ثمة أمور في عمل الطبيب النفسي ، لا يستطيع أن يفصل نفسه عما أمامه من أحداث تقع لأشخاص لا تربطهم به سوى العلاقة المهنية. في مهنة الطب النفسي مطلوب من الطبيب أن يتفهّم وضع المريض لكن لا يتعاطف معه بشكل كبير. أن يضع حاجزاً بينه وبين المريض ، وأن تكون العلاقة مهنية بحتة ، لكن هناك أحداث تشعر بأنك – كطبيب نفسي- تتعاطف أكثر مما يجب. تشعر بأنك جزء مما يحدث لمريض.. تتعاطف مع ما يحدث له. لقد قابلتُ قبل سنوات سيدة تُعاني من مشاكل شخصية و نفسية ، إضافة إلى الاعتماد على بعض الأدوية. كانت هذه السيدة تُعاني كثيراً من مشاكل حياتية صعبة ؛ فمن الأمراض العضوية الصعبة ، نتيجة مرض عضوي عضال قاد إلى مضاعفات وأمراض كثيرة و مُعقّدة جعلها تعيش حياة صعبة ، إضافةً إلى المشاكل النفسية التي في مقدمتها الاكتئاب الشديد الذي أصابها بالإحباط ، الذي يزداد مع مرور الوقت ، ليُغرق هذه السيدة في دوامة يأسٍ قاتم. لقد قابلتني هذه السيدة بصفة مهنية ، وبحكم عملي كطبيب نفسي. تواصلت اللقاءات بيننا بصورةٍ مهنية ، وكنتُ أرى التدهور البدني والنفسي في إزدياد ، حتى وصل إلى إحباطٍ قاتم ، كانت لا ترى هذه السيدة أن هناك أي مخرج من هذه الحالة التي وصلت إليها. كانت تتعالج من الأمراض العضوية الصعبة ، و بالإضافة إلى ذلك تتعالج من الاضطرابات النفسية التي تُعاني منها. وصلت إلى مرحلة بدأت تشعر بأن ليس هناك أحد يستطيع مساعدتها وأن المستقبل مظلم وكانت ترى بأن الرحيل من هذه الحياة هي الحل!. لا أعرف كيف شرّع لها طبيب زارته في إحدى الدول العربية بأن تتناول ماتشاء من الأدوية وحتى المخدرات ، سمح لها بأن تتعاطاها!. لا أدري كيف ينصح طبيب مريضة بهذه النصائح والتي تُشبه القتل الرحيم الذي يقوم به بعض الأطباء و يُعتبر أمراً غير أخلاقي أو قانوني. عندما سمعت منها هذا الكلام ، وكانت في قمة اليأس ، وفعلاً حاولت تعاطي المخدرات ، ولكنها لم تستطع لأسباب شخصية أن تقوم بهذا العمل الفظيع. قالت لي بأنها سوف تتعاطى المخدرات لأنها لم تجد شيئاً في الحياة يُعطيها أي معنى ، وتفكّر بأنه ربما المخدرات تُجمّد تفكيرها و تُنسيها المشاعر الكئيبة التي تعيشها كل لحظةٍ من لحظات حياتها. حاولت إقناعها بأن المخدرات سوف يكون ضررها أكثر من نفعها ، و أن الحياة مع المخدرات ألم ومعاناة و أيضاً ذلة ، خاصةً إذا تعوّد الشخص على المخدرات و جاء وقت لا يستطيع الحصول عليها ، ليس بسببب المال فقط ولكن لأسباب آخرى مثل عدم توفّرها لأي سبب لوجستي من حيث التموين وسوق العرض والطلب. كانت مصّرة على أن الحياة تُشكل عبئاً عليها ، ولا تستطيع أن تواصل الحياة بكل هذه المشاكل الصحية التي تُعاني منها ، سواء أكانت الأمراض العضوية أو النفسية. في كثير من المحن يستولي الإحباط على كثير من الأشخاص ، و يصل مع بعض الأشخاص إلى التفكير بإنهاء حياتهم ، ظناً منهم بأن هذا السلوك يضع حداً لمأساتهم. في الدول الغربية يُشكّل الانتحار سبباً رئيساً من أسباب الوفاة بين الشباب ، ففي بعض الدول يكون الانتحار السبب الثالث أو الرابع بين مسببات الوفاة بين الشباب. ربما الثقافة السائدة ، وطريقة التربية أضافة إلى