أمضى المخرج العراقي قاسم حَوَل نصف حياته في الترحال بين مدن عربية وأوروبية، باحثاً عن وطن وهوية، هارباً كغيره من المبدعين من قيود السلطة والأنظمة الاستخباراتية» كما يقول. إقامته في هولندا منذ 17 سنة، واحتكاكه بخبرات أجنبية، فتحا له المجال في أن يعيد قراءة أفكاره السينمائية وأن يطورها ويدعمها بنظريات قد تكون جديدة على المشاهد العربي، فتحرر ذهنه مثلاً من صيغة الفيلم العربي، وابتعد عن الصيغة التقريرية وخفف من الحوارات والإضافات «التي لا معنى لها». غادر حَوَل حول بلاده عام 1970 مضطراً، بعدما رفض تقديم الطاعة للنظام، وبعدما سُلبت منه أيضاً مجلته وشركته السينمائية وفرقته المسرحية. قصد بيروت وتنقل بعدها بين اليمن وليبيا وسورية واليونان وهولندا وتونس. عام 1975 عاد إلى العراق وأخرج فيلمين، الأول وثائقي عنوانه «الأهوار» والثاني روائي طويل هو «بيوت في ذلك الزقاق»، لكنه لم يستطع البقاء في العراق فقرر العودة إلى لبنان ليواصل رحلة المهجر على رغم ما فيها من عقبات وصعوبات. خلال تلك الفترة أنجز الكثير من الأفلام الوثائقية وحاز عدداً من الجوائز. تنوعت الأفكار في أعماله فقدم وثائقياً عن مجزرة صبرا وشاتيلا وآخر عن السلام في الشرق الأوسط للتلفزيون الهولندي وستة أفلام قصيرة في الصحراء الليبية عن عاداتها وتقاليدها، وفيلماً روائياً قصيراً «اليد» صوّره في سورية. بعد 30 سنة من الغياب عن العراق، عاد الى العراق ليقدم منه أحدث أعماله. ويقول حوَل في حديث ل «الحياة» إن ابتعاده 30 سنة كان أشبه بعملية رفض لفكرة الديكتاتور، «كنت قادراً على العودة ساعة أشاء عبر تسوية مع النظام، إلا أن فكرة العيش في ظل ديكتاتور ظالم لم ترق لي، خصوصاً بعدما عانيته من اعتقال وتعذيب». جرّب حوَل في أحدث أفلامه «المغني» أن يطبق ما اكتسبه من معرفة في أوروبا، فقدم فيلماً أنيقاً لا يشبه ما فعله في «بيوت في ذلك الزقاق» أو «عائد الى حيفا». يقول: « تغير وعيي السينمائي كثيراً بعدما دخلت ربوع أوروبا واستقبلت الروح الديموقراطية، فتخلصت من فكرة الخوف والكبت وتحررت منهما تماماً، وباتت قراءتي الواقع قراءة مختلفة تماماً». ويضيف: «تحرر ذهني من شكل الفيلم العربي وشكل الأداء، صرت أقرأ لغة السينما وأفكر فيها. وما بين تحديد قراءتي لغة السينما والمنهج السينمائي، توصلت الى نتائج حقيقية جرّبتها في فيلم «المغني». فكرت في أن الفيلم العربي هو فيلم تقريري يفتقر الى بنية المشهد، كما أنه مغرق بالحوار الذي لا معنى له، فالسينما هي اختصار الزمن والابتعاد من الثرثرة». ويروي الفيلم قصة مغنٍّ شعبي يُدعى لتقديم حفلة عيد ميلاد الرئيس - الديكتاتور، وفي الطريق اليها تتعطل سيارته، ويشهد الكثير من المواقف الدرامية. في انتظار وصوله، تجري أحداث عدة توضح ما عاناه العراقيون، وكيف أن الذل هو الطريقة الأفضل للوصول الى اللذة والاستمرار في السلطة. فقر السينمائي... خيبة من خلال تجربته، يرى مخرج «الأهوار» أن اليد الفقيرة لا تقوى على حمل الكاميرا، فهذه الآلة «تحتاج الى يد ذهبية قادرة على تحمّل نفقات ومصاريف باهظة، ومن دون ذلك لا يوجد سينما». ويضرب مثالاً على ذلك أنه حين انتهى من بلورة فكرة قصة ألف ليلة وليلة بتوليفة سينمائية جميلة، وبعدما عثر على مدينة مميزة لها هندسة معمارية غريبة هي حضرموت في اليمن، لم يستطع أن يؤمن إنتاجاً للفيلم. ويروي انه حين دعا والناقد السينمائي إبراهيم