بدءاً أود أن أشير الى ان اطلاق صفة "الوهابيين"، على دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب الاصلاحية، تسمية لا يحبذها أهلها وعلماؤها، نظراً لكون هذه التسمية، تاريخياً، صدرت عن المناوئين لها، رغبة منهم في اظهارها على انها مذهب فقهي خامس، وليست حركة اصلاحية، دينية وسياسية، سعت في منطلقها الأول الى اقامة دولة اسلامية، وعربية محضة تحديداً، تعتمد على اعادة الإسلام عقدياً الى ما كان عليه في قرونه الأولى. غير انني اضطررت الى هذه التسمية، لأنها شاعت وتجذرت، في الشكل الذي جعلها، كدعوة، أو كحركة دينية، تستقر في ذهن الجميع تحت هذا المسمى. فوجدتُ ألا مناص من استخدام هذه التسمية تجاوزاً، ولأسباب موضوعية. أول ما يجب ان نتنبه اليه، هنا، ان الدعوة الوهابية كقوة عقدية وسياسية على الأرض، نشأت ومن ثم تبلورت، نتيجة للتحالف الذي قام بين الأمير محمد بن سعود، أمير الدرعية من جهة، وبين الشيخ محمد بن عبدالوهاب، صاحب الدعوة، من جهة ثانية. هذا التحالف أو الاتفاق، أفضى منذ البداية الى تشكل "نواة دولة"، ذات شرعية عقدية: هذه الدولة لم يكن في محيطها الجغرافي "نجد" في حينها، أية دولة، أو كيان سياسي، واضح المعالم، حيث يمكن القول انها قامت على أنقاضه أو ثارت عليه. وإنما كان الوضع السياسي في نجد اقرب الى الفراغ إلا من قرى وبلدات صغيرة، متناثرة هنا وهناك، كانت مستقلة سياسياً، وتربطها أحياناً ببعضها البعض تحالفات موقتة وغير دائمة. غير أن هذه التحالفات لم ترتق ِ الى ما يمكن أن نسميه دولة، ولو بالحد الأدنى لتعريف دولة. ومنذ فجر بداياتها، اعتمدت هذه الدعوة على العمل من خلال ما اصطلح المؤرخون على تسميته بالدولة السعودية الأولى، متخذة اتجاهين مترابطين متلازمين. الاتجاه الأول: اتجاه دعوي بحت، يقومُ على نشر معتقداتها الدينية، في محيطها الصغير: الدرعية، وفي محيطها الكبير: منطقة العارض تحديداً في نجد، ومن ثم نجد بأكملها، فمعظم جزيرة العرب، بشكل متلاحق. أما الاتجاه الآخر: فكان اتجاهاً سياسياً عسكرياً، يقوم على حروب وغزوات يمكن وصفها الى حد كبير بأنها كانت حروباً وحدوية وعقدية في الوقت ذاته. أي أن هدفها كان ضم هذه القرية، أو تلك البلدة، الى هذه الدولة الفتية بقوة السلاح. مع عدم إغفال الجانب الاقتصادي للغزو، الذي كان مصدراً من مصادر الدخل، وحافزاً لاستقطاب الأتباع للمشاركة في الحروب، كما كان منطق ذلك العصر. هذا المنطلق التاريخي، الذي انطلقت منه الدعوة الوهابية، يعتبر نقطة مفصلية، لفهم "النظرية السياسية" عند فقهاء الدعوة، والتي جعلتهم خلال كل أطوار الدولة السعودية الثلاثة، يعتبرون أنفسهم مؤسسين، ومن ثم "حماة دولة"، مهمتهم الحفاظ عليها، من الخارج والداخل في آن، وبذل كل ما من شأنه الدفاع عنها، وعن وجودها. فضلاً عن أن النظرية السياسية عند أهل السنة والجماعة، التي يتبناها الوهابيون بكل قوة وإصرار، هي، أيضاً، تتوافق الى درجة التطابق مع توجهاتهم، وبالذات من حيث مفهوم الطاعة والبيعة على وجه الخصوص، الأمر الذي رسخ هذه النظرية وعمّقها، وجعلها تقاوم كل رياح التحديات التي هبت في اتجاه مغاير لتوجهاتها طوال ما يقارب الثلاثمئة سنة. لم تعرف الدولة السعودية الأولى الانشقاقات السياسية الداخلية، كما هو الوضع في الدولتين الثانية والثالثة. وقد زاد من تلاحمها، وقوتها، العدو الخارجي المتمثل في الأتراك: الذين كان لهجومهم الشرس، وتدميرهم