لفترة طويلة من الزمن ظل الخبراء يتساءلون في سجال بدا انه لن ينتهي، حول ذلك "الشيء" الذي يحمله الشاب في لوحة اندريا ديل سارتو هذه: هل هو قطعة من الحجر؟ هل هو كتاب ام ماذا؟ والحال ان اهمية السؤال ترتبط الى حد كبير بموضوع اللوحة. فلو كان ما يحمله الشاب قطعة من الحجر لكان معنى هذا انه إما نحات وإما قاطع للحجارة. وفي الحال الثانية ستكون الفرضية الممكنة هي ان الشاب المرسوم في هذه اللوحة سيكون إما اندريا ديل سارتو نفسه، او شقيقاً له، طالما من المعروف ان اندريا ولد في اسرة كان ربها قاطعاً للحجارة. ويعزز من فرضية كون المرسوم هو اندريا، ان كل ما في هذه اللوحة، ولا سيما حركة الشاب الالتفاتية فيها، يشير الى انها مرسومة نقلاً عن مرآة. وفي ذلك الزمن كان معظم "البورتريهات" التي يرسمها الفنانون لأنفسهم ينقل عن مرآة. وما نظرة الشاب المرسوم في اللوحة سوى دليل على هذا. اما اذا كان ما يحمله الشاب كتاب، فإن المرجح عندئذ هو ان يكون الشاب نفسه شاعراً مجهولاً او غير معروف تماماً طالما ان احداً لم يتعرف من خلال ملامحه على اي من الشعراء الذين كانوا معروفين في ايطاليا في ذلك الحين. والحال ان فرضية كون المرسوم شاعراً تعززها هنا ايضاً نظرته التي تبدو كنظرة الحالم الواثق من نفسه في الوقت عينه، اضف الى ذلك طريقة امساكه ل"الكتاب" - اذا كان ما بين يديه كتاب -. والحال ان اصحاب هذه النظرة، وهي الأكثر ترجيحاً الآن، يقولون ان الكتاب الذي يحمله الشاب بحرص شديد وكأنه يحمل ثروة حياته، كان يحتوي في الأصل سطوراً محيت مع مرور الزمن او ان ديل سارتو آثر، اصلاً، ان يترك الصفحات بيضاء داعياً مشاهد لوحته الى ان يفترض أبيات الشعر التي يريد... وهذه الفرضية ضئيلة الاحتمال على اية حال. المهم في الأمر ان هذه اللوحة الصغيرة، والتي يبدو ان اندريا ديل سارتو رسمها في فترة مبكرة من حياته، كانت ولا تزال احد الألغاز الصغيرة في تاريخ الفن، من ناحية موضوعها على الأقل، او حتى من ناحية ربط موضوعها بالشكل الذي اختاره لها رسامها. والحال ان هذا الشكل، في حد ذاته، بدا ثورياً في الزمن الذي رسمت فيه اللوحة الربع الأول من القرن السادس عشر إذ نادراً ما كان رسام يقدم على جعل الشخصية المرسومة يدير ظهره في ثلاثة ارباع التفاتة الى المشاهد، ملتفتاً نحوه برأسه محملاً عينيه تلك النظرة التي تجمع الحلم والتحدي، القوة والطيبة، التواطؤ والحذر في وقت واحد. والحال اننا إذا ما ربطنا هذه النظرة بحركة اصابع الشاب القابضة على "الكتاب" سيتبين لنا ان الشاب يتعمد في نظراته، الغامضة/ الواضحة في الوقت نفسه، ان يقود انتباهنا الى ما يحمل بين يديه، وكأنه في ذلك يبرر الجلسة التي يجلسها، فوق مقعد وخلف طاولة على الأرجح. ولو كان الأمر كذلك لكان من الواضح ان ما يحاول الشاب ان يفعله، بالتفاتته وحركة يديه ونظرة عينيه، انما هو عرض ما يحمل امام ناظرينا، إذ لو ان الأمر غير ذلك لاكتفى بأن يترك "الكتاب" مفتوحاً على الطاولة امامه. ومهما يكن من الأمر فإن القميص عريضة الأكمام التي يرتديها الشاب تشير بوضوح الى رهافة وضعه الاجتماعي والنفساني، اذ انها تفتقر الى تلك الخشونة التي قد تميز ثياب قاطع الحجارة او اي عامل يدوي. وكذلك تفعل تقاطيع الوجه الدقيقة التي قد تشير الى العلو الاجتماعي للشخص المرسوم. ومن ناحية ثانية يلفت النظر في اللوحة، ألوانها التي تكاد تكون "مونوكرومية" اي موحدة اللون تقريباً تدور من حول الزيني والرمادي، سواء كان ذلك بالنسبة الى خلفية اللوحة، او بالنسبة الى "الجيليه" التي يرتديها الشاب فوق قميصه، اضافة الى قبعته. والحال ان هذا التلوين قد يشي بتأثير اندريا ديل سارتو المبكر برسامي الشمال الأوروبي الذين ما كانوا، في البورتريهات على الأقل، يستسيغون تعددية اللون حتى عادوا