يقابل البعض العولمة بالعالمية والشمولية مقابلة الشر والخير، والاحتواء للانفتاح، والخضوع للتفاعل. العولمة، من هذا المنظور، هي التي تنشدنا وتستهدفنا، أما العالمية فنحن الذين ننشدها ونهدف إليها. العولمة سلب للخصوصيات وقضاء عليها، أما العالمية فتفاعل بين الخصوصيات وتلاقح بينها. قبل أن نتساءل عن مشروعية هذه التقابلات، ربما وجب الانطلاق من الاعتراف المبدئي بصعوبات الخوض في مسألة العالمية هذه. ولعل مصدرها الدولي تعدد المفهومات المستعملة بهذا الصدد. فإضافة إلى المصطلحين اللذين أشرنا إليهما هناك مفهومات الفكر الكوني والفكر الكوكبي، إضافة إلى مفهوم العالمية ومفهوم العالم ذاته. توضيحاً للمسألة سننطلق من مسلمة أولى وهي ان لمفهوم العالمية، شأنه شأن مفهوم العالم، تاريخاً. فعلى عكس الرؤية الميتافيزيقية التي تفترض فكراً شمولياً عالمياً يتعالى عن الاختلافات اللغوية والفروق الحضارية نسلم هنا بأن للعالمية تاريخاً، وأن الفكر أصبح، ولأول مرة في التاريخ، وبفضل سيادة التقنية فكراً كونياً أو كوكبياً، وهذا، ليس لافتراض كونية ميتافيزيقية وفكر شمولي، وإنما للتغير الذي لحق بمفهوم الوجود ذاته، بفضل اكتساح التقنية، فأصاب، تبعاً لذلك، مفهوم العالم. الكوكبية إذن هي العالم وقد سادته التقنية، شريطة أن نأخذ التقنية هنا في معناها القوي، من حيث أنها اكتمال للميتافيزيقا، وانقلاب انطولوجي لحق الوجود ذاته وعيّنه كإرادة قوة، فبدل مفهوم الحقيقة، وغير علاقة الانسان بالانسان وعلاقة هذا بالوجود. ذلك أن ما يطبع العالم اليوم وما جعل منه "قرية صغيرة" من انتشار موحد لنماذج التنمية والتصاميم والمخططات وتطور أدوات التواصل واكتساح الاعلاميات لكل الحقول، وفرض لمفهوم جديد عن الزمان، ان كل هذا لم يعد يخص منطقة من مناطق العالم دون أخرى. الكونية هنا هي الكوكبية. إنها عصر من عصور العالم، وشكل من أشكال الحقيقة. الكونية لا هوية لها، بل أنها هي التي تحدد اليوم كل هوية. على هذا النحو يصبح الانخراط فيها ليس وليد قرار إرادي تتخذه ذات سيكولوجية أو ثقافية، وإنما هو قدر تاريخي أصيل يرمي بإنسان اليوم في الكون، وبالفكر في الكونية. ويصعب علينا، والحالة هذه، أن نميز بين عالمية تعشقنا وأخرى نعشقها، ما دمنا معشوقين في الحالتين كلتيهما، كما يتعذر علينا أن نميز بين خصوصية تحن إلى العالمية، وبين أخرى تهابها وتكون ضحيتها بل أن ما دأبنا على التمييز بينه من أصالة ومعاصرة ربما فقد كل معنى. إذ أن كل أصالة لا يمكنها اليوم أن تكون اللاكيفية من كيفيات المعاصرة. فربما تعذر اليوم تمييز الاصيل عن غير الأصيل. كل ما هناك هو كيفيات أصيلة للمساهمة في العالمية والمشاركة في الكوكبية.