البربري، لعاصمتها الدرعية، أهم الأثر في تكريس هذه الدعوة على الارض، وإصرار أهلها واتباعها على التشبث بها، ما جعلها تقومُ كلما كَبَت، وتعود ثانية وثالثة لتبقى في طورها الثالث الذي نعاصره الآن. في الطور الثاني، أو الدولة السعودية الثانية، يمكن ان يلحظ أي باحث تأثير النظرية السياسية التي انتهجها فقهاء الدعوة، بمنتهى الوضوح، في تعاملهم مع أحداث الانشقاقات والخلافات وتبعاتها السياسية بين أبناء الإمام فيصل بن تركي بعد وفاته، وتصارعهم على الحكم. كان موقف العالم أو الفقيه، يتمحور على إعادة اللحمة بين الأخوة، والطاعة والرضوخ لمن له البيعة الإمام عبدالله بن فيصل، وكذلك الرضوخ والطاعة، في المقابل، لمن أخذ "بشوكته" أي بالقوة العسكرية، مقاليد الإمامة الإمام سعود بن فيصل، معتزلين بذلك الدخول في المعترك السياسي، ومصرّين على الوقوف موقف الحياد الإيجابي من هذا وذاك. غير انهم كانوا، على رغم حيادهم، يصرون على حصر الإمامة في آل سعود تحديداً. يقول الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن، الذي كان ُيسمى ب"المجدد الثاني" وكان على رأس فقهاء الدعوة الوهابية في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، في رسالة تحمل الكثير من الدلالات في ما نحن بصدد إثباته: "وخشينا الفتنة، واستباحة المحرمات، من باد وحاضر، وتوقعنا حصول ذلك، وانسلاخ أمر المسلمين، فاستصحبنا ما ذكر وبينا عليه، واختار أهل الحل والعقد من حمولة آل سعود ومن عندهم، ومن يليهم، نصب "عبدالرحمن بن فيصل"، وذلك صريح في عدم الالتفات منهم الى ولاية غير آل سعود، ولهذا كتبنا من الرسائل التي فيها الإخبار بالبيعة والنهي عن سلوك طريق الفتن والاختلاف". راجع كتاب "الرسائل المفيدة"، جمع الشيخ سليمان بن سحمان، تحقيق عبدالرحمن بن سليمان بن رويشد، ص158، الرسالة الخامسة والعشرون، من دون تاريخ. وفي نهايات تأسيس الملك عبدالعزيز الدولة السعودية الثالثة، وهي الدولة السعودية المعاصرة الآن، انشق جزء من جيش الملك عبدالعزيز عليه، ممن يسمون ب"الأخوان" النجديين، وذلك لأسباب تعود الى خلافات في التوجهات السياسية واعتراضهم على بعض الأمور التحديثية. فقد اتخذ هؤلاء المنشقون من فهمهم لل"جهاد" سبباً شرعياً لهذا الانشقاق: كان الإخوان يريدون الاستمرار في التوسع، على اعتبار أن الجهاد لا يحده مكان: حدود، ولا زمان: الظروف الموضوعية، وموازين القوة والضعف، بينما كان الملك عبدالعزيز يرى أن الظروف الموضوعية، وموازين القوة والضعف على الأرض، تحتم عليه التوقف عند الحدود التي عليها حدود المملكة الآن، كي لا ينهار مشروعه التوحيدي جميعاً، مثلما انهار مشروع الدولة السعودية الأولى، عندما لم يراع ِ الأجداد مثل هذه الاعتبارات في تعاملهم مع القوى المحيطة. عندها، تدخل فقهاء الدعوة، بكل قوة وحسم، لإطفاء نار الثورة، وكبح جماحها، حماية للدولة، وأفتوا بعدم شرعية الخروج، و"أوكلوا أمر الجهاد الى نظر الإمام الملك عبدالعزيز، وعليه أن يراعي ما هو الاصلح للإسلام والمسلمين على حسب ما تقتضيه الشريعة الغراء". انظر نص الفتوى في كتاب "جزيرة العرب في القرن العشرين". حافظ وهبه. ص 292/293. غير ان جزءاً من الاخوان، وليس جميعهم الجميع خطأ تاريخي، استمروا في الثورة المسلحة، فهزمهم الملك عبدالعزيز في معركة "السبله"، وانتهت بهزيمتهم أهم الثورات العسكرية وأخطرها التي واجهتها الدولة السعودية الثالثة. كذلك الأمر