قبل ايام قليلة كان الشاعر الفلسطيني يوسف ابولوز في احد المصحات، في دبي. بدا لي وجهه اشبه بوجه تمثال روماني منحوت في جدار. وعيناه الغائرتان، اشبه بعيني طائر مجهد. سألته عما يعنيه ان يكون الشاعر رجلاً مريضاً. لم يجب لكنه حدثني عن قراءة الروايات، وعن المرأة التي احب اثناء وجوده هناك. وحكى لي ايضاً كيف انه تمكن من نسيانها. ثم سألني: هل هذا للنشر؟ فلم أجب. وواصل هو مخاطبة آلة التسجيل... "البشر كلهم يعيشون في مصح كبير - قال - حتى ليخيل إلي ان العالم مريض، وأمنا الارض مريضة هي الاخرى. ومن اعراض هذا المرض ما نراه من حروب، أو من تهديد بها. هذا التحكم العصابي الأحادي الذي تفرضه أميركا على العالم سبب كاف ليكون المرء شخصاً غير سوي. انه زمن الجنون. زمن ادمان الحزن... لا الكحول فقط. اتجهت الى المصح وفق رغبتي وإرادتي. وكنت كأنني ارى البشرية تذهب كلها معي الى مصحها الموغل في رمزيته المأسوية. كان ذلك قراري الذي خلصت اليه بعدما حثني اصدقائي، الحريصون على سمعة الشاعر. انا لا اخجل من السوء العام الذي اصابني. انه يصيب الكثيرين. هذا البوح هو اعتراف. هو جزء من السيرة الذاتية. وانت تعرف ايها الصديق ان الكثير من المثقفين والكتاب والمبدعين العرب مصابون بالفصام، اضافة الى الكذب. كثيرون منهم مرضى. ومع ذلك يتبجحون باستعراض العافية. ويتركون امراضهم النفسانية والجسدية تنعكس في اوجه ابداعاتهم في وضوح تام، الى درجة انه يمكن أي قارئ ان يقول بحياد كامل ان هذا النص مملوء عافية أو انه نص مريض. أليس عجيباً حقاً ان ترى المثقف أو المبدع ينكر مرضه وهو يرى العالم من حوله مريضاً حتى السقام؟ انه يصمت على مرضه الشخصي ويصمت على مرضه الثقافي ومرضه الاجتماعي والاخلاقي ومرضه السياسي والفكري، كأنه ثمرة الصمت الدارج. شاهدت مرضي وعايشته وصادقته. وجهدت حتى افهمه. احاول ان أقول انني مررت بالتجربة، وأن اي كتابة في هذا الموضوع تكتسب صدقها من ذاتها لأنها ابنة التجربة وليست ابنة التذهن والتخيل والكذب. والكتاب العظام الذين ذكرتهم كلهم هم نتاج تجارب عظيمة. انهم قلقون ومأزومون ومتحرقون وأمينون على ارواحهم الكبيرة الشفافة. وهكذا فهم يمرون في هذا الأتون القاسي من دون ان تنكسر ارواحهم وأراداتهم ابداً. وهم ليسوا مرضى. الآخر هو المريض. أو هو الجحيم". اراك مغتماً، أقول ليوسف وأنا اشعل له سيكارة، فينتزع سيكارته من فمه ليعقِّب على ملاحظتي مباشرة: "لم اعش في حياتي كلها حالاً سوداوية. حتى في مشفاي كنت مرحاً تماماً. كنت ممازحاً وخفيفاً. صحيح ان الكحول اكلت وقتي، بيد انها لم تأكل كبدي. لقد صحوت الآن وأصبحت نظيفاً. وأصبح وزني اكثر بضعة كيلوغرامات. سأقرأ وأكتب بشراهة. سأحب بشراهة وسأضحك بشراهة وسأفعل كل شيء جميل بشراهة أيضاً. لا، لست مغتماً على الاطلاق". يخرج يوسف من حقيبته الجلد رزمة اوراق ويقرأ لي مقاطع من مخطوطه. ثم يواصل حديثه مستطرداً: "أكثر ما شدني في المصح هو هدوؤه الساطع. لقد تذوقته حتى الثمالة، وسعدت به كثيراً. وبطريقة ما رحت اخاطب نفسي متعجباً من معاناة الآخرين في الخارج" حيث الضوضاء التي تلوث كل شيء. الهواتف والتلفزيونات والسيارات والطائرات والحروب كلها بضائع صائتة، لا هدف لها سوى طرد الهدوء من عالمنا، وقد تكون ميزة المصحات الابرز هي انها تحميك من هذا الغزو. المصح مكاناً هو منفى ابيض صغير، انك تصحو من نومك الطويل، هناك، فإذا انت في مكان يخاطبك الجميع باسمك. انهم يعرفونك تماماً. يعرفون انك ستأتي، وأنك ستذهب، وأنهم سينسونك، وأنك ستتذكرهم. ولذا فهم يعطونك ما تحتاج اليه من وقت حتى تملأ ذاكرتك على مهل. لقد اذهلني كثيراً