بعد مضي اكثر من سنتين، لا يزال الغموض يلف مجزرة 11 ايلول سبتمبر 2001، وهو ما تستخدمه الادارة الاميركية ذريعة لما تسميه "الحرب الدولية على الارهاب". ولكن هذا الغموض لا يمنع تبين حقيقتين: الأولى - ان الإدارةُ الأميركية الراهنة، ومن ورائها الطبقةُ الاحتكاريةُ والصهيونيةُ السائدة، تصرفتْ حتى الآن بطريقةٍ تؤكّد أنّ الهدف الرئيس الذي يهمّها هو تأمينُ المصالح الإمبريالية - الصهيونية وفرضُ الزعامة الدولية الأحادية. وقد استَخْدمتْ ولا تزال الضحايا الأميركيةَ البريئةَ ذريعةً للتوصّل إلى أهدافها الإستراتيجية. الثانية - إنّ القوة التي تقف خلف المجزرة، أياً كانت هويتُها، تعمَّدت هي أيضاً "التعبيرَ عن نفسها" عبر التدمير والضحايا البشرية، للوصول إلى أهدافها الإستراتيجية. وهذه ليست المأساة الانسانية الأولى. وهي لا تتميّز عن غيرها سوى في أنّها حدثتْ في أميركا بالذات. وقد قامت كلُّ هذه الضجة العالمية ضد العنف والإرهاب من أجل مسايرة أميركا، نظراً إلى المكانة "المميّزة" التي تتمتع بها في النظام الدوليّ الراهن، القائمِ على التمييز بين الدول والشعوب... حتى في الموت والمآسي. إنّ ظاهرة "الإرهاب" برمّتها، أياً كان المنطقُ والوسيلةُ والغايةُ التي تقودها، ليست سوى مظهر من مظاهر العنف، المبرَّرِ أو غيرِ المبرَّرِ. ولا يُمْكن فهمُ هذه الظاهرة والتصدِّي لها إلاّ في سياق طبيعة العنف ودوره في السيرورة التاريخية العامة للمجتمع الإنسانيّ. ومع كلّ إيجابيات "الليبرالية" و"الديمقراطية" الاستنسابية والمجتزأة، ومع كلّ الجوانب التقدمية للثورة الصناعية وثورة الاتصالات والجوانب الإنسانية المشروطة للعولمة، فإنّ النظام الإمبرياليّ المعاصر لم يمثِّل انقلاباً نوعياً معاكساً على "القاعدة الوجودية التاريخية" للعنف، بل هو كرَّسها بأكثر ما يكون من الوضوح والشفافية. ذلك أنّ هذا النظام، الذي قام على التمييز الاقتصاديّ المطلق، كَرَّسَ أو فاقَمَ جميعَ أشكال التمييز، بكلِّ ما تولِّده من الصراعات وآلياتِ تحقُّق العنف. ولا يزال العنف هو اللغة الأولى السائدة في العلاقات الوطنية والإقليمية والدولية. وان الطبقة الامبريالية - الصهيونية الطفيلية، ذات المصالح الطغموية الضيقة، تتخذ من "الانتاج" و"تجديد الانتاج"، المستمر والمتوسع، لتفوقها العسكري الكاسح، مرتكزاً لمحاولة فرض ارادتها على دول أو شعوب العالم بأسره، وتفصيل المجتمع الدولي على قياس تلك المصالح، بالقوة الفعلية المكشوفة او المتجلببة شكلاً وزوراً بالقانون الدولي. وقد وصلت هذه الطبقة الآن الى النهاية "المنطقية" العبثية لمسارها الطفيلي، المتمثلة في "اعادة انتاج" الاستعمار التقليدي ذاته، بكل مفضوحيته وهمجيته، وفي تعارض مطلق مع منطق التطور التاريخي، ومع مصلحة الغالبية العظمى من شعوب العالم قاطبة، التي تختنق بالازمة الاقتصادية العامة المستمرة للرأسمالية، الناتجة من طفيلية الامبريالية. والصفة الملائمة الوحيدة التي يُمْكن إطلاقُها على السلوكية التاريخية الراهنة للإمبريالية هي: الهمجية المعاصرة. ولأجل عدم خلط المفاهيم لا يسعنا إلاّ أن نجري مقارنةً بين "الهمجية" في ما قبل القرون الوسطى الإقطاعية، والتي يمكن ان نسميها "همجية المعوزين"، وبينها في العصر الإمبرياليّ الراهن، والتي يمكن ان نسميها "همجية المتخمين": - في ما مضى، قامت بعضُ الأقوام، كالجرمان والهون والمغول والتتار، بمهاجمةِ مراكز الحضارة وتدميرها في روما وبغداد وغيرهما. وكان أحدَ أهمّ محفّزات تلك الأقوام المحتاجة هو مركّب من الشعور بالغبن والطمع البدائي، الناجم عن التفاوت الكبير في استحواذ الثروة. وهنا يجب التوقُّفُ عند نقطة لافتة وهي أنّ التتار الذين وَجَّهوا ضربةً قاضيةً إلى الدولة العربية - الإسلامية، بما في ذلك وجهها الحضاريّ المشرق، عَمَدوا