عندما أعلن جهيمان العتيبي، ورفيقه الذي قال انه المهدي، ثورتهما من المسجد الحرام في مكة في نهاية السبعينات الميلادية: إذ وقفت المؤسسة الدينية بقوة وحزم، ضدهما، وحكمت بخروجهما، وأفتت باعدام كل من ثبت اشتراكه في القتال. مما تقدم، نستطيع ان نؤكد في كل جلاء ووضوح، ان النظرية السياسية عند الوهابيين، مثلما هي عند أهل السنة والجماعة، وبالذات في ما يتعلق بالتعامل مع السلطة القائمة، نظرية تقوم وتتكئ على التزام البيعة، وطاعة ولي الأمر. وترفض، بشكل شبه مطلق، مبدأ الخروج أو المعارضة، أو مناكفة السلطة القائمة. أما الشرطان اللذان يضعونهما لجواز الخروج والمناوأة: أن تروا كفراً بواحاً لديكم من الله عليه برهان. الثاني: أن ُتؤخِرَ السلطة القائمة عن عمد وتقصر الصلاة عن مواعيدها. والسؤال الذي يثيره السياق: هل التزمَ بن لادن بهذه النظرية، ومن ثم بنهج هذه الدعوة، أم انه رفضها، وثار عليها، وانتهج موقفاً مغايراً لها؟ بن لادن، كان في بداياته، مثل أي شاب سعودي ملتزم، نشأ وترعرع في بيئة تعليمية وهابية، وكان التزامه الديني التزاماً ينطلق عقدياً من تعاليم وأطر الدعوة الوهابية. وعندما دخلَ الاتحاد السوفياتي الى أفغانستان، هبّ كغيره من الشبان العرب والمسلمين الى الانضمام الى جحافل المجاهدين الأفغان، ثم، لأسباب موضوعية، تقلد إمارة المجاهدين العرب، وقام بالعمل على دعم الجهاد مالياً وسياسياً. وكان في كل أعماله هذه، على علاقة وطيدة بالحكومة السعودية، وكذلك بالمؤسسة الدينية فيها، التي دعمته في جهاده، وكذلك قدمت للمجاهدين، كما هو معروف، وللجهاد الأفغاني، المساندة المعنوية الكاملة. وكان آنذاك يحظى بكل تقدير وإجلال على أعماله الجهادية، في المملكة، وبعلاقات واسعة وحميمية مع العلماء السعوديين. كذلك كان على وفاق آنذاك مع الغرب: وزار أميركا مرات عدة، لأسباب تعود الى استقطاب الدعم العسكري من الأميركيين للمجاهدين الأفغان، وتحقق له ما أراد. وكان واعياً لذلك تماماً، ومستوعباً له تمام الاستيعاب. وهذا ما اعترف به في احد لقاءاته في قناة "الجزيرة" القطرية، إذ قال: ان توجهات الجهاد الأفغاني في البدء كانت متفقة مع الغرب أثناء الحرب الباردة من حيث الغايات، غير أن الدوافع والبواعث كانت تختلف، فلكل فريق دوافعه وأسبابه. كانت أفغانستان، أثناء الغزو السوفياتي، تعج بآلاف المجاهدين العرب، الذين كانوا يحملون أفكاراً وتوجهات ورؤى متباينة، تجعلهم يختلفون على كثير من التفاصيل، وبالذات في ما يتعلق بالرؤية السياسية للإسلام، لكنهم كانوا يتفقون جميعاً على الجهاد. ولعل بن لادن، بقدر ما أثر في كثير من هؤلاء الشبان، تأثر هو في المقابل بهذه الرؤى والمدارس والتوجهات، بشكل أو بآخر. وفي تقديري أن أيمن الظواهري، الذي كان على علاقة وطيدة ببن لادن كان هو أول من بذر بذور "التمرد"، في فكره وتوجهه، على النظرية السياسية المعروفة لأهل السنة والجماعة، أو قل: على الفكر الوهابي. تلك البذور التي نمت وكبرت في ما بعد، وجعلته في نهاية المطاف يتخذ منعطفاً فكرياً ومعرفياً مغايراً لما عليه الوهابيون تماماً. هزيمة 1967 كانت هزيمة عام 1967، وسقوط الحلول القومية، بمثابة الجذوة التي أشعلت ظاهرة الصحوة الإسلامية، أو الإحياء الديني، في مصر تحديداً. وبدأ الشباب المصري، الذي واجه صدمة الهزيمة، في العودة الى الأصول، والبحث عن حلول حضارية. فكان التراث الإسلامي هو المنهل الذي وجد فيه