واكتشفوا قيمة تلك التعددية لدى الإيطاليين فاتبعوها. ولعل من شأن هذا التأثر المبكر لديل سارتو ان يؤكد ان اللوحة رسمت في مرحلة مبكرة من مساره المهني، اذ نعرف انه في مراحل تالية من حياته، اكتشف في آن واحد تقريباً اساليب رافائيل وميشال انجلو وليوناردو دافنشي، فتأثر بالثلاثة معاً، الى درجة ان كثراً من مؤرخي الفن اعتبروا ديل سارتو الوريث الشرعي لفن عصر النهضة كما تجلى، في اسمى تجلياته، لدى ثلاثي عصر النهضة الإيطالية الكبير. وتبعاً لذلك التأثر نعرف ان ملوّنة ديل سارتو، ازدادت تعدداً، وراح يشتغل على مبدأ التدرج اللوني وهو ما نلاحظه واضحاً في لوحات له مثل تلك التي رسمها في العامين 1519- 1520 للسيد المسيح وأمه تنتحب عليه، حيث تذكر الألوان وتركيب اللوحة ايضاً بأجمل اعمال ميشال انجلو مثل "العائلة المقدسة". ولمناسبة الحديث عن تأثر اندريا ديل سارتو بالثلاثي النهضوي، بعد مرحلة "مونوكرومية" اولى، قد يفيد ان نذكر هنا ان هذا التأثر لم يدم طويلاً لديه، اذ انه وبعد حقبة وسيطة في حياته، جعل من نفسه فيها، ولا سيما في معظم اللوحات الدينية التي رسمها للكنائس، مستكملاً للإنجازات النهضوية، نراه خلال الفترة الأخيرة من حياته يتجه نحو النزعة "المانييرية" حيث تزيد زينة الخلفية ويصار الى التركيز على الديكور وعلى حركة الشخصيات المرسومة ودقة تفاصيلها. على اية حال، كل هذا سيكون لاحقاً على الزمن الذي رسم فيه اندريا ديل سارتو لوحة "بورتريه شاب" المعلقة الآن في المتحف البريطاني، بعد ان اشتريت بمبلغ 270 جنيهاً في العام 1862 من ورثة الفارس نيقولو بوتشيني ديلا بيسنديا، قرب فلورنسا بعد ان ظلت معروضة في قصر الفارس هناك لعقود طويلة. ولقد اعتبرت اللوحة لفترة طويلة، بل ثمة من لا يزال يعتبرها حتى الآن، منتمية الى تلك السلسلة من اللوحات التي كان جورجوني، احد اسلاف ديل سارتو الكبار، أبدع في رسمها وسميت ب"البورتريهات الحالمة" وهي لوحات كانت تجعل كل الشخصيات المرسومة فيها تبدو كالشعراء. ومن هنا يرى مؤرخون انه اذا كان ديل سارتو حقق هذه اللوحة تحت تأثير مباشر لرسام ما، فإنه على الأرجح حققها تحت تأثير جورجوني، ومباشرة قبل وفاة هذا الأخير في العام 1510. ويعني هذا ان ديل سارتو كان بالكاد تجاوز الرابعة والعشرين من عمره في ذلك الحين، وهي تقريباً السن التي تعزى الى الشاب المرسوم في اللوحة. وأندريا ديل سارتو، واسمه الأصلي اندريا دانيولو، ولد في فلورنسا في العام 1486 لأسرة يشتغل ربها في قطع الحجارة. وهو منذ صباه الباكر تلقى دروساً بدائية في فن الرسم على يد فنان لم تكن له قيمة كبيرة ويدعى اندريا باريلي. ثم انتقل الى محترف بييرو دي كوزيمو حيث بدأ دراسة الرسم والتلوين بشكل جدي. غير أنه لم يتأثر كثيراً بفن هذا الأخير الذي كان لا يزال منتمياً الى فنون القرن الموشك على الغروب. وهكذا ما ان شب عن الطوق وبدأ يرسم لوحاته مستقلاً، حتى اكتشف الشماليين، ثم كان اكتشافه الأساسي لليوناردو فاتبع خطه في مجال تدريجية التلوين. وبعد ذلك نراه يتأثر كثيراً بأعمال رافائيل حيث استساغ لديه تناسق تركيباته، قبل ان يتأثر ايضاً بقوة الأشكال التعبيرية لدى ميشال انجلو. ولقد صار اندريا ديل سارتو منذ العام 1508 عضواً في النقابة المهنية التي كان ينتمي إليها كل رسامي المدينة في زمنه، ثم في العام 1517 تزوج من الأرملة الحسناء لوكريسيا ديل فيدي، التي كثيراً ما كانت تساعده كموديل في بعض لوحاته. وهو توجه بين 1518 و1519 الى فرنسا بدعوة من ملكها فرنسوا الأول. وفي العام 1530 خلال حصار فلورنسا، كلفه مجلس اعيانها برسم كبار ضباط الجيش، ولكن ايضاً كبار الخونة الذين كانوا يعدمون ويعلقون. ولقد مات ديل سارتو في العام 1531 بعد ان اصابته عدوى الطاعون الذي حل بفلورنسا في ذلك الحين.