العريس وآخرين المخرج الإيطالي بازوليني الى بيروت لعرض بعض أفلامه ومحاورته، شاءت الصدف أن يكون الأخير يعمل على سيناريو لقصة ألف ليلة وليلة لكنه لم يعثر بعد على مكان مناسب للتصوير، فما كان من حوَل الا أن دله على حضرموت وصُوّر الفيلم وعرض في أقل من سنتين. ويشير صاحب «عائد الى حيفا» الى أن العمل في ظروف صعبة وفقيرة يحد من إمكانات الفيلم وانتشاره، ولذلك ظهرت سينما قياسية الشكل في أوروبا وأميركا، فيما بقي العرب يقدمون أفلاماً محلية، وربما هذا ما يبرر خلو أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما من أي عمل عربي، على حد قوله. ويبقى السؤال لماذا اختار حوَل تقديم فكرة الديكتاتور بعد مماته، في ظل وجود مشاكل معاصرة أكثر إلحاحاً، هل العمل تصفية حساب مع النظام؟ يجيب المخرج العراقي أن «الديكتاتورية مدرسة لا تنتهي. وهي تُخرّج باستمرار ديكتاتورات إنما بأشكال مختلفة: ديكتاتور بعمامة، وآخر بربطة عنق أو قبعة، لذلك علينا عدم التوقف عن تحليل فكرة الديكتاتورية». وعن الأفكار الجديدة، يوضح حوَل أنه انتهى من كتابة سيناريو عن سقوط المثقف وهو في انتظار ترجمته الى اللغة الفرنسية من أجل الإنتاج. وسيأخذ حوَل الحالة السيكولوجية لمثقف يدرك أنه سقط في فترة استثنائية. والعمل الجديد بحث ذهني وخطوة الى ما بعد «المغني». لم يلقًَ حوَل أي دعم عربي، أو من قبل وزارة الثقافة العراقية، للفيلم، ويرى أن الأخيرة في هذه المرحلة «تريد أن تقتل الثقافة العراقية»، ويقول: «عندما تسقط السياسة يسقط النظام، وعندما تسقط الثقافة يسقط الوطن». ويضيف: «نستطيع أن نقول إن ثمة أفلاماً عراقية، ولكن ليس هناك سينما عراقية، وإذا أردنا أن نؤسس لسينما، على الدولة أن تبني قاعدة مادية للإنتاج وأن تُشيّد مدينة سينمائية، وتؤمن كاميرات وأجهزة صوت ومونتاج، إضافة الى توافر حرية التعبير والحركة». ويعتقد حوَل أن من الصعب النهوض بالسينما العراقية، في ظل أيديولوجيات التحريم والتكفير. وعن أعمال السينمائيين العراقيين الشباب يشير الى أنها نشاطات فردية، ونوع من أنواع التعويض عن خسارة الوطن، مؤكداً صعوبة التأسيس لسينما اعتماداً على الأعمال التي تنتج خارج العراق. أما مشروعه السينمائي المعلق عن شخصية الحسين، فيوضح أنه عمل تحت رعاية العلامة الراحل محمد مهدي شمس الدين على سيناريو الفيلم، وأبدى الأخير ملاحظاته الفقهية ونُفذت التعديلات، وكان سيوصي في إصدار فتوى تقضي بظهور شخصية السيدة زينب في الفيلم أيضاً، بيد أن الموت باغته، وتوقف العمل في الفيلم لعدم توافر جهة ممولة. ومنذ فترة عرضت جهة حكومية عراقية على حوَل أن تتبنى المشروع، ووافقت على جميع شروطه ومنها أن يُقَدم أجره الى عوائل الشهداء، وأن لا يتدخل أحد في السيناريو وأن يوقع العقد في مقام الحسين. الا أن تلك الجهة وبعدما وافقت على جميع البنود، طلبت من حوَل أن يضاعف موازنة الفيلم، فرفض. ويؤكد المخرج العراقي أن ثمة جهة خليجية حالياً مهتمة في إنتاج الفيلم. وقاسم حول يعتبر أحد مؤسسي تيار السينما العربية البديلة الذي تأسس في دمشق عام 1970 وأحد مؤسسي اتحاد السينمائيين التسجيليين العرب وعضو الأمانة العامة واللجنة التنفيذية للاتحاد، وله عدد من المؤلفات منها «تأملات سينمائية» و «بستان السينما». أخرج أكثر من عشرين فيلماً وثائقياً وروائياً، ونالت أعماله الكثير من الجوائز وبينها جائزة ذهبية وجائزتان فضيتان.