ضاع وسط ضجة اعتقال صدام حسين وذيوله خبر اهم، أو أبقى، هو احتفال مؤسسة الدراسات الفلسطينية بمرور 40 سنة على تأسيسها في لبنان. المؤسسة احيت ذكرى التأسيس بأمسية شعرية في القاعة الكبرى في قصر اليونيسكو يوم الثلثاء الماضي. وغصت القاعة على وسعها بالحاضرين، فنصبت شاشة تلفزيون كبيرة في الخارج، واستمع نحو ألفي شخص الى محمود درويش يلقي بعضاً من شعره، وإلى الفنان مارسيل خليفة يعزف على العود، وامتزجت موسيقى الشاعر، بشاعرية العازف في ليلة لن ينساها كل من اسعده الحظ بحضورها. وتحدث في الحفلة الدكتور هشام نشابة، رئيس مجلس امناء المؤسسة، والأخ باسل عقل، عضو مجلس الأمناء وعضو اللجنة التنفيذية للمؤسسة، وأعادا الحاضرين الى الأرض، فمؤسسة الدراسات الفلسطينية تواجه صعوبات مالية كبيرة ادت الى إلغاء مشاريع وتقليص اخرى، مثل وثائق القضية والكتاب السنوي والملف العبري، مع وجود عشرات المخطوطات التي تنتظر التمويل لتجد طريقها الى النشر. نظرة واحدة الى اسماء الأعلام الذين شاركوا في إطلاق المؤسسة سنة 1963 تغني عن اي شرح، فقد كانوا نخبة النخبة وهم الياس الجميل وشارل حلو وسعيد حمادة ووليد الخالدي وبرهان دجاني وقسطنطين زريق وفؤاد صروف ونجلا ابو عز الدين ونبيه فارس ووداد قرطاس وإدمون رباط. وبقي معنا من هؤلاء وليد الخالدي ونجلا ابو عز الدين، امد الله في عمريهما، وخلف الكبار نخبة جديدة من افضل العقول العربية في لبنان وفلسطين والمغرب العربي والخليج، إلا ان المجال يضيق عن سرد الأسماء. ولن اذكر بعضها وأهمل بعضاً آخر. على مدى 40 عاماً من العمل الدؤوب اصدرت المؤسسة اكثر من500 كتاب بالعربية والإنكليزية والفرنسية والإسبانية، ومعها اربع مجلات فصلية، اثنتان بالإنكليزية من واشنطن والقدس الشرقية، وثالثة بالفرنسية من باريس، ورابعة بالعربية من لندن. وعلى رغم الضغوط المالية المستمرة، فللمؤسسة الآن مكاتب في بيروتوواشنطنوباريس والقدس الشرقية يعمل فيها نحو 50 باحثاً متفرغاً، كلاً في مجال اختصاصه. اما مجلس الأمناء فهو من المتطوعين الذين يبذلون من جهدهم ووقتهم ومالهم لضمان استمرار العمل. ولعل اهم ما توفر المؤسسة للباحث هو مكتبتها الهائلة التي تضم اكثر من 50 ألف مجلد تتناول مختلف نواحي القضية الفلسطينية، ومعها مجموعة نادرة من الوثائق والصور الفوتوغرافية والأفلام والأوراق الخاصة، ومئات الدوريات والصحف العربية والأجنبية. تنفق المؤسسة على نشاطها هذا من الريع السنوي لوقفيتها ومن تبرعات المشجعين، ومن عائدات كتبها ومجلاتها، إلا ان المعونات العربية قطعت تماماً في العقد الأخير، وتزامن ذلك مع تراجع وقفيتها بسبب انكماش الأسواق المالية العالمية، واضطرت المؤسسة في السنوات الأخيرة الى السحب من رأس مال الوقفية لتغطية موازنتها التجارية التي تبلغ 5،2 مليون دولار سنوياً. وكان الدكتور وليد الخالدي، استاذي وصديقي، زارني في مكتبي قبل اسابيع وعرض عليّ الوضع المالي المتردي للمؤسسة، ووعدته بالمساعدة، خصوصاً مع اصدقاء في الخليج انا واثق من انهم لن يخذلوا المؤسسة او يخذلوني، فهي صحبة عمر. غير انني ارجو من كل عربي قادر في كل بلد ان يساعد مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي سبق تأسيسها منظمة التحرير الفلسطينية بسنتين، ولا يزال شيوخها يعملون بهمة الشباب. اذا كانت هناك قضية عربية كبرى او اولى فهي القضية الفلسطينية، وإذا كانت هناك مؤسسة فكرية من مستوى القضية فهي مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي لا تزال الأقدم والأهم في مجال تخصصها. وهي قامت على أكتاف عرب من مختلف اقطار هذا الوطن مع الفلسطينيين او قبلهم. اقول انه لا يجوز ان يزورني استاذ من مستوى وليد احمد الخالدي في مكتبي ليحدثني عن صعوبات مالية تواجهها المؤسسة، فالمفكرون الكبار، وهم قلة نادرة في الوطن يجب ان يتفرغوا للإنتاج الفكري، او يجب علينا ان نفرغهم للعطاء الذي لا يقدر عليه سواهم. اعرف ان الأوضاع صعبة، وأقدر ان هناك احباطاً عاماً بدأ يصيبني مع من اصاب، غير انني اعرف كذلك انه في مقابل مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي تمثل اهم معاقل الدفاع الفكري عن القضية هناك عشرات المؤسسات الإسرائيلية واليهودية، في اسرائيل، وحول العالم، التي تنسج الأساطير، وتبث الكذب، وتجد آذاناً صاغية. كانت امسية محمود درويش ومارسيل خليفة، رائعة، ذكّرت الحاضرين بما كان يمكن ان يكون لو ان العرب احسنوا استعمال ما حباهم به الله من عقول ومواهب. وقد كانت لي تجارب طيبة مع القراء القادرين في السابق، وقام من بينهم من انقذ مؤسسات ومطبوعات انتصرت لها، وأرجو ان ينتصروا اليوم لواحدة من اهم مؤسسات الفكر العربي، وتكون لنا امسيات اخرى في اجواء افضل.