هما عبقريان متمردان في الميدان الفني، فجرا فنهما الفريد بركاناً من المنحوتات والعواطف المتصادمة. جمعهما الشغف اللامحدود بالنحت والعصيان الكامل والتام للقواعد الاجتماعية التي كانت سائدة نهاية القرن التاسع عشر في فرنسا. أوغست رودان النحاّت الفرنسي المعروف الذي صدم بمنحوتاته كما بحياته الساخرة من اللياقات الإجتماعية والقواعد المتعارف عليها. عاش علاقتين غراميّتين تناقضتا في مضمونهما. الأولى، عشر سنوات مجنونة، مع نحاتة كان بعمر والدها... والثانية 52 عاماً مع صديقته التي أنجبت منه صبياً لم يعترف به... ثم تزوجها لثلاثة أسابيع قبل أن تموت. هي كاميل كلوديل، النحاتة الشغوفة بفنها الذي وهبته 10 سنوات من عمرها اليافع قبل أن تهجره وتغوص في الجنون الحقيقي الذي ابقاها 30 عاماً في مستشفى للأمراض العقلية. نحات متمرد وثائر ظهرت موهبة فرانسوا أوغست رينيه رودان الفنية منذ السنوات الأولى من عمره، وشجعته عائلته الوضيعة على المضي في ميله إلى الرسم والنحت فدخل "المدرسة الصغيرة للفنون" لتنمية موهبته الفنية الأكيدة... من دون أن يتمكن يوماً من دخول المعهد الفني الكبير للفنون الجميلة الذي رفض انتسابه ثلاث مرات متتالية. وبدأ رودان يعمل في المجال الفني التجاري لكسب عيشه، محضراً في الوقت ذاته منحوتة كبيرة لعرضها في "صالون باريس" الذي رفضها مرتين متتاليتين، ما جعل ثورته الفنية والاجتماعية تندلع بقوة، وتترجم منحوتات جريئة وعلاقة هامشية بروز بوريه، رفيقة عمره التي أصبحت "موديله" المفضل، ومن ثم عشيقته وأم ابنه الذي لم يعترف به يوماً. وبعد أربع سنوات فقط، هجرها رودان وغادر إلى بلجيكا حيث تتالت معارضه الفنية، وعاد بعد سبع سنوات إلى باريس ليجد أن روز في انتظاره، فافتتح محترفه الخاص الذي ضم عدداً كبيراً من النحاتين المعروفين، ومن بينهم الصبية الحلوة الموهوبة كاميل كلوديل، إبنة ال19 ربيعاً التي شاركته شغفه المجنون بالنحت. صبية متمردة على التقاليد الاجتماعية تميزت كاميل كلوديل منذ صغرها بعصيانها الفني المتمرد على كل القواعد السائدة، خصوصاً أن والدتها كانت متسلطة وجاهلة بالأمور الفنية. فوجدت في والدها الحليف الأول لموهبتها التي تفجرت منحوتات فريدة قبيل بلوغها الثالثة عشرة من عمرها. وعرف والدها أن مستقبلها يكمن في باريس وليس في الريف الفرنسي حيث تعيش، فقادها إلى عاصمة النور حيث تابعت دروساً في النحت ابتداء من سن السابعة عشرة. هناك، وجدت الصغيرة كاميل متنفساً لميلها الفني، خصوصاً أنها انضمت إلى مجموعة من الفنانين في مشغل صديق لوالدها. وتعرفت بالصدفة إلى رودان الذي وجدته بغيضاً وقبيحاً بلحيته الصهباء وشكله العجوز، لكنها عرفت في قرارة نفسها أن خبرتها الفنية ستتعمق وتنمو إلى جانبه فقبلت بالانتقال إلى محترفه للعمل معه، متحدية كل القواعد الاجتماعية التي كانت تستهجن وجود امرأة تنحت الحجر بين مجموعة من النحاتين الرجال. وبدأت كاميل تعمل بشغف وتعيش لفنها مثيرة الاحترام والإعجاب من حولها. فهي كانت صبية سمراء فاتنة بشعرها الأسود وعينيها الزرقاوين... وحتى ساقها القصيرة التي جعلتها تعرج. وبات المشغل ملجأها الأمين، تصل إليه في الصباح الباكر قبل الجميع لتعمل بهدوء بعيداً من الأقاويل الاجتماعية الساخرة. وقد اكتشف رودان منذ البدء موهبة كاميل المميزة وطبعها الفني المجنون. فلقنها كل ما يعرف عن أسرار السيطرة على الحجر، وأهداها في عيدها العشرين منحوتة تمثلها خارجة من الماء، كانت الصدمة التي جعلتها تعي أنها مغرمة به. ولم تدع أي شيئ يقف في طريق حبها، لا رفيقة حياته وابنه، ولا عمره الذي يفوق ضعف عمرها، ولا القواعد الاجتماعية الصارمة في هذا