عقدت "الرابطة الملكية للفنون" Royal Society of Art ومجلة "بروسبكت" البريطانية ندوة في مقر الرابطة في لندن، موضوعها مصائر "الامبريالية الليبرالية" بعد 11 أيلول سبتمبر، تحدثت فيها الكاتبة والصحافية في "الغارديان" بولي توينبي، والجامعي جون غراي من "مدرسة لندن للاقتصاد" الذي تُرجم أحد كتبه: "الفجر الزائف" الى العربية، والزميل من "الحياة" حازم صاغيّة. ننشر في ما يلي المداخلات الأساسية التي أعقبها نقاش مطوّل: توينبي: تناقض المصطلح أعتقد ان تعبير "الامبريالية الليبرالية" ينطوي على تناقض ذاتي مطلق يجعله مستحيلاً. ذلك ان جوهر الليبرالية السماح للبشر بتقرير المصير، وهو ما يتناقض في شكل كامل مع الامبريالية. الليبرالية تعني نبذ الرغبة في التحكم والسيطرة والاخضاع، بل هي النقيض المطلق لكل هذا. ويبدو لي ان ميثاق الأممالمتحدة، تلك الوثيقة الجديرة بالتقدير التي وقعت عليها كل دول العالم، تجسد مبدأً كونياً. انه ليست نتاجاً أيديولوجياً غربياً فرض على الأمم الأضعف، بل هو أساسي فعلاً، وهو انساني وعقلاني بمعنى يتجاوز التنوير الغربي، ويعود الى أقدم المفكرين عبر كل الحضارات. وسواء تكلمنا عن الصين أو الشرق عموماً، أو عن روما واليونان في العصور القديمة، سنجد هذه الآراء الكونية العقلانية العميقة في انسانيتها، ولا اعتقد انها تخص حضارة دون أخرى. اعتقد ان علينا واجب نشر مبدأ حق تقرير المصير وان للبشر أن يفكروا لأنفسهم وينتخبوا من يريدون. ولا اجد أي "امبريالية" في أي من هذا. ويبدو لي ان للعولمة جانبيها الايجابي والسلبي. الايجابي هو التقدم البطيء لكن المتواصل للديموقراطية في انحاء الأرض، بحيث اننا الآن، للمرة الأولى في التاريخ، نجد أنفسنا في عالم يعيش أكثر من نصف سكانه ضمن أنظمة ديموقراطية، متفاوتة في المستوى، لكن بما يكفي لتستحق التسمية. وقد نختلف على نوع الديموقراطية الذي نحب، وما نعتقد انه السلبيات المرافقة لكل نوع، لكن أتصور ان غالبيتنا تتفق على أن لا غنى عن القيم الديموقراطية الأصيلة منطلقاً للحياة السياسية الصحيحة. وأعتقد ان من واجبنا، باعتبارنا الأمم الثرية والقوية، أن نسعى على الصعيد العالمي الى توزيع أعدل للثروة. انه يبقى واجبنا برغم كل تهاون او اغفال، أو هكذا يرى كل المنصفين، مثلما علينا واجب نشر الحرية حيث امكننا ومحاولة الحصول للشعوب على تقرير المصير. قد يقال: "لماذا هذه الانتقائية؟ اذا كانت هذه هي المهمة لماذا لا نبادر فوراً الى فرض النظام الديموقراطي على كل البلاد التي لا تعمل بموجبه؟". السبب ان الواقع السياسي يضع حدوداً واضحة على عملنا ولا بد من وضعه في الحساب. مثلاً، لا يمكن مواجهة الصين حول التيبت دون تهديد استقرار العالم واثارة سلبيات أخطر بكثير من الايجابيات. لكن هذا ليس سبباً لعدم التحرك في اماكن مثل كوسوفو أو سييراليون أو أفغانستان. أي أن واجبنا الأخلاقي، عندما تسنح الفرصة ويظهر أن بالامكان، بخسائر مدنية قليلة، توفير قدر أكبر من الحرية للكثيرين، القيام بالمهمة حين نستطيع. لكن بالطبع لا يمكن دوماً ضمان ذلك قبل التدخل، خصوصاً في وضع مثل أفغانستان. قد يقول البعض أيضاً: "ومن قال ان الديموقراطية نظام مثالي؟ انظر الى ما فيها من بشاعات. انظر الى أميركا، حيث التفاوت المعيشي الرهيب وعقوبة الاعدام وكل ما قد نكرهه هناك". لكن هذا لا يعني أن الديموقراطية والرأسمالية، بسبب ما فيهما من السلبيات، أسوأ من البديل، وهو الحرمان التام من الحرية: ذلك ان نصف حرية أفضل دوماً من لا حرية! كما ان هناك من يقول: "الغرب لم يحسن التصرف دوماً. والمؤكد ان له ممارسات بشعة في الماضي، ولا بد له من الاعتذار عن تاريخه الامبريالي. لذا عليه الآن ان يصمت وينزوي داخل حدوده، لأن كل ما يحاول عمله عالمياً لا يزيد على ان يكون استعادة لماضيه". لكنني أرفض هذا الرأي. انه مجرد الاستسلام، فيما علينا دوماً السعي نحو الأفضل، حتى لو خالفنا التوفيق احياناً. الدعوة الى السلبية نتيجة الشعور بالاثم بسبب الماضي، نوع خاطئ من الأخلاقيات. أكثر ما اخشاه ليس تزايد اهتمام الغرب ببقية العالم، بل ان يقلّ الاهتمام عن المطلوب. واذا نظرنا الى البرنامج الشنيع الذي خاض الرئيس