يعقد مجلس التعاون لدول الخليج العربية قمته الرابعة والعشرين في الكويت. وهذه القمة لم تنقطع قط منذ إنشاء المجلس، رغم الأنواء العاتية التي مرت بالمنطقة داخلياً وخارجياً. ومنذ إنشائه كان على المجلس ان يواجه تحديات جسيمة وان يتعامل معها، وبصرف النظر عن تقويم المجلس وأدائه إلا أن مجرد استمراره يعبر عن إرادة صادقة لدى أبنائه وعن إيمانهم بوحدة مصيرهم . وبإستعراض سريع لعناوين الأحداث الكبرى التي اجتاحت المنطقة والعالم خلال مسيرة المجلس ندرك حجم تلك التحديات: فإنشاؤه المجلس ترافق مع الثورة الإسلامية في إيران، والإحتلال السوفياتي لأفغانستان وما تلاه من حرب استعرت في أفغانستان، وجند فيها كل طرف إمكاناته لمواجهة الطرف الآخر. وقدم العالم الإسلامي دعماً فاعلاً لهذه الحرب لمواجهة الشيوعية وغزوها لأفغانستان. ورغم هزيمة الإتحاد السوفياتي وخروجه من أفغانستان ثم إنهياره، إلا أن إنعكاسات تلك الحرب لم تتوقف حتى يومنا هذا، اذ عاد الشباب المتحمس إلى بلاده التي رأت فيهم خطراً داهماً، فأوصدت الأبواب في وجوههم فاتجهوا ثانية إلى افغانستان، وبدأوا العمل السري هناك ولكن هذه المرة ضد حكوماتهم، مما حول أفغانستان إلى بؤرة للتطرف الديني و مما مهد الأرض وشكل إرهاصات لأحداث تلت. وشكل غزو النظام العراقي السابق للكويت نقطة تحول خطيرة في تشكيل المنطقة وفي واقع تحالفاتها، بعدما تشكل تحالف دولي بقيادة الولاياتالمتحدة لإخراج العراق من الكويت. ولا يستطيع أحد أن ينكر الخدمة الكبرى التي أدّاها الرئيس العراقي السابق صدام حسين للولايات المتحدة، حين برر دخولها و تمترسها في المنطقة، اذ دخلت قواتها محرِّرة ومنقذة لها من براثن صدام حسين . إن للسناتور بيرز من الكونغرس الأميركي رأياً جديراً بالإهتمام حين يرى أن التطرف الديني الذي ساد المنطقة كان احدى نتائج عودة الشباب العربي من أفغانستان، ولكن السبب الآخر هو عجز الخليج عن الدفاع عن نفسه، واعتماده على الولاياتالمتحدة مما أثار المشاعر الدينية التي ظلت تتفاعل تحت الرماد حتى وصلنا إلى الوضع الذي نحن فيه من عداء للولايات المتحدة، وكان من نتائجه أحداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر. هذه الأحداث خلقت وضعاً دولياً جديداً وأوجدت خطاباً سياسياً غير مسبوق بالحديث عن الإرهاب والديموقراطية وحقوق الإنسان، وتطوير التعليم وإعادة النظر في الخطاب الديني والإصلاح. وأصبح كل يدعي وصلاً بليلى والكل يتسابق في الحديث عن هذه العناوين الكبيرة ولكن الشيطان في التفاصيل. وأصبحنا في منطقة الخليج شأننا شأن العالم كله في خضم هذا المعترك، تتلاطمنا الأمواج من كل جهة، بل إن النار أخذت تحرق الأصابع، وأصبح العنف بين ظهرانينا وفي مواجهة مباشرة معه. ويأتي الإحتلال الأميركي للعراق كتطور مهم له إنعكاساته المستقبلية وصرف الكثير من المداد ولا يزال عن هذا الموضوع الشائك، وهي مرحلة بدأت ولكنها لم تنته فصولاً، وقد يحتاج الأمر إلى الكثير من الوقت لتتضح الصورة وتكتمل المعالم و يصبح التقويم أكثر إمكانية ودقة. العراق بلد عربي مسلم جار يقع في قمة الخليج ويتمتع بموقع إستراتيجي مهم وبإمكانات إقتصادية وبشرية وتعددية وخلفية حضارية تجعل من إستقراره ضرورة لا غنى عنها لإستقرارالمنطقة ككل. كما أن الجميع لن يكونوا في منأى عن المخاطر إذا إستمرت الفوضى الضاربة بأطنابها في العراق. ولن يتحقق الإستقرار للعراق إلا بعودة حريته وسيادته والمحافظة على وحدته. ومن الأهمية بمكان لدول الخليج أن تبذل كل جهد نحو هذا الهدف. إن جرح العراق إن إستمر لا سمح الله فإن عواقبه لن تكون بأقل من عواقب إحتلال