اللقاء مع المخرج العراقي قاسم حول يحمل جاذبية وغواية. فعمله المتنوع ما بين السينما والتلفزيون والكتابة، يمثل حلاً نموذجية للمثقف العراقي الذي ينتظر هدوء المشهد الدموي في بلاده للعودة من غربة طالت ثلاثة عقود من الزمن. ولمناسبة تكريمه من بلدية مدينة نابولي الايطالية كان هذا الحوار: هناك من يشبه أوضاع السينما في ايطاليا ما بعد سقوط الفاشية مباشرة بالأوضاع العراقية السائدة التي نلاحظ بدايات نهوضها الجديد بعدد من الأعمال الفنية هنا وهناك؟ - يمر العراق الآن في حال لا تشبه حال الكثير من البلدان التي مرت بها أنظمة نازية وفاشية مثل ألمانيا وإيطاليا واسبانيا. فالبنية التحتية لهذه البلدان لم تهدم مرة واحدة وإنما هي بقيت وتمت معالجتها ومن ثم ترميمها. اما في العراق، فإن قوات التحالف قامت بتهديم مؤسسات البنى التحتية ومنها المؤسسات الثقافية والإعلامية. بمعنى انه لم تعد هناك مؤسسات رسمية للسينما والتلفزة والصحافة، لأن العاملين في هذه المؤسسات كانوا يقادون من أشخاص ينتمون الى الفكر الفاشي الذي كان يفرض هيمنته على الحكم. هذه المؤسسات التي كانت تحمل خراباً كبيراً في بنيتها وتوجهاتها وأهدافها تم تهديمها كما انها سرقت، فمؤسسة السينما والتلفزيون مثلاً لم تعد فيها كاميرا واحدة. الشخص الذي يتسلم مسؤولية يتسلم غرفاً فارغة لربما لا تمتلك حتى طاولات الجلوس. نحن أمام فراغ كامل، نحتاج الى إعادة البنى التحتية الانتاجية للإعلام والثقافة. ان طبيعة النظام الذي تغير في العراق تحتم صيغة جديدة من العمل المؤسساتي، ففي الدول الديموقراطية المتحضرة، لا ينتمي الإعلام الى الدولة كما هي الحال في المؤسسات الشمولية والفاشية، في الدول الشمولية التلفزيون تابع لوزارة الإعلام، كذلك السينما تابعة ومرتبطة مباشرة بالسلطة. ونرى في الكثير من الدول ان الأعمال الثقافية تنتمي الى وزارة الإعلام وتُلغى وزارة الثقافة، لأن الفاشية تخاف من الثقافة. نحن أمام حال جديدة والعراق يرغب بالنهوض ليبدأ من الصفر، وهي مسألة معقدة للغاية، إذ كيف يمكن لمّ جمع الفنانين الذين يتوزعون في أرجاء المعمورة، وكيف نبني هذه المؤسسات والى من تنتمي هذه المؤسسات وما هي القوانين التي تحرك المؤسسات الثقافية والإعلامية؟ هذه هي الأسئلة المطروحة الآن على الساحة العراقية. قوات الاحتلال لا توجد لديها خطة اعلامية وثقافية واضحة في هذا الشأن. الآن على سبيل المثال هناك صراع معلن ما بين سلطة الاحتلال ومجلس الحكم الانتقالي العراقي: جهاز التلفزيون العراقي لمن ينتمي؟ لقوة الاحتلال أم للحكومة الموقتة ام انه مستقل؟ واذا كان مستقلاً، من الذي يديره ويصرف عليه؟ في الأوضاع التي يعيشها العراق يتحتم صدور قانون للإعلام يتسم بالديموقراطية يحدد طبيعة العمل المؤسساتي الإعلامي وكيفية عمل هذه المؤسسة سواء أكانت مسموعة أم مقروءة أم مرئية. في دول العالم المتحضر هذه المؤسسات تكون مستقلة ولا يمكن التدخل في شؤونها وتوجهاتها، وتأخذ دعماً من الدولة. وهذا يجب أن يحصل في العراق الجديد. دور المغتربين ما هو في رأيك دور السينمائيين والإعلاميين العراقيين الذين عاشوا فترات طويلة في بلدان الاغتراب في عملية المساهمة في إعادة تأسيس هذه المؤسسات؟ - الدور قائم، ومعظم المثقفين العراقيين كانوا ينتظرون سقوط النظام الفاشي في العراق، وهذه كانت حتمية تاريخية. ان السينمائي في شكل خاص يختلف الى حد ما عن الفنان التشكيلي وعن الروائي والشاعر، السينما تحتاج دائماً الى مكان موقع هو الوطن لتعبر عن الواقع الذي هو لغتها، فالسينمائي العراقي لا يمكنه عمل سينما عراقية من دون العراق. هذا الواقع اثناء فترة الفاشية وبعد سقوطها كنا نحمل له تصوراً يتمثل في إعادة البناء، اما الآن للأسف الشديد فإن الأمور أخذت مسرى مختلفاً ومؤسفاً حقاً، بل يدعو الى المرارة. فقد تأسست وزارة الثقافة لكنها لا تمارس المهمات المعروفة في الدول الديموقراطية حيث النهج يختلف عما نراه الآن. وزارة الثقافة في البلدان الديموقراطية هي وزارة تدعم الثقافة وتؤسس القاعدة الانتاجية لها، وتحافظ على تاريخ ثقافة البلد وأرشفته، تماماً مثلما حصل بعد التحول الديموقراطي في اليونان أو في اسبانيا بعد سقوط الفاشية. صراحة ما أراه الآن يدعو الى الضحك المر. الثقافة في الدول الديموقراطية يجب ان تتألق تحت رعاية مؤسسات السلطة وليس تحت هيمنتها. ألا تعتقد بأن عدم استجابة الكثير من السينمائيين العراقيين الذين يعيشون في بلدان الاغتراب نتيجة ارتباطاتهم بحياة تجذرت وساهموا بصنعها، وانتموا اليها، يحول دون خلق مثل هذا التواصل المرجو الذي أشرت اليه؟ - أنا أحد الناس الذين أشرت اليهم في سؤالك، أمامي خيارات محددة: هل أذهب الى العراق أم أبقى في مكاني حيث لي عائلتي وعملي وارتباطاتي؟ في العراق هل تتوافر امكانات العمل حالياً حيث لا توجد قوانين للسينما، ولا توجد قاعدة انتاجية، ولا توجد موازنة داعمة للانتاج، وثمة قوى ظلامية تهدد حياة الانسان، اضافة الى وجود فئات لم يكن لها في الماضي أي وجود تعتبر الآن الصورة من المحرمات؟ بالتأكيد هناك حوافز كثيرة تدفعني لعمل أي شيء للوطن. أنا أشعر حالياً بأن بقائي في الانتظار وتواصلي مع عملي الحالي ضمن أجواء الفرص الديموقراطية هو الخيار الأفضل لخدمة العراق، لربما هو بديل موقت حتى تصبح الحياة واضحة. عندما أدرت رقم الهاتف لأكلم تلفزيون العراق مثلاً رد علي صوت أميركي، وعرفت ان شركة اميركية تدير التلفزيون. ينبغي ومن الطبيعي ان أكون في الوطن، ولكن أدق باب من لكي يفتح الباب أمام عملي؟ هل أذهب لبريمر الحاكم العسكري الأميركي لأحاوره عن آلية واقع السينما؟ أنا لا أستطيع الجلوس في أحضان قوات الاحتلال كما فعل البعض، فهذه خياراتهم أو تاريخهم، أما أنا فأريد الوقوف أمام قوات الاحتلال وأحاورها، سأشكرها لأنها أسقطت الحكم الفاشي بعد ان تقاطعت مصالحها مع مصالح النظام السابق أو التقت مصالحها في ازالة النظام مع مصالحي نفسها، ولكن، عليها الرحيل من بلدي. يتحتم وجود خطة اعلامية وثقافية واضحة يساهم في صنعها السينمائيون والمثقفون العراقيون أنفسهم وليس قوات الاحتلال والمرتبطون بها... الاحتلال أمر واقع، ولكن هناك فارقاً بين أن تجلس في أحضان قوات الاحتلال وبين أن تجلس أمامها. دور الوقت هل تعتقد ان مثل هذا الأمر يمكن تحقيقه خلال ثمانية أو تسعة أشهر من سقوط مؤسسة فاشية كبيرة كانت تعمل خلال أكثر من ثلاثة عقود من الزمن لمحو كل أثر تقدمي في العمل الثقافي والإعلامي؟ - منذ بدايات صدور قانون "تحرير" العراق في الولاياتالمتحدة، وبالتحديد بعد عملية غزو دولة الكويت، بدأت عملية استدعاء العناصر التي تخطط لمستقبل العراق من النواحي الاقتصادية والسياسية والثقافية. والسؤال المطروح هو، هل ان هذه العناصر تحمل كفاية موضوعية ووطنية عراقية لخلق الممهدات الأساسية لعملية البناء؟ الإجابة ان لا أحد يعرف لحد الآن، بل ان الاميركيين لا يعرفون ماذا يريدون. ودليل ذلك التخبط الذي يعيشونه بعد كل هذه الفترة التي مضت على دخولهم العراق. انها دوامة غريبة جداً ولم يكن للعراقيين الحقيقيين دور جدي في المتغيرات الحالية، وفي اعتقادي ان الكثير من الأشخاص الذين تم استدعاؤهم كانوا أدوات تنفيذ لا أدوات تشريع. وفي المجال الثقافي والإعلامي فإن عدد الذين ذهبوا الى العراق لا يزيد على عدد أصابع اليدين من مجموع أكثر من ثلاثة آلاف مثقف. وهذا أمر يدعو للفخر في عراقية المثقف العراقي وحبه للوطن. أتعتقد أن القاعدة التي بنتها السينما العراقية لنفسها منذ منتصف الخمسينات، يمكن الاستناد إليها للانطلاق في بناء سينما عراقية جديدة؟ - ليست قاعدة بمعنى التطور النوعي، قاعدة تاريخية، فالأجيال العراقية تمتلك إرثاً مهماً، كبر دوره أم صغر تأثيره، لكن تلك القاعدة كانت خاضعة لشروط الأنظمة وسياسة الأحزاب السياسية، فهي لا تمتلك الاستقرار بسبب الصراعات التي عاشتها البلاد والتي لم توفر الشروط الموضوعية لعملية البناء الانتاجي المستقر كما هي الحال في دول أخرى. يتحتم الآن على الأجيال الجديدة الافادة من تلك البناءات وإعادة تنظيم المكتبة الأرشيفية العراقية وإعداد دراسات للتجربة السينمائية العراقية ككل بما فيها دراسة تجربة السينما الفاشية للعهد البائد. اعتقد ان احدى المهمات الأساسية للإعلام العراقي تتمثل في كيفية اجتثاث الكثير من الأفكار والقناعات من داخل الأوساط الاجتماعية والتي تتمثل في الفلسفة الشمولية التي زرعتها الأحزاب السياسية وفي شكل خاص حزب البعث وكل الأحزاب الشمولية الأخرى، إضافة الى توجيه سيكولوجية الشعب العراقي نحو النهج الديموقراطي في الفكر والتعامل والعلاقات والعمل والابداع. تعارض ما هل تعتقد ان عملك الحالي في المجال التلفزيوني يتعارض في شكل ما مع مشاريعك السينمائية؟ - هناك تطور في وسائل الانتاج والتقنية، والسينما كظاهرة مشاهدة ستبقى، لكن الذي يتغير هو شكل التقنية. أنا أعتقد ان الفيلم السينمائي كشريط بصري سيلويدي يحمض ويطبع، وكشريط صوتي مغناطيسي، هذه التقنية في طريقها الى الزوال. وبقدر ما تتطور العملية التلفزيونية بقدر ما يضمحل العمل السينمائي التقليدي. العمل السينمائي هو عمل عنيد غير قابل للتجزئة وغير قابل للتفكيك، في حين ان العمل الالكتروني والرقمي لا حدود له، يمكنك تفكيك أي عملية وتغييرها وتطويرها، وهذا النهج الجديد سيحل كتقنية تلفزيونية محل التقنية السينمائية التقليدية، بمعنى ان الكاميرا التلفزيونية ستحل محل الكاميرا السينمائية، الشريط التلفزيوني في شكله الرقمي والضوئي سيحل محل الشريط الصوتي السينمائي، كما ان حجم كمية المادة المنتجة سيصغر والكاميرات ستصغر، إذ لم تعد الأرشفة السينمائية مقيدة برقم 100 كيلو فما أكثر، بل ان الفيلم السينمائي يمكن أن يكون على سبيل المثال 250 غراماً عوضاً عن مئة كيلوغرام. هناك تطورات سريعة وتحمل صفة التكامل في العملية الانتاجية، وهذه في اعتقادي ستفرض العمل التلفزيوني. التلفزيون جهاز شائع ومؤثر في المتلقي، فنحن بحاجة الى استثماره، مع انني لا أحب مشاهدة أعمالي في صندوق صغير، في حين ان الظلام حين يطفأ في صالة السينما، أشعر بأنني في عالم حي مفتوح وليس في صندوق. أنا أحب السينما ولكن المرحلة الحالية وما تفرضه من شروط العيش والعلاقة مع المتلقي تفرض عليّ التعامل مع العملية التلفزيونية وان كان ذلك يحمل لي بعض الحزن، إلا ان عملي الحالي مع التلفزيون هو عمل واقعي لا يتعارض مع حلمي السينمائي. عندما أحصل على فرصة للعمل السينمائي الحقيقي سأتوقف عن التلفزيون لاحتضن عالم السينما الرحب. ولكنني أبحث عن فرصة مالية تتناسب وقيمة فيلمي الجديد "المغني"، فكاميرا السينما لا تحملها إلا الأيادي المصنوعة من الذهب. تم اختيارك رئيساً للجنة التحكيم في مهرجان إتيودا السينمائي في كراكوف في بولندا... فهل لتحرر العراق دور في هذا الاختيار؟ هل هناك مشاركة عربية في المهرجان؟ وما طبيعة الجوائز المقدمة للأفلام الفائزة؟ ومن هم أعضاء لجنة التحكيم؟ - نعم لقد تقرر ان يحتل العراق رئاسة لجنة التحكيم لمناسبة تخلص العراق من الفاشية وكنوع من التضامن الضمني مع الثقافة العراقية ومع حرية العراق. وقد جاء اختياري لرئاسة لجنة التحكيم نوعاً من التكريم للعراق وللمثقفين العراقيين والسينمائيين العراقيين في شكل خاص. وستعرض أربعة من أفلامي في الجامعة على هامش المهرجان وهي: "الأهوار" و"بيوت في ذلك الزقاق" و"الحارس" و"سيمفونية اللون". وبالنسبة الى الجوائز التي سنمنحها للأفلام الفائزة فهي ثلاث اساسية: الذهبية والفضية والبرونزية، إضافة الى جوائز لجنة التحكيم. والأهم في تقديري ان هناك جوائز لأفلام معاهد السينما في العالم. وهذا أمر غاية في الأهمية يتعلق بمسار سينما الغد ولغتها التعبيرية، وهذا النوع من الجوائز ليس من اختصاص لجنة التحكيم. عادة تخصص لجنة تحكيم خاصة وأحياناً تناط برئيس المهرجان، ولكنها جوائز مهمة ومسار صحيح في هذا المهرجان السينمائي الذي يبلغ عمره عشرة أعوام. أما اعضاء لجنة التحكيم، فإثنان من بولندا وواحد من روسيا ورابع من هنغاريا، اضافة اليّ. وفي كلمتي التي سألقيها في الافتتاح، سأطالب بدعم السينما العراقية والسينمائيين العراقيين. لاحظ ان وجودنا في الخارج هو أمر مهم للسينما العراقية ونحن عندما يكون العراق حراً فسيكون دورنا أكثر أهمية.