هل من معنى لسؤال الهوية اليوم في عالم اصبح يتسم أساساً بغياب الخطوط المرجعية، عالم صار يفرض علينا، بما يتسم به من جدة، اعادة النظر لا في الأجوبة التي نقترحها، وانما في الاسئلة التي نطرحها؟ فحتى وقت غير بعيد كان يبدو لنا من المشروع التساؤل عما يميزنا ويحددنا، عما ومن يطابقنا، ما ومن يخالفنا. كنا نحاول تحديد ذواتنا فردياً وقومياً داخل عالم محدد المعالم. كنا نبحث عن مكان في رقعة مرسومة مبوّبة، رقعة "معقولة". فكان من السهل علينا ان نتخذ مكاننا فيها: فكنا شرق غرب او جنوب شمال او ثالث اثنين. اما اليوم فاننا نتساءل عن الحدود في عالم بلا حدود، ونبحث عن مرجعية في فضاء بلا مرجعيات، وعن لون خاص في عالم بلا ألوان جغرافية وتجارية وسياسية، ولكن ايضاً بلا ألوان ثقافية وفكرية. ان ما يميز عالم اليوم، اي العالم وقد اكتسحته التقنية، هو غياب الاختلاف، اي سيادة التنميط والاحادية. لقد اصبحنا نتغذى الغذاء ذاته ونرى الصورة عينها، وننفعل الانفعال نفسه. اصبحنا موحدي المظاهر والأذواق والاحساسات والانفعالات. وليست استثني هنا جهة او بلداً يكون موجهاً للعبة متحكماً فيها، واعياً بخفاياها، حائكاً لخيوطها. فكلنا في النمطية سواء. لقد غدا الفكر، ولأول مرة في التاريخ، فكراً كوكبياً كونياً. وهذا ليس لافتراض كونية ميتافيزيقية وفكر شمولي، وانما للتغير الذي لحق الوجود بفضل اكتساح التقنية فأصاب، تبعاً لذلك، مفهوم العالم. ما يطبع العالم اليوم هو انتشار موحد لنماذج التنمية والمخططات وتطور ادوات التواصل واكتساح الاعلاميات لكل الحقول، وفرض لمفهوم جديد عن الزمنية. وكل هذا لم يعد يخص منطقة من مناطق العالم دون أخرى. فالكونية لا هوية لها، بل انها هي التي تحدد اليوم كل هوية. على هذا النحو لا يغدو الانخراط فيها او عدم الانخراط وليد قرار إرادي يتخذه فاعل سيكولوجي او هوية ثقافية، وانما الانخراط قدر تاريخي يرمي بانسان اليوم في الكون، وبالفكر في الكونية. يتعذّر علينا، والحالة هذه، ان نميز بين خصوصية تحنّ الى العالمية وأخرى تهابها أو ترفضها. بل ان ما دأبنا على التمييز بينه من أصالة ومعاصرة ربما فقد كل معنى، اذ يظهر ان كل اصالة لا يمكنها اليوم ان تكون الا كيفية من كيفيات المعاصرة، وربما غدا من المتعذر حتى تمييز الأصيل عن غير الأصيل باطلاق. فكل ما هناك كيفيات اصيلة للمساهمة في الكونية والمشاركة في العالمية. الاان اصالة هذه الكيفيات لا تُستمد من تجذر زمني ولا من ميزات متفردة، بل هي كيفيات أصيلة لأنها تسعى نحو خلق شبكات مقاومة تحاول الانفلات من التنميط، اي تسعى نحو خلق الفروق وإحداث الاختلافات، تسعى نحو بناء الذات وتملك الآخر. هذه الشبكات هي النسيج الذي يمكن للمثقف اليوم ان "ينخرط" فيه شريطة الا تُفهم المقاومة هنا كما تكرس من خلال نظريات طالما تم تبنّيها عن المثقف، كنظرية المثقف الملتزم، او نظرية المثقف الواعي بحركة التاريخ المدافع عن المصالح الطبقية، او المثقف المتكلم باسم المستضعفين، المثقف ضمير التاريخ او المثقف المتياسر بالطبع. لكن شريطة ألا تفهم المقاومة كذلك صراعاً بين قوى "خارجية" وقوى مضادة، وألا تُدرك بوصفها انضواء للفكر والتزاماته لمصلحة تلك القوى. ها نحن نرى ان الأمر يتطلب اعادة النظر في كثير من المفهومات: مفهوم الفكر كتعبير عن شيء خارج عنه، ومفهوم البراكسيس الممارسة كتطبيق لنظرية، ومفهوم الوعي كمعطى أوّلي، ومفهوم الذات كهوية لا ينخرها الاختلاف. وإن نحن اخذنا في الاعتبار اعادة النظر هذه لن تعود مهمة المثقف خدمة ايديولوجية بعينها، ولا تكريس قيم جاهزة، ولا الدخول في صراع مع قوى "خارجية"، وانما تحرير قوى الحياة، والسماح لحياة قوية بالتفتح، لا تنصيب المقاومات هنا نفسها قوة "تقف" الى جانب الخير، فتعلنها حرباً على قوى الشر. وانما تتشابك في علاقة مع ذاتها. هنا يأخذ الفكر معناه الاستقامي كانعكاس ومراجعة للذات Reflexion. وهنا تكون المقاومة مقاومة التنميط، لكنها تكون كذلك مقاومة التقليد، اي تكون سعياً وراء التحديث. لذا فان نقاط ارتكازها تغدو "باطنية" افتراضاً بان المثقف ذاته وعي ولاوعي، حداثة وتقليد، نمطية وانفلات عنها. وها هنا لا يعود الفكر "تعبيراً" عن قيم خارجية عنه، ولا التزاماً بإيديولوجية، ولا تطبيقاً لنظرية، ولا نضالاً في خدمة مؤسسة. لا ثابت هنا يتخشّب ويتوحد ويتجمد ويغدو تكراراً لنفسه واستنساخاً لذاته. كل ما هناك أشكال متفردة لقمع قوى الحياة ومحاصرتها وتضييق الخناق عليها، فأشكال ملائمة للمقاومة وتحرير قوى الحياة. بناء على ذلك لا تتحدث المقاومات بلونها ومضمونها و"هويتها"، بقدر ما تتعين بما تقوم به. انها لا يمكن ان تُعرّف الا إجرائياً واستراتيجياً، وهي مثل دروب هايدغر، تتعين بالمسار الذي تخطئه. لذا فهي لا يمكن ان تتشابك في مواقف ومدارس ومذاهب وتيارات. كل ما في امكانها هو ان تشكل شبكات هي بالضبط شبكات مقاومة النمطية لابداع هوية ما تفتأ تتجدد.