في الوقت نفسه إلى مصادرة العلماء والصنّاع العرب والمسلمين ونَقْلِهم إلى بلادهم للافادة من علمهم وخبرتهم. إذاً، لم يكن هؤلاء "الهمج" في الحقيقة ضدّ المدنية في شكل مُطْلق، بل نَظَروا إلى العِلْم بصفته السلاحَ الأقوى الذي افاد منه عدوُّهم، فعمدوا إلى نزع هذا السلاح منه. وهذا البعد الغبني "الدفاعي" - الطمعي "العدواني" ل"الهمجية" التتارية، يتناقض تماماً مع المسلك والأهداف الهمجية العدوانية التسلطية المطلقة للمستعمرين الأميركيين للعراق! واليوم، تستحوذ الدولةُ الأميركية على حصة الأسد من الاقتصاد العالميّ، وتبذِّر على التسلُّح المجنون جزءاً "يسيراً" مما تَنْهبه من هذا العالم المسُود، يُقدّر بمئات مليارات الدولارات فقط! سنوياً. وفي الوقت عينه، يعيش البلايين من المخلوقات البشرية في مستوى أدنى مما كانت عليه الأقوامُ "الهمجيةُ" قبل مئات السنين. ولكنْ بدلاً من استخلاص العبر اللازمة من هذا الاختلال في الدورة الحيوية للمجتمع البشريّ عامةً، ومن هذا التبذير التسليحيّ المجنون خصوصاً، يسعى المنظّرون الغربيون العنصريون إلى تبرير العنصرية الإمبريالية تحت شعارات "صِدام الحضارات" وما أشبه، ويفكِّرون في أفضل "الطرق العلمية"، الكفيلة بإيجاد "الحلول النهائية" ل"تحييد" "السكّان الفائضين عن الحاجة" في البلدان الفقيرة. وتأتي على رأس هذه "الحلول" الحروبُ المحليةُ والإقليمية، والمجاعاتُ، وتدميرُ البيئة، وأخيراً لا آخراً "النبذُ" الاجتماعيّ والقوميّ والدينيّ لجماعاتٍ إنسانية وكتلٍ بشريةٍ متزايدة. وفي العقود الماضية، ولا سيما في ظروف الحرب الباردة التي كانت فيها الإمبرياليةُ العالميةُ عرضةً للتحدي النسبيّ، وُضع الكثيرُ من القوانين والاتفاقات لتقنين العنف "الشرعيّ" ومنعِ العنف "اللاشرعيّ"، بما فيه الإرهاب. لكنّ أيّ تحليل موضوعيّ لا بدّ من أن يتوقف عند ملاحظة أساسية، وهي أنّ المجتمع الدوليّ في العهد الإمبرياليّ المعاصر قد تقدَّمَ "حقوقياً" أكثر منه إنسانياً في تقنين العنف والحدِّ منه" أيْ أنّه تقدَّم في ذلك على مستوى البنية الفوقية، ولكنّه تخلَّف على مستوى العلاقات الفعلية بين الكتل والطبقات الاجتماعية. ولا بدّ من أن نشير هنا إلى أنّ الأمن والاستقرار، بالمعنى الواسع الجسديّ والاقتصاديّ إلخ، الفرديّ والجماعيّ، الوطنيّ والإقليميّ والدوليّ، أصبحا أكثر فأكثر امتيازاً للأغنياء والأقوياء على حساب الفقراء والضعفاء. إنّ الأساس الاجتماعيّ للانحراف الإنسانيّ، الذي تقوده الطغمةُ الإمبرياليةُ - الصهيونيةُ في العصر الحديث، هو الافتراقُ التناحريّ المتزايد بين ديناميتين: - ديناميةِ "حياة" الرأسمال الاحتكاريّ، الآيلِة إلى التمركز العالميّ المكثَّف، الضيق والأحادي البعد الطبقي - الفئوي، النابذة والمضادة لحياة المجموع الانساني. وديناميةِ الحياة الإنسانية، الآيلةِ إلى التجدد المستمر، القائم على التنوُّع والتعدُّد والغنى والاتساع، ضمن وحدة إنسانية تَشْمل جميعَ الشعوب والجماعات البشرية بلا استثناء، بما فيها الجماهير الشعبية والشرائح المثقفة والمتنورة الشريفة، الاميركية واليهودية. وأياً كانت الافتراضاتُ حول هذه المجزرة الرهيبة، يصحّ تماماً القولُ المأثورُ: "مِنْ بيتِ أبي ضربتُ"! كما يصحّ القولُ المأثورُ الآخر: "مَنْ يزرع الريحَ يحصد العاصفة"! وليس هناك ما يشير إلى أنَّ الإمبريالية، الأميركيةُ خصوصاً، تريد القضاءَ على الإرهاب وتجفيفَ منابعه، الموجودةِ أصلاً في بنيتها الذاتية. بل إنّ العكس تماماً هو الصحيح. فهي تريد، بعد استنفاد أغراضها من بعض أشكال الإرهاب، تجديدَه وتطويرَه. وها نحن نرى بأمُّ العين كيف يجرى تجفيفُ منابع الديموقراطية وعسكرةُ المجتمع في داخل أميركا خصوصاً، وتبريرُ إرهاب الدولة العظمى على المسرح الدوليّ عموماً. * كاتب لبناني.