مع صديقه اينكارناسيون لوبيز ومغنية السوبرانو والراقصة الشهيرة "لا أرجنتنتا". وسجل مع هذه المغنية سلسلة من الأغاني الشعبية الاسبانية التي كان لوركا مهتماً بها منذ صغره. وعلى رغم خلافاته مع صديقه الشاعر الشيوعي المعروف روفائيل ألبرتي كان لوركا يرى أن ألبرتي يسم شعره بصبغة سياسية مبالغ فيها، إلا أن لوركا وافق في عام 1933 على المشاركة معه في أمسية مكرسة للأغاني والرقص الأندلسيين. ففي المانيا كان ألبرتي ألقى محاضرة عن "الشعر الشعبي في التراث الاسباني"، ثم طُلب منه أن يعيد إلقاء هذه المحاضرة في مدريد في "تياترو اسبانيول"، فدعا لوركا لمصاحبته على البيانو. وشاركهما في الأداء صديقا لوركا المقربان اينكارناسيون لوبيز و"لا أرجنتنتا" لعل اسم هذه المغنية يقابل في العربية اسم جُمانة، ويعني فضة. ومن المعروف أن مسرحيات لوركا كانت تُوشح أيضاً بالموسيقى، عزفاً وغناء لا سيما غناء المجموعة. فالمشاهد الحساسة في مسرحية "عرس الدم"، مثلاً، تسهم الموسيقى في أدائها. وتُذكر هذه المسرحية ب"كانتاتا" لباخ، كان لوركا يستمع إليها كثيراً في أثناء تأليفها. وهناك مقاطع في هذه المسرحية جاءت على غرار الآريا استطرادات غنائية يُخصص أداؤها لمغنٍ واحد أو مغنية في الأوبرا، وغناء المجموعة والإلقاء الملحون Recitative وللموسيقى حضور مهم أيضاً في معظم مسرحيات لوركا الأخرى. وفي زيارته للأرجنتين التي دامت أشهراً عدة، تحدث لوركا في مناسبات كثيرة عن الموسيقى. كان يشبّه الأغنيات بالكائنات الحية، كائنات رهيفة ينبغي التعامل معها برقة. يقصد بذلك بذل المزيد من العناية في ضبط ايقاعاتها. وكان يعزف للأصدقاء على البيانو في غير مناسبة، مثيراً عندهم الدهشة لقدرته المذهلة في التحكم بهذه الآلة. وعندما ذكّره أحد هؤلاء الأصدقاء بأنه يستعيد اهتمامه بالموسيقى التي تركها منذ سني مراهقته، أمسك لوركا بكتفه وأكد قائلاً: "ما أدراك، لعلك على صواب". وفي حوار مع نيرودا في بوينس آيرس، اعترف قائلاً: "أنا موسيقيّ في المقام الأول". وعندما أحكمت القوات الموالية للجنرال فرانكو سيطرتها على غرناطة في بداية الحرب الأهلية الاسبانية، اتصل لوركا هاتفياً بصديقه لويس روزالسن يلتمس منه العون لدرء أي خطر عنه. وروزالسن شاعر ودارس فلسفة، كان اخوته الثلاثة اعضاء متطرفين في حزب الكتائب، وبإلحاح منهم التحق هو بالحزب أيضاً، مع أنه يعتبر نفسه كائناً لا سياسياً وهو يصغر لوركا بإثنتي عشرة سنة، وكان معجباً بشعر لوركا، ويعتبر نفسه من مريديه. فدعاه لويس إلى منزل لوركا وطرح عليه ثلاثة خيارات: أولها، الهرب إلى المنطقة التي يسيطر عليها الجمهوريون، وهي فكرة أيدها دون فدريكو والد لوركا، بيد أن لوركا رفضها، ربما خوفاً من المجازفة: "كان مرتعباً من فكرة أن يبقى وحيداً في أرض لا تعود إلى أحد بين المنطقتين". كما قال لويس روزالسن في ما بعد. وثاني الخيارات هو أن ينتقل لوركا في صورة موقتة إلى منزل الموسيقي مانويل دي فايا القريب منه، ذلك أنّ تقوى هذا الموسيقي الكاثوليكية كانت معروفة لدى الكتائب، وبذلك قد يضمن لوركا ضرباً من الحماية. أو كان في وسع لوركا، كخيار ثالث، اللجوء إلى منزل صديقه لويس روزالسن في مركز غرناطة. فرأى لوركا وعائلته ان هذا الخيار الأخير قد يكون أكثرها مدعاة للاطمئنان. بيد ان هذا الملجأ لم يدرأ الموت عن لوركا على رغم أن مضيفيه أحسنوا وفادته وبذلوا جهودهم لإنقاذه، لكن من دون أن يُستجاب اليهم. وأغلب الظن أن لوركا لم يكن لينجو بجلده، أيضاً، لو التجأ إلى منزل صديقه وأساتذه مانويل دي فايا، لأن العمى الأيديولوجي والسياسي كان أقوى من الموسيقى، ومن أي اعتبار ثقافي أو إنساني، ثم اننا قرأنا في رواية "هيجان" التي تروي قصة مقتل لوركا، كيف أن دي فايا واجه المسؤولين عن اختطافه في محاولة لإنقاذ حياته، بيد أن هؤلاء المسؤولين لم يستجيبوا لالتماس هذا الموسيقي الكبير الذي لم تعرف اسبانيا موسيقياً ألمع منه. ولعل خيار المجازفة بالهرب إلى المنطقة التي يسيطر عليها الجمهوريون كان فرصة لوركا الوحيدة للنجاة. أو لعل خياراً آخر، أقدم من هذه جميعاً، كان في الأساس يمكن أن يكون عاصماً للوركا في مصيره الفاجع، هو الاستجابة إلى نداء الموسيقى وحدها، والابتعاد من عالم الشعر، الذي يتعامل مع الكلمة والكلمة حمّالة موقف. وعلى أية حال، كان يكفي لإدانة لوركا أنه كان نصير الغجر، ومعارضاً للنزعة القومية المتعصبة. فمنذ سن التاسعة عشرة قال عن فرديناند وإيزابيلا، مستردّي غرناطة من العرب، إنهما سنّا شرعة محاكمة التفتيش الظالمة التي استمرت حتى القرن الثامن عشر. وفي عام 1936، بعد مرور خمسة أيام على عيد ميلاده الثامن والثلاثين، وهي سنة موته أيضاً، نشرت جريدة "آل سول" الاسبانية حواراً مطولاً بين فدريكو غارسيا لوركا والرسام الكاريكاتيري الشهير لويس باغاريا. في هذا الحوار تطرق الرجلان إلى عدد كبير من المواضيع، من الشعر إلى السياسة، ومن مصارعة الثيران إلى أغاني الغجر. وأعرب لوركا مرة أخرى عن اعتقاده بأن على الفنان في الظروف الراهنة أن يكافح من أجل العدالة الاجتماعية: "عليه أن يتخلى عن باقة الزهور ويخوض حتى الخصر في الوحل، ليكون في عون أولئك الذين يتطلعون إلى الزهور". وشجب النزعة القومية... واعتبر إعادة غزو غرناطة العربية على يد الكاثوليك الاسبان في 1492 "لحظة شؤم، على رغم أنهم يقولون العكس في المدارس. لقد فقدنا حضارة جديرة بالإعجاب، وشعراً وعلم فلك وعمارة وكياسة لا مثيل لها في العالم لنسلمها إلى مواطنين بؤساء وجبناء وضيقي الافق، يمثلون أسوأ برجوازية في اسبانيا"، على حد قوله.