المنهزمون معنوياً ونفسياً وحضارياً ضالتهم. كان التحول الى الإسلام، واضحاً منذ بداية السبعينات الميلادية في مصر: وعندما توفي الرئيس جمال عبدالناصر، وخلفه الرئيس أنور السادات، كان التراث الناصري، بأبعاده القومية والاشتراكية، وما أحاط هذه الأبعاد من حراس، سموا آنذاك ب"مراكز القوى" الناصرية، كفيلاً بخوف الرئيس الجديد، من البقاء والاستمرار: ولم يكن أمامه إلا الاستعانة بالتيارات الإسلامية في وجه هذه القوى المتحصنة خلف التراث الناصري. في هذه الأثناء، كانت قيادات القوى الإسلامية المصرية، والمتمثل غالبها في تيار "الإخوان المسلمين"، تقبع عند تسلّم السادات السلطة في سجون عبدالناصر. أطلقَ السادات هذه القوى، وأتاح لها هامشاً كبيراً للعمل السياسي، وبالفعل استطاعت، وفي شكل سريع، تطويق التراث الناصري، ومن ثم تهميشه. وفي الوقت ذاته استطاعت، أيضاً، أن تجذر وجودها على الأرض، مستغلة الهزيمة، وفشل مشاريع التحديث، في استقطاب المزيد من الأتباع والمناصرين. وبعد اتفاقات كامب ديفيد، وما نتج عنها من تبعات وأزمات، خرجت من تحت عباءة الأخوان حركات إسلامية، اكثر غلواً وتطرفاً، استلهمت من التراث الإسلامي، البعيد والقريب، أفكارها، وأعادت صوغ هذه الأفكار بما يخدم توجهاتها السياسية، وأسبغت قدسية على هذه الصيغ أو الاجتهادات، ودخلت بها الى أتون المعترك السياسي. كان أهم هذه الحركات حركة "التكفير والهجرة" التي كانت أول من اعتبر أن مفهوم "الجهاد" في الإسلام ليس موجهاً فقط الى العدو الخارجي، وإنما، أيضاً، الى القيادات والمجتمعات "الكافرة" التي لا ُتحكم شرع الله. فتمردت على مفهوم طاعة ولي الأمر، بدعوى تحقيق فريضة الجهاد، محاولة في الوقت نفسه، ومن وجهة النظر الإسلامية، طرح مفهوم "الثورة" على الدولة من خلال تحوير معنى الجهاد. خرجت، بعد ذلك، وامتداداً لحركة التكفير والهجرة، حركة "الجهاد المصرية" التي غذت الفكر الثوري لبن لادن من طريق أميرها أيمن الظواهري وبقية أعضاء تنظيمه. ويقول جيل كيبل عن ظاهرة الإحياء الديني: "بدأ يتكون خطاب ديني جديد، لا يهدف الى التكيف مع القيم الدنيوية، وإنما الى إعطاء تنظيم المجتمع أساساً قدسياً، ولو بتغيير هذا المجتمع، إذا اقتضى الأمر. ويدعو هذا الخطاب في تعابيره المتعددة، الى تجاوز "حداثة" فاشلة كان يعزو فشلها ومآزقها الى الابتعاد عن الله". راجع كتاب "يوم الله، الحركات الأصولية في الديانات الثلاث" ترجمة نصير مروه، ص 10. وعلى رغم ان هذه المقاربات تحيل هذه الظاهرة الى الغرب، أو كرد فعل للحضارة الغربية، التي هي بمثابة "العدو" في ذهن الإنسان المسلم وتفكيره ووجدانه، لأسباب تاريخية وموضوعية. أو أنها تحيلها الى العدو الخارجي الذي انتصر في حرب 6719. إلا أننا نجد مقاربات أخرى تجعلها نتاجاً طبيعياً للظروف الداخلية المتردية الى درجة المأساة في المجتمعات العربية والإسلامية. وهذا ما كتبَ عنه بتوسع برهان غليون. راجع كتاب "نقد السياسة، الدولة والدين"، برهان غليون، ص 223، 224. وكذلك ص 259. وسواء كانت هذه الأسباب خارجية، أو داخلية، أو هي هذه وتلك مجتمعة، إلا أنها كانت في المحصلة النهائية، محركاً حقيقياً وباعثاً موضوعياً لانبثاق فكرة "التغيير بالقوة"، أو من خلال العنف، أو إعادة صوغ مفهوم "الجهاد" الى الجهاد المسلح من الداخل التي تبناها كثير من الحركات الإسلامية الراديكالية، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أن