الشأن. وبدأت تكره العودة إلى المنزل حيث والدتها في انتظارها، فعاشت حبهما سراً، وتشبث كل منهما بالآخر في علاقة تسلطية هيمنت على حياتهما الخاصة. وأرادها رودان له وحده، تنحت تمثاله النصفي ليبقيه ذكرى حية في التاريخ، تكون النحاتة المفضلة لديه، الموديل الوحيد له، وتختصر جنون حبه الذي سيطر عليه. فاستأجر لها منزلاً ومشغلاً، شكل السقف الذي خبأ حبهما السري... لفترة وجيزة فقط، اذ ما لبثت علاقتهما ان ظهرت إلى العلن متمردة على كل الأعراف الاجتماعية. كانت في الرابعة والعشرين فيما رودان في الثامنة والأربعين، وقد يكون في عمر والدها. نجحت في أن تثبت أنها يده الفنية اليمنى... على أن تثبت في ما بعد أنها نحاتة مستقلة عنه ما كان يشكل صعوبة كبيرة نظراً إلى ارتباط اسميهما في شكل وثيق. لكنها حملت منه، وغادرت إلى الريف حيث فقدت طفلها... وثقتها بنفسها. فهي حرمت من أبسط وسائل السعادة ولم تبلغ بعد السابعة والعشرين من عمرها ولم تحقق أياً من أحلامها الخاصة أو المهنية. إستقلت عن الجميع وعرفت كاميل في قرارة نفسها أن خلاصها يكمن في ابتعادها من رودان. فغادرت محترفه إلى غير عودة، واستقرت في محترف ثان خاص بها بعيداً منه ومن عائلتها معاً، على رغم أنها تابعت علاقتها به في شكل متقطع ومزاجي. وبدأت سنوات ذهبية بالنسبة إليها، رودان لا يصدق أنها هجرته ولا تحتاج إليه فيما هو في أمسّ الحاجة إلى نصائحها ووجودها بالقرب منه، الصحف والمجلات المتخصصة تمدح أعمالها الفنية، معارضها الناجحة تتالى وشهرتها الفنية تكبر وتنتشر. وبدأ رودان يشعر بغيرة فنية عمياء حيالها بينما هي تشعر بوحدة باردة وقاتلة. بلغت الثلاثين من عمرها محاولة العيش من فنها. صديقتها الوحيدة ناطورة المبنى الذي تسكنه، وما من أحد يسهر بالقرب من سريرها عندما تمرض. وتأخرت الثروة المادية التي وعدتها بها شهرتها الفنية لأنها مجرد امرأة وعرضة للأقاويل والاشاعات التي جرحت شعورها المرهف في العمق. صحيح أنها نظمت المعارض المتتالية وعرضت المنحوتات الرائعة... التي لم تستطع بيعها، لكنها كانت مرهقة جسدياً ونفسياً، إذ إنها كانت تعمل وحيدة من دون مساعدة أي عامل. أما رودان فكان يكدّس النجاحات الفنية بينما قواها تنهار بسرعة بسبب التعب وسوء التغذية. وكانت الصدمة القاضية اكتشافها منحوتة "بالزاك" العملاقة التي أمضى رودان عشر سنوات لإنهائها... سارقاً منها حلمها الخاص السري وطموحها الفني الوحيد. وبدأت بالنسبة إليها مرحلة السقوط في الهاوية: رودان يطير من نجاح الى آخر بينما هي تجرّد من كل شيء... حتى من منزلها ومحترفها. وبدأ الجنون يتملكها مقتنعة بأن رودان يحاول قتلها. فحاول شقيقها مساعدتها عبر تنظيم معرض لأعمالها السابقة، لكنها ظهرت كشبح للفنانة التي كانت في السابق. وبعد أقل من سنة، انهارت كاميل كلياً وحطمت كل أعمالها. فسجنت في مستشفى للأمراض العقلية حيث أمضت ثلاثين عاماً من حياتها، كتبت في خلالها رسائل مؤثرة تبرز عمق حزنها وألمها النفسي. رودان يتزوج عشيقته أما رودان فكانت شهرته متناسبة عكسياً مع سقوط كاميل، خصوصاً أن سخرية القدر جعلت الجميع ينبذون منحوتة "بالزاك" التي كانت بمثابة الشرارة التي فجرت جنونها. فهو كان يعرض 168 منحوتة في اضخم معرض أوروبي بينما هي كانت تتوجه إلى المستشفى. وذاعت شهرته في أوائل القرن العشرين وصولاً إلى طوكيو وكندا. وتزوج رودان أخيراً في السابعة والسبعين، روز، عشيقته ورفيقة دربه بعد 52 عاماً من الحياة معاً. فماتت هي بعد ثلاثة اسابيع على زفافهما، وتبعها هو بعد أقل من 10 أشهر. واحتشد الفنانون حول القبر الذي جمعهما رسمياً أخيراً، بينما منحوتته "المفكّر" تعلوه وحدها.