في كلمته الاخيرة بمناسبة الذكرى السنوية الثانية عشرة لحرب الخليج الثانية بدا الرئيس العراقي صدام حسين وكأنه يرسم خطاً على الرمال في الازمة الحالية مع الولاياتالمتحدة يقطع الشك الذي يراود البعض عن احتمالات خوضه منازلته الجديدة بيقين اصراره ليس على المقاومة فحسب بل الانتصار وإلحاق الهزيمة على اسوار بغداد بمن سماهم "مغول العصر". إلا أن الكلمة وسلسلة الخطب التي ألقاها منذئذ، سواء التحدي المباشر الذي تضمنه او بالدلالات والرموز التاريخية التي حملتها بدت وكأنها رد واضح وصريح على الاشارات والتحركات التي بدأت تظهر في الساحتين الاقليمية والدولية عن امكان بلورة حل سياسي سلمي قد يترتب عليه ثمن يدفعه هو ونظامه للخروج من الازمة، مما يطرح السؤال عما اذا كان هذا الرد نهائياً أم أن الرئيس العراقي سيضطر لاحقاً للاستعانة بأحد الخيارات الاخرى المتاحة له قبل ان يعلن قراره الاخير. يأتي موقف الرئيس العراقي وسط اشتداد تعقيد الازمة العراقية - الاميركية، وهو تعقيد طبيعي ومتوقع بسبب اقتراب لحظة الحقيقة ومواعيد الحسم وفق الاجندة السياسية والعسكرية للادارة الاميركية وتفاعلها مع تطورات محسوبة او مستجدات طارئة، منها ما هو داخل الولايات أو خارجها، لا بد ان تترك بصماتها على عملية صنع القرار الاميركي الخاص بالازمة سلماً أو حرباً. احدى السمات الظاهرة لهذه المرحلة من الازمة هو الارتباك السافر في اسلوب ادارتها اميركياً والذي يبرز في تصريحات الرئيس جورج بوش نفسه، بين كونه رجلاً صبوراً جداً ساعة وبين نفاذ صبره من ألاعيب النظام العراقي ساعة اخرى. اكثر من ذلك هو هذا القلق والاضطراب الواضح في مواقف ادارته في المراوحة بين التهديد بحرب ضروس تنوي شنها لتغيير النظام تارة وبين القوا بأن الحرب غير حتمية وأن تحقيق نزع اسلحة العراق ممكن سلمياً تارة اخرى. هذه المواقف التي تجربها الادارة الاميركية وسط تزايد المعارضة للحرب او التردد في تأييدها او الشكوك في جدواها كما تبديها اطراف دولية واقليمية بارزة بعضها حليف اساسي للولايات المتحدة، وفي خضم تصاعد حركة الاحتجاجات من شخصيات عامة مؤثرة والتظاهرات المعادية للحرب في المدن الاميركية ومدن العالم الاخرى تتجاوز الحاجة المتوقعة في مثل هذه الظروف للمناورات والتكتيكات السياسية واساليب الخداع في الحرب النفسية، تظهر الادارة وكأنها امام ورطة حقيقية لا تجد السبل الكفيلة لتفاديها. ومن المؤكد كما دلّت تجارب الازمات السابقة مع الولاياتالمتحدة منذ غزو الكويت الى ان الاستنتاج الوحيد الذي يمكن للنظام العراقي الخروج به لقراءة هذه المواقف الاميركية تيتعدى مساحة التأمل والتأني والمرونة التي قد توفرها له الى التشدد والتحدي مثلما يتضح من الخطاب المذكور للرئيس العراقي. اكثر من ذلك يأتي الخطاب العراقي المتصلب في وقت تتبلور مواقف اقليمية باتجاه ايجاد حل سياسي للازمة تشي دلالته المبكرة بإمكان طرح صفقة اللحظة الاخيرة مع الرئيس العراقي يمكن ان لا توفر له مخرجاً سلمياً وكريماً فحسب بل تحافظ على حياته وعائلته وارواح الزمرة المرتبطة به واموالهم وربما بعض الحصانة من المقاضاة القانونية بسبب الجرائم والانتهاكات التي اقترفوها والتي لا يمكن ان