انخراط عدد كبير من الشباب الملتزم دينياً في الجهاد المسلح في أفغانستان، ولسنوات طويلة، كان بمثابة الأداة والدافع في الوقت ذاته، اللذين شجعا هذه الحركات على سلوك هذا السبيل، ووفرت الكوادر القادرة على التعامل بالعنف، بعد أن هيأها الجهاد الأفغاني نفسياً ومهنياً للتعامل مع القتل والدماء، لا سيما ان غالبية المنتسبين الى هذه الكوادر كانوا قد ذهبوا الى أفغانستان في عمر المراهقة، ومكثوا في ارض الجهاد الأفغاني سنوات طويلة، وبعد انتهاء الجهاد، لم يجدوا حرفة يتقنونها الا القتال. كان بن لادن على علاقة وطيدة بهذه الحركات، وبالذات بأيمن الظواهري أمير حركة "الجهاد" المصرية، الذي كانت له اليد الطولى في تغيير منهج بن لادن في ما بعد، وإقناعه بالتخلي عن النظرية السياسية للفكر السلفي، وولوج مدرسة الإسلام الثوري، أو الخروجي، أو الجهادي من الداخل. وكان بن لادن مهيأً نفسياً وسياسياً وعلمياً ومالياً، للعمل مع هذه الحركات، بحكم تاريخه الجهادي من جهة، ومن جهة أخرى تاريخه القيادي الذي أعطاه نجومية في الوسط الإسلامي، كان من الصعب عليه ان يتخلى عنها. غير ان خلفيته التربوية الوهابية، التي تتعارض مع هذه الحركات تعارضاً مبدئياً، وبالذات مع مبدأ "الخروج"، ونبذ البيعة، وتوسيع مفهوم الجهاد ليشمل "الثورة" على الدولة، وشق عصا الطاعة، وهذا ما ترفضه الدعوة الوهابية، كما بينا عند الحديث عن النظرية السياسية عند فقهاء الدعوة الوهابية. جعلته "يتحرج" في البداية في تبني "الثورة" علناً. وبقي لسنوات بعد انتهاء الجهاد الأفغاني يدعم هذه الحركات على استحياء، وخفية، من دون ان ينضوي تحت لوائها في شكل كامل وصريح. الا انه، على ما يبدو، لم يطق الصبر على القيادة والقتال والعنف والدم، فحسم هذا التجاذب، بين "الثورة" و"الطاعة"، بشكل قطعي، وأعلن بكل وضوح انضمامه التام والكامل الى الحركات الثورية، عندما ترك السعودية نهائياً ورحل الى السودان، معلناً انسلاخه عن الخط الوهابي السلفي. هذا ما تعكسه بكل وضوح رسالة مفتوحة بتاريخ 29/12/1994، وزعت في حينها بالفاكس، ونشرت في الإنترنت في ما بعد، كان أرسلها الى الشيخ عبدالعزيز بن باز، الذي كان وقتها على رأس المؤسسة الدينية في السعودية، انتقده فيها بشدة، وحَملَ عليه، وعلى كثير من فتاويه، واتهمه فيها بالتلبيس على الناس، كما اتهم فيها الشيخ "بعدم إدراك حقيقة الواقع، وما يترتب على مثل هذه الفتاوى من أثار، مما يجعل الفتوى حينئذ غير مستوفاة الشروط ومن ثم لا يصح إطلاقها، مما يحتم على المفتي عندئذ أن يتوقف عن الفتوى أو يحيلها حينئذ على المختصين الجامعين بين العلم بالحكم الشرعي والعلم بحقيقة الواقع..." كما جاء بالنص في رسالته. وكانت هذه الرسالة تحمل خلف سطورها اتهاماً ضمنياً للدعوة الوهابية نفسها، من خلال اتهام واحد من أهم رموزها في هذا العصر. مما تقدم، وفي عبارة موجزة، يمكن القول في منتهى العلمية إن الوهابيين على مرّ مراحلهم التاريخية كانوا "بناة دولة" ومن ثم "حماتها"، بينما نجد الثوريين الإسلاميين المعاصرين، بمن فيهم أسامة بن لادن، هم "دعاة ثورة وانقلاب"، وهذا هو لبّ الاختلاف والتباين الجوهري بين نهج بن لادن ومن تبعه، وبين الدعوة الوهابية. * كاتب سعودي وهو يوجه الشكر الى كل من: د. عبدالعزيز الفهد. ود. عبدالعزيز السماري. والأستاذ علي العميم، على ملاحظاتهم، ومراجعاتهم لهذا البحث، التي كان لها أبلغ الأثر في إثرائه.