الإتحاد السوفيتي لأفغانستان. إن علاقاتنا المميزة مع الولاياتالمتحدة يجب أن تستثمر في حوار صريح يساعد تقويم الأوضاع تقويماً سليماً ودقيقاً. إن الممارسات الأميركية القائمة على جهل بواقع العراق، بالإضافة إلى دعمها لإسرائيل يشكلان أكبر عامل تحريض للرأي العام العربي الإسلامي. يضاعف من ذلك ممارسات متطرفيها في الإدارة وخارجها، وتصريحاتهم ضد الإسلام . إن كل ذلك يشكل أكبر معين وداعم للتطرف في المنطقة. إن سقوط نظام صدام حسين في حد ذاته تطور إيجابي وتاريخي، اذ أدخل هذا النظام المنطقة في دوامة من العنف والإضطراب كما أدى إلى عزل العراق واستنزاف إمكاناته. وكان إستمرار هذا النظام يعني إستمرار كل ذلك... وكنا نتمنى أن ينتهي هذا النظام على يد العراقيين، فنحن في الخليج معنيون بالعراق وإستقراره أكثر من غيرنا ولا يأتي في ذلك قبلنا لا العراقيين أنفسهم. ولا يستطيع أحد أن ينكر ارتباط العراق البشري والجغرافي والإقتصادي والمصلحي بالخليج. إن فك أسر العراق وانفتاحه على محيطه وعلى العالم سيجعله مؤثراً وموجوداً. وهذا ما يجب أن ندركه، وبدت بوادره منذ الآن رغم الإحتلال بطلبه الإنضمام إلى مجلس التعاون. وبصرف النظر عن الموقف من هذا الأمر وتوقيته وكيفيته. فإن العراق كان في سجن كبير حال دون دوره السياسي والثقافي والفكري، وهذا لن يكون مستقبلاً حين يستعيد العراق عافيته ويعود إلى الدور المتناسب مع إمكاناته. إن أحداث 11 سبتمبر وما تلاها من تطورات مس الكثير من المسلمات، وأثار الكثير من الجدل حول قضايا حيوية تمس هوية الأمة ومستقبل أجيالها سياسياً وثقافياً. والواقع أننا نتحمل عواقب الرتابة والركود وتأجيل الإصلاح، بحيث كان شعارنا ولفترة طويلة هو المحافظة على الوضع الراهن، وكأننا لا نتغير وكأن العالم لا يتغير من حولنا، بحيث بدا الإصلاح وكأنه مفروض علينا من الخارج. فأوضاعنا التعليمية ليست بالمستوى المطلوب لئلا نقول أكثر من ذلك، وكذا الأمر في ما يتعلق بحقوق الإنسان وبالمشاركة الشعبية، و ما كان علينا أن ننتظر الآخرين لكي يطالبوننا بالإصلاح ويتخذون منه وسيلة للتدخل في شؤوننا. إننا أمام قضايا حيوية ويجب أن تنبع الحلول من داخلنا، وبقناعتنا ولا يمنعنا شنآنقوم ألا نعدل، بمعنى لا يمنعنا من السير في طريق الإصلاح، وما يتفق وديننا الإسلامي الحنيف ومتطلبات مجتمعنا، وما تفرضه التطورات الثقافية والعلمية من حولنا، لمجرد أن الآخرين يطالبوننا بذلك. نحن في أشد الحاجة أن نفكر بصوت مسموع، وألا نضيق ذرعاً بالرأي الآخر، فسيادة الرأي الواحد هو سبب تراجعنا وسبب تراكم مشاكلنا لأنها لم تطرح في الوقت المناسب. إننا في حاجة إلى حوار وطني على مستوى الخليج يشارك فيه المواطن والمسؤول حول التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهنا وكيفية التعامل معها بصورة صحيحة. إن مراكز الدراسات والجامعات في العالم المتقدم تلعب دوراً حيوياً في تقويم الحاضر واستشراف المستقبل. لقد كنت في واشنطن منذ عدة أشهر والتقيت بعدد من المسؤولين في أحد مراكز الدراسات الإستراتيجية والمهمة المؤثرة في الولاياتالمتحدة. وحرصت على الإطلاع على الدراسات التي أعدت عن العراق قبل الإحتلال الأميركي وبعده. ولاحظت أن معظم هذه الدراسات التي تشكل مصدر معرفة لصانع القرار في اميركا كتبها كلها باحثون في الجامعات الإسرائيلية بإعتبارهم من المنطقة والعارفين بها أو من الباحثين المعروفين بتعاطفهم مع السياسات الإسرائيلية. ولذلك لا غزو أن اتخذت السياسات الأميركية المنحى الذي نعرف. ومن الظلم أن ندعي أن الساحة الأميركية تخلو من مراكز الدراسات الموضوعية سواء