تمر من دون محاسبة في حال سقوط النظام حرباً، مما يعني ان نتيجة قراءته لهذه المبادرات ايضاً لن تتسم بالتواضع والتبصر بل بالغطرسة تجاه دعوات السلام والاستهزاء بالمخاوف من عواقب الحرب والاستخفاف بالايادي التي يمكن ان تمتد لانقاذه، وهو ما عبرت عنه تصريحات عديدة لمسؤولي النظام التي وصفت هذه المبادرات بالسخافة والتفاهة. على خلفية هذا الخطاب المتعنت اذن سيتم اتخاذ القرار العراقي سلماً او حرباً، أو هكذا يريدها النظام العراقي ان تبدو في عيون العالم الذي يدرك جيداً انه يحبس انفاسه بانتظار قراره هذا باعتباره القرار الذي ربما يكون حداً فاصلاً بين تاريخين وعالمين. غير ان السؤال سيظل يلح حتى اللحظة الاخيرة عما اذا كان ذلك فعلاً هو جوابه النهائي بشأن خيارات الحرب والسلم أم انه سيضطر لاحقاً الى الاستعانة بوسائل النجدة التي توفرها له هذه المبادرات والتي يستنكف الآن عن اللجوء اليها. من الواضح ان النظام العراقي، كما هو دأبه دائماً، يلعب مبارة صفرية ويأمل من خلال المواقف المتشددة هذه بدفع الازمة بينه وبين الولاياتالمتحدة الى حافية الهاوية، وهو هدف يرمي من خلاله الى حشر الرئيس الاميركي جورج بوش في زاوية ضيقة يعتقد انه لن يكون امامه إلا التراجع او شن الحرب على العراق، اذ سيعلن من ناحيته التراجع الاميركي نصراً اكيداً له من دون حرب في الوقت الذي يتوهم بامكان إلحاق الهزيمة باميركا اذا ما شنت عليه الحرب فعلاً. اما بالنسبة الى قضية اسلحة الدمار الشامل فإن التمعن في اسلوب تعامل النظام معها يظهر انه يعتبرها قضية خاسرة للادارة الاميركية لأنه مستعد لأن يذهب الى آخر مدى في التعاون مع المفتشين وبهدف شق وحدة مجلس الامن والمجتمع الدولي حولها من اجل ان ينتزع منها هذه الورقة كمبرر للخيار العسكري الذي تتزايد المعارضة العالمية له. خيار الدفع الى حافة الهاوية هو خيار هو في الواقع خيار شمشوني يعاني من نقاط ضعف عديدة وخطيرة تجعل الركون اليه بداية النهاية الفعلية للنظام العراقي لاسباب يتعلق معظمها بالخلل الهائل في موازين القوى والمصالح ليس بينه وبين الولاياتالمتحدة الاميركية فقط بل مع القوى الدولية والاقليمية التي سيسوءها رفض النظام العراقي للحلول السلمية وانكفاؤه على خيار التحدي والحرب. وتكمن خطورة هذا الخيار في انه سيظهر بشكل لا لبس فيه انانية النظام ورغبته العمياء لفي البقاء بأي ثمن مقابل الثمن الباهظ الذي سيدفعه العراق كبلد وشعب والتهديدات التي سيتعرض لها النظامين الدولي والاقليمي. ان السيناريو الوحيد الناتج عن هذا الخيار والذي يتجاهل الواقع العراقي والاقليمي والدولي المتسارع التغير سيكون اصطفافاً مع مشروع الحرب الاميركي وضد النظام المتشبث بالبقاء. اميركياً، وبغض النظر عما اذا كانت ادارة الرئيس بوش قد حشرت نفسها في هدف اسقاط النظام العراقي ام لا، لا يبدو ان هناك سبيلاً آخر غير المضي قدماً في طريق تحقيق هذا الهدف سلماً كان او حرباً، عاجلاً او آجلاً، كلياً او جزئياً. ان أي اخفاق في الوصول الى هذه الغاية لا يعني فقط انتصاراً معنوياً للرئيس العراقي ولا يعني جرحاً لكبرياء اميركا وهيبتها ولا ضربة لاستراتيجيتها في المنطقة ونكسة شنيعة لحربها على الارهاب الذي سيطل برأسه بقوة وعزيمة اشد، بل هزيمة منكرة للطموحات الامبريالية الكونية التي أصبحت سمة من سمات السياسة الاميركية المعاصرة. فهل لدى الرئيس العراقي من الارادة والحيلة والقوة ما يمكنه من ان يجعل "مغول العصر"، كما وصفهم، ينتحرون عند اسوار بغداد ام انه ينوي ان يجعل من العراق كله حزاماً ناسفاً يتمنطق به وهو في طريقه الى تنفيذ عمليته الانتحارية؟ اقليمياً، هناك استعداد متزايد لرمي طوق النجاة للرئيس العراقي ونظامه من خلال حل سلمي نابع اساساً من الحاجة الى تفادي وضع متفجر قد يطيح ليس باستقرار المنطقة وأمنها بل بأنظمتها وربما بكياناتها الهشة. دول المنطقة كذلك في ورطة مثل تلك التي تواجهها الادارة الاميركية وليس أمامها إلا ضبط حركتها وفق الايقاع الاميركي لئلا يؤدي أي تنافر الى انحدار المنطقة نحو الهاوية التي يدفعها اليها النظام العراقي. فالحرب ستضع المنطقة امام مستقبل غامض، واللاحرب لا تعني فقط انتصار الرئيس العراقي وخطابه بل انتصار اسامة بن لادن والخط الذي يمثله ضد تيار الاعتدال الذي اخذ يترسخ فيها. ومهما تكن طبيعة هذا الحلول المطروحة وتفاصيلها فإن اهميتها تكمن في أنها تفتح آفاقاً واسعة لمخرج مشرف للنظام العراقي بل الأهم من ذلك كله أنها توفر الفرصة لانتقال سلمي للحكم في العراق يدرأ كل المخاطر التي يمكن ان يتعرض لها في حال الحرب. على النظام العراقي ان يعي ان لا احد في هذه المنطقة او في العالم مستعد لأن ينتحر معه وان من هو على استعداد ان يقدم له حبل النجاة اليوم قد لا يكون قادراً على مدّه اليه بعد اسابيع او ايام قليلة. كما ان عليه ان يتجنب وللمرة الاخيرة سوء الفهم وسوء التقدير والافراط في التحدي والدفع بالازمة الى نهاياتها القصوى إذ لن يبقى خيار امام خصمه إلا الحرب التي لن تدق عنقه فقط بل ستطحن العراق طحناً. هناك من المؤشرات بل التصريحات العلنية ما يكفي للاقتناع بأن شكلاً من اشكال الحل السلمي للازمة سيكون مقبولاً اميركيًا بغض النظر عن سيناريوات الحل وطريقة اخراجه والاشتراطات الاخرى التي ستضعها الادارة الاميركية وما على النظام العراقي سوى الانخراط في عملية تفاوضية تسهل له هذا المخرج. هناك من يميلون الى التحليل القائل بأن تجربة النظام واسلوبه وسيكولوجية رئيسه لا تسمح بحل قائم على تركه للسلطة، لكن هؤلاء لا يقدمون خدمة للشعب العراقي ولا النصيحة النزيهة لنظامه بل يدفعون بالاثنين الى التهلكة. ان الاخفاق في مهمة اقناع النظام بالرحيل مثلها مثل اصرار النظام على التشبث بلعبة السلطة لن تكون مجرد تعبير عن عجز وفشل المجتمع الدولي ودول الاقليم بالذات بل ستسجل نهاية الأمل في حل سلمي للقضية العراقية وبداية طريق محفوف بالمخاطر والالم. وحسناً فعل الرئيس العراقي هذه المرة حين استذكر امام قادته العسكريين بعد ايام من خطابه ذاك الملك اريدو كلكامش وتركه للحكم طوعاً بحثاً عن الخلود في تلك الاسطورة البابلية الخالدة، اذ انه اكد بذلك ان هناك خياراً آخر غير خيار المستعصم الذي سقطت على يده بغداد امام هولاكو وأيضاً غير خيار شمشون كما أثبت انه اكثر من اعتذارييه قدرة على تلمس طريق غير ذلك الطريق الانتحاري الذي يدفعونه اليه. * كاتب عراقي.