عدم وجود إيمان ديني بين كثير من الشباب ، فلذلك يلجأ الكثير من الشباب وأيضاً كبار السن إلى الانتحار عندما يجدون بأن الحياة أصبحت لا تُطاق بالنسبة لهم. وللأسف بدأت المجتمعات الغربية تقبل الانتحار كطريقة لإنهاء الشخص لحياته ، ويعتبرونه أمرا شخصيا وينبع من الحرية الشخصية للمرء و لا يتدخّل أحد سواء من الجهات القانونية أو غيرها في ما فعله هذا الشخص. يلجؤون إلى الإسراف في تناول الكحول أو تعاطي المخدرات رغبةً في إنهاء حياتهم أحياناً يقوم الشخص بسلوكيات يعرف أنها تقود إلى الوفاة ، فكثير يلجأون إلى الإسراف في تناول الكحول أو تعاطي المخدرات رغبةً في إنهاء حياتهم. ولعل المطربة البريطانية أيمى واينهاوس ، التي ماتت في منزلها نتيجة إفراطها في تناول الكحول ، وكانت تعرف بأن إفراطها في تناول الكحول سوف يقودها إلى الوفاة ، ومع ذلك استمرت في تناول الكحول بكثرة ، لأنها – حسب رأي المقربين منها - كانت تُريد أن تموت ، وكانت تنتحر بسلوك الإدمان على الكحول والمخدرات. أعرف أشخاصاً كانوا يستخدمون الكحول للتخلّص من حياتهم. كنتُ أعرف ذلك من طريقتهم في الشراب. كانوا يشربون و يُسرفون في شرب الكحول بصورةٍ مستمرة ، منذ الاستيقاظ حتى النوم الذي يتسرّب إلى أجفانهم بسبب كثرة تناول الكحول فينامون دون أن يستوعبوا ذلك. هؤلاء الأشخاص ماتوا من جراّء تعاطي الكحول والإفراط في تناوله بشكلٍ كبير. كانوا يُعانون من الاكتئاب ولكن ليس لديهم رغبة في العلاج ، كانوا يرغبون في الرحيل عن هذه الحياة ، ولا شعورياً كانوا يتعاطون الكحول بشراهة غير عادية لقتل أنفسهم. أعود إلى السيدة التي بدأت مقالي في الحديث عنها ، إنها تعيش مأساة حقيقية نتيجة المرض العضال الذي حلّ بها ، والذي قادها إلى أن تُعاني من أمراض عضوية خطيرة ، و تتعرض لآلام شديدة ، بالإضافة إلى أمراضها النفسية ، كانت تسألني : هل تلومني لو تعاطيت المخدرات؟ وهل تلومني لو أنهيت حياتي؟. إنني أعيش العذاب كل لحظة و كل دقيقة خلال أيامي وليالي.. إنني أعاني معاناة شديدة ، فكرّت في الذهاب إلى إحدى الدول التي تُجيز القتل الرحيم ، لكني متأكدة بأنهم لن يقوموا بفعل ذلك بالنسبة لي. حاولت إقناعها بأننا مسلمون ، وأن الأمراض هي ابتلاء من الله ، وفي ذلك تخفيف من الذنوب و اكتساب حسنات ، لكن تفكيرها كان في وادٍ آخر غير الذي أتحدّث فيه. للأسف لاحظتُ خلال السنوات الماضية ازدياد عدد الأشخاص الذين يُقدمون على الانتحار ، لا أدري هل هو ضعف الوازع الديني وقلة الإيمان ، أم هو ازدياد الأمراض النفسية و عدم علاج هذه الاضطرابات النفسية بصورةٍ جيدة ، أم أن هناك ثمة أسبابا أخرى. تلك السيدة التي تُعاني من إحباط شديد و كآبة حادة ، بالإضافة إلى أمراضها الأخرى ، فعلاً لجأت للكحول وأصبحت تتعاطى الكحول ، ليس لرفع مزاجها أو للانبساط و إنما لتنسى ، وأعتقد أيضاً لتدمير حياتها و إنهاء حياتها التي تشعر بأنها عبئاً عليها. معظم المسلمين إن لم يكن جميعهم يعرفون بأن الانتحار حرام ، وأن من يُقدم على ذلك مصيره النار مخّلداً فيها ، ولكن تحت ضغوط الأمراض النفسية قد يلجأ المسلم إلى الانتحار ، وهنا تقع المشكلة؛ فإذا كان الشخص الذي أقدم على الانتحار ، شخص كان مسلماً يقوم بكل ما يتطلّب منه الدين الأسلامي من واجبات مثل أداء الصلاة و الصيام وأداء الزكاة و الحج إلى بيت الله الحرام وبقية الواجبات المفروضة على المسلم ، ولكن تحت تأثير مرض الاكتئاب أقدم على الانتحار ، فهل يُعتبر شخصاً خارجاً عن الدين ولا يُصلى عليه صلاة الميت ولا يدفن في مقابر المسلمين؟ بعض العلماء قال بأن الشخص إذا عُرف عنه الصلاح و أقدم على الانتحار تحت تأثير مرض عقلي أو نفسي فإنه لا يُعتبر خارجاً عن الدين ويُصلى عليه صلاة الميت ويُدفن في مقابر المسلمين. هناك أعراض يجب على الأشخاص المحيطين بالشخص الذي يشك المقربون منه بأنه يحاول أن يُنهي حياته ؛ فالشخص الذي يُعاني من أمراض عضوية مزمنة يكون أكثر عرضة لأن يُنهي حياته مقارنةً بالأشخاص الذين لا يُعانون من أمراض عضوية مزمنة. الرجال أكثر عرضة لأن ينتحروا مقارنةً بالنساء ، كذلك الأشخاص الذي يُعانون من أمراض نفسية فإنهم أكثر إقداماً على الانتحار، الأشخاص الذي لهم محاولات انتحار سابقة يكونون أكثر اقداماً على الانتحار ، كذلك الاشخاص الذين يعيشون وحيدين أكثر عرضة للانتحار مقارنة بالأشخاص الذين يعيشون مع عائلاتهم أو مع رفيق. كبار السن أكثر إقداماً على الانتحار من الشباب ، كذلك المطلقون والعزاّب أكثر عرضة لأن يُقدموا على الانتحار من المتزوجين. لذلك على الأشخاص المحيطين بأفراد تكون لديهم هذه الأعراض عليهم توخي الحذر وأخذ الحيطة في متابعة مثل هؤلاء الشخصيات ، ومحاولة علاج الأسباب الممكن علاجها. السيدة التي تحدثتُ عنها فيها كثير من الأعراض التي تجعلنا نقلق منها ، مثل معاناتها من مرض عضال ، تسبب لها في أمراض عضوية ونفسية ، كذلك فهذه السيدة ليست متزوجة وتعيش وحيدة ، وكما ذكرت لي فإنها حاولت مرة أن تنتحر ، لكن لم تكن هذه المحاولة محاولة جادة. أشعر بالأسى لأني أشعر بأن هذه السيدة ربما تُقدم على الانتحار ، خاصةً أنها تعيش وحيدة في بلدٍ ليس فيها أشخاص تعرفهم و بعيداً عن أهلها. يؤسفني كثيراً أن أعرف بأن شخصاً ما سوف ينتحر ، وأتمنى أن يخيب ظني بألا يُقدم هذا الشخص على الانتحار ، لكن خبرتني مع بعض الأشخاص تجعلني أشعر بالقلق ، حيث من توقّعت أنهم سوف ينتحرون فعلاً أنهوا حياتهم. أتمنى ألا يحدث هذا مع هذه السيدة الطيبة ، اللطيفة التي كانت تحاول أن تعيش حياتها ببراءة ولكن تعرضّت لهذا المرض العضال الذي سبب لها الكثير من المشاكل الصحية والنفسية والاجتماعية أيضاً. أتمنى أن يمّن الله عليها بالصحة والعافية ، و أعود و أكرر بأن الانتحار ليس حلاً لأي كآبة أو الاحباط بل يجب على الانسان أن يرضى بقضاء الله وقدره ، وأن يترك أمر الحياة والموت للخالق عز وجل ليتصرف بحياة المسلم كما قدرّ له. لقد تحدثتُ عن الانتحار في مقالاتٍ سابقة ، وليس في نيتي العودة لإعادة ما قلته ولكن أشعر بأن ثمة أشخاصاً أصبحوا يميلون إلى المحاولة لإنهاء حياتهم عند أي مشكلة تواجههم، وهذا أمرٌ في غاية الخطورة ، لأن هذا السلوك لا يُناسب الحياة التي تزخر بالمسرات وكذلك بالصعوبات والآلام، لذا يجب على المرء أن يتحمّل حلو الحياة و مرّها.