في الجامعات أو خارجها مثل مركز دراسات الشرق الأوسط، ومراكز الدراسات في جامعة جورج تاون وفي جامعة كولومبيا. وتلعب هذه المراكز دوراً في التوعية. ولكن هناك مشروع قانون مطروحاً الآن للتصويت في الكونغرس وقد مرره مجلس النواب، ويهدف هذا القانون إلى مراقبة مراكز الدراسات المعنية بالمناطق الإقليمية وبالذات الشرق الأوسط وتشكيل لجنة لتقرر المسموح به والممنوع تدريسه للطلبة من هذه المراكز، لتكون كل هذه المراكز خاضعة لتوجهات الإدارة الأميركية. وبالتالي وقف الدعم الذي يقدم سنوياً للمراكز التي لا تلتزم هذه السياسة، وصائغو هذا القانون ثلاثة من عتاة اليمين الجديد بايبس وكرتس وكريمر. أن هذا القانون يمس قيمة كبرى من القيم التي تفخر بها أميركا وهي حرية البحث الأكاديمي. إن الإصلاح على كل لسان، ولا خلاف على أهمية الإصلاح ولكن كيف يتم الإصلاح و بأي وتيرة وفي أي إتجاه. الإصلاح لا يعني بالضرورة أن هناك أخطاء يجب إصلاحها بل يعني أن الحياة الإنسانية بطبيعتها متغيرة ومتطورة، وإذا لم يوضع هذا الأمر في الإعتبار فإنه يقود إلى الركود والتراجع. وحرية التعبير والشفافية هي السبيل لجعل القرار المناسب في الوقت المناسب إن التوقيت عامل حيوي ومهم للإصلاح، وإلا أصبح الإصلاح أكثر إستعصاءً. إن الأخطار والتحديات التي نواجهها تتطلب الوحدة بين الحاكم والمحكوم، إن المشاركة الشعبية واحترام حقق الإنسان والعدل ومحاربة الفساد كلها عوامل يحث عليها ديننا الإسلامي الذي يفرض الشورى ويحث على إحترام الإنسان خليفة الله في ارضه ويحذرنا من الفساد والمخاطر ويدعونا إلى العدل والمساواة. إن تجاهلنا لهذه المبادئ هو الذي أعطى المجال للأجنبي لرفع هذه الشعارات كوسيلة لتبرير تدخله وتحسين صورته، ووجد من يتعاطف معه ليأس أن يأتي الإصلاح المطلوب من دون تدخل منه. أريد أن أتوقف قليلاً عند تجربة الهيئة الإستشارية للمجلس الأعلى لدول الخليج العربية، وهي تجربة أولى في العالم العربي اسست قبل ست سنوات، وتشكل نواة لبرلمان خليجي. تتكون من ثلاثين عضواً، وترفع توصيات الى المجلس الأعلى في الموضوعات المحالة إليها وقد إختارت الدول لعضوية هذه الهيئة شخصيات تتمتع بالخبرة والمعرفة والمكانة السياسية، وكان هذا في حد ذاته مؤشراً إلى الأهمية التي توليها الدول لهذه الهيئة. وإنعكس ذلك على مناقشات الهيئة التي اتسمت بالموضوعية وتعدد وجهات النظر. ويلاحظ أن الموضوعات التي أحالها المجلس الأعلى على الهيئة موضوعات حيوية وإستراتيجية، منها على سبيل المثال لا الحصر: التعليم، والعلاقات مع الكتل الإقتصادية والعمالة الآسيوية، والإعلام، والشباب، والمرأة. والملاحظة الجديرة بالذكر أن المجلس الأعلى وافق على التوصيات التي أقرتها الهيئة. بقي أن نشير إلى أن الهيئة، وفي جو من الحرية التي إتسمت بها مناقشاتها طرحت موضوع تطويرها. ورغم أن بعض الأعضاء لم يكن متحمساً لهذا الأمر، بإعتبار أن نظام الهيئة لا يسمح بذلك. إلا أن التشجيع الذي وجدته الهيئة من رؤساء الدول في لقاءاتهم معها حين حضّوها على أخذ المبادرة شجعتها على تشكيل لجنة لدرس وضعها وتقديم أفكار محددة لتطويرها بحيث تتلاءم والتطور الذي حدث في الدول منفردة في مجال المشاركة الشعبية. وبإقرار خطة التطوير ستأخذ الهيئة وضعاً جديداً، وستكون أكثر تأثيراً ومشاركة في مسيرة مجلس التعاون. في كل قمة خليجية تتجه الأنظار الى النتائج، وغالباً ما يكون التعليق أن النتائج لا ترقى إلى مستوى العلاقات التي تربط بين أبناء الخليج، ولا إلى مستوى التحديات التي تواجهها. وهذا تعليق إيجابي يبحث دائماً عن المزيد من الإنجازات. * سياسي قطري.