ان ألاحظ ان المعرفة التي شعرت بالحاجة اليها في ساعات يقظتي الاولى كانت تلك المتعلقة بالاسماء. أعني اسماء تلك المخلوقات اللطيفة. كنت اصغي الى الاشياء وأعيد ترتيبها في ذاكرتي. وقررت بحسم ان لدي اربعة كتب يمكن ان تكتب في سنة واحدة. في المصح، كتبت عدداً من القصائد، وأنجزت فصلاً من "مدونات نزيل الامل"، وأعدت قراءة سور من القرآن الكريم، وديوان المتنبي، وكتاب عن "المستظرف الصيني" لهادي العلوي وانتهيت من قراءة مذكرات الصديق الرسام جورج بهجوري، ورواية كويلهو "على ضفة نهر بييدرا جلست وبكيت"، الى جانب مجموعة قصصية اماراتية، اسمها "الخشبة". وهي بالمناسبة اول مجموعة قصصية صدرت في الامارات. وقد التقيت في المصح نزيلاً من اصول شيرازية، حدثني طويلاً عن سعدي شيرازي، الذي قال ان ضريحه مصمم بحيث يمر الماء عبر اسفله. كان الرجل في الخامسة أو السادسة والخمسين من عمره. وبدا واضحاً انه عبر الى الخمسين بلا وردة واحدة، لم احتج الى الكثير من دقة الملاحظة لأرى الاثر الذي خلفه الشرب على وجهه. كانت ملامحه مبقعة بلا ود. ولولا ان اسم سعدي شيرازي انزلق على لسانه مثلما تنزلق تحية الصباح، لما اطلت معه. أثار حماسة مخيلتي الحديث عن الشاعر الذي يستلقي في قبره فوق نهر صغير. اما ما عدا ذلك فقد كان عادياً الى درجة الإملال. لم اقل له انني شاعر. لم اقل ذلك لأحد، باستثناء ممرضة اسمها ليزا. وقلت لها ذلك لأنني اردت اطلاعها على قصيدة حب كتبتها عنها. والحقيقة ان المحاولة لم تكن مفرحة، انكمش وجه المرأة، ثم سألتني عما حملني على كتابة قصيدة لها، قائلة انه من غير الجائز ان يحدث شيء كهذا... فرجوتها ساخراً ألا تبالغ. انها مجرد قصيدة، قلت، ثم قفلت راجعاً الى جزيرة نفسي". كنت تقرأ القرآن في المصح - أقول ليوسف - وأنت تعرف ان كثيرين منا يتدينون عندما ييأسون أو تواجههم المصائب! "التدين ليس نتاج المصائب - يقول -. انه نتاج التأمل. انا اقرأ القرآن دوماً. انه كتابي العظيم. ثم انني كنت مريضاً وشفيت. اي ان ما يمكن ان تعده مصيبة لم يعد كذلك بالنسبة الي. المصيبة التي استشعرتها في هذه التجربة هي انني بددت الكثير من الوقت في سديم الكحول. بالنسبة الي، اغبط الشاعر الراحل عبدالوهاب البياتي على مشهده الأخير. فأنا اعرف ان الموت تسلل اليه بينما كان مستغرقاً في النوم على كرسي هزاز". اسأل يوسف: هل فكرت في الموت؟ هل اخترت لنفسك مشهداً ما، ورحت تتأمله؟ "أنا حي، وأنا فرح بالحياة على رغم كل شيء. ولا احلم الا بها. اما الموت فأمد له لساني ساخراً وأذهب، لأن امامي الكثير من القصائد لأكتبها، ومن الاصدقاء لأتعرف اليهم، ومن النساء لأحبهن، ومن المدن والجبال والسواحل والارصفة والكتب. الموت لا يشغلني، ما دمت قادراً على الكتابة، على اقناع هذه الممرضة الرائعة بملازمة سريري. الكتابة هي التي تطرح على جبهتي منديلاً مبللاً بالماء البارد في ذروة الحمى. وهي التميمة الابدية للمريض. لقد لفتني رفض بعض المرضى في المصح زيارة ذويهم لهم. كان هؤلاء متحلزنين على عوالمهم الباطنية العميقة، وملتمين على ذواتهم، في الوقت الذي يكون المرء احوج ما يكون الى الآخرين. وذات ليلة، رحت اتساءل: ماذا لو انني مت هنا، بعيداً من زوجتي وأطفالي؟ انه امر محزن بلا شك. ولكن التحلزن الذي يكتشفه المرء في نفسه فجأة، هو ما يشحنه بالقوة اللازمة. انه يعني ان المرض امر تمكن السيطرة عليه والشفاء منه باللجوء الى الباطن، الى تلك القيعان النائية الشبيهة بمستودعات سرية مخزنة بقوى الاحتياط، بحسب اللغة العسكرية. وهو يلجأ اليها لأن عليه ان يكون جزيرة نفسه النائية، التي يعجز الموت عن بلوغ شواطئها.