جورج بوش الانتخابات على أساسه رأينا ميل أميركا الى الانعزال متوقعاً، وهي تراجعت فعلاً عن اتفاق كيوتو وتخلت من طرف واحد عن اتفاق منع الصواريخ المضادة للصواريخ، واتخذت مواقف معادية بقوة للأمم المتحدة. لكن فوجئ كثيرون منا، ممن كتبوا عن تخوفاتهم من الادارة الجديدة، بأن أميركا بعد 11 أيلول تحولت الى الأفضل وليس الأسوأ. فقد رأينا ذلك التقدم المتأني والمتواصل نحو اقامة التحالف الدولي الضروري لشن الحرب على "طالبان" وتنظيم "القاعدة". وبدا مشجعاً أن أميركا أدركت بسرعة انها لا تستطيع، مهما بلغت من القوة، اعتبار نفسها جزيرة معزولة في غنى عن الجميع، بل انها بحاجة الى الدعم من روسيا وأوروبا والكثير من الدول الأخرى. السؤال الآن، ما الخطوة المقبلة؟ ماذا تنوي ادارة الرئيس بوش؟ نحن نملك حرية الاتفاق أو الرفض. لكن المخيف فعلاً أن تهاجم أميركا العراق دون دعم من أي طرف آخر، لأنه يعني أن واشنطن تعطي نفسها حق غزو أي بلد تريد في أي وقت تريد بغض النظر عن مواقف الآخرين. لكن هذا لم يحصل بعد، وعلينا الانتظار لنرى. كل ما يمكننا قوله أن أسوأ مخاوفنا من ادارة بوش لم تتحقق بعد، ولذا لا مكان للعداء التلقائي لأميركا، بل يجب النظر الى اعمالها والحكم عليها حسب تلك الاعمال. من المهم أيضاً البقاء على تحالفنا القوي معها بما يمكّننا من تشجيعها على اتخاذ الخطوات الصحيحة. لكن هناك قضية محددة نشعر خلالها بأعمق الخوف: أي الحضيض الذي وصل اليه وضع فلسطين - اسرائيل، وهو الأسوأ منذ عقود. ثمة خوف مما سيحصل هناك، وما اذا كان الأميركان يريدون التدخل واستخدام قوتهم التي لا شك فيها للجم اسرائيل، او انهم سيحجمون عن ذلك. كل هذه الاحتمالات تبقى مفتوحة. والتزامنا القيام بتلك الخطوة الصحيحة في أفغانستان، حيث نرى الآن بوادر الديموقراطية، لا يعني بالضرورة إلزامنا بما قد يفعله الأميركيون مستقبلاً. لكن يبدو لي أن الأفضل دوماً العمل على تحقيق الاهداف الايجابية من خلال تحالفات دولية، كما من الأفضل السعي الى تعزيز دور الأممالمتحدة. والمطلوب، اضافة الى ذلك، النظر مجدداً في طبيعة الحروب الحديثة، المختلفة كثيراً عن الماضي، حيث كان علينا ان نتعلم درس رواندا. ومن المهام أمامنا الآن التدخل في الكونغو، وأيضاً، كما يبدو لي، في السودان وحيثما توجد تلك الحروب الأهلية المدمرة التي لا تعرف حلاً. ومن الخطأ الاستمرار على الفكرة القديمة القائلة إن حدود الدول تقوم مانعاً للتدخل. غراي: امبراطورية ما بعد حداثية أسعدني ان بولي نأت بنفسها عن ذلك السؤال المكرور عما اذا كان يصح للدول الغربية فرض قيمها على الدول الأخرى. اعتقد أن من المهم في هذا السياق استعمال المنظور التاريخي، حيث لا يبدو لي أن الغرب يتفرد بالكثير من القيم الرئيسية قيد النقاش الآن، أو انها تعود له دون غيره. اذا أخذنا مثلاً قيمة التسامح، نجد ان العثمانيين مارسوا التسامح الديني في وقت لم يكن فيه معروفاً لدينا. وكان الحال نفسه في ممالك الأندلس في القرون الوسطى. كما كانت هناك، قبل ذلك، مملكة أسوكا البوذية في الهند التي عملت بالتسامح قبل ان نعرفه في الغرب. لهذا، وبرغم انني لا أرى ان على الغرب الاعتذار عن وجوده أو عن كل أوجه حضارته، لا ينبغي النظر الى هذه النقاشات من خلال مفاهيم تقسم شعوب وحضارات العالم أصلاً حسب اعتبارات ضيقة تعكس الى حد كبير الحرب الباردة. وقد شاركت اخيراً في مناظرة، واعترض واحد من الاطراف على موقفي مشيراً الى انني لم أذكر شيئاً عن تلك الشعوب غير الغربية المعارضة لتسلط الاتحاد السوفياتي على شرق أوروبا. لكن هل الشعب التشيكي مثلاً "غير غربي"؟ ان براغ تقع الى الغرب من فيينا، ولم تصبح "غير غربية" الاّ بعد الحرب العالمية الثانية. لقد كان التشيك دوماً جزءاً من الحضارة الغربية وعادوا اخيراً ليحتلوا موقعهم فيها. القضية الأولى اذاً هي التسامح، وهو ما اعتقده قيمة شمولية، أي انها لا تختص بالغرب او بالليبرالية، بل ليست بشكل خاص مرتبطة بالحداثة. هناك أمثلة، اعطيت اثنين أو ثلاثة منها اعلاه، عن التسامح في عالم ما قبل الحداثة وما قبل الليبرالية، وأيضاً من خارج الغرب. اعتقد ان علينا، ببساطة، نبذ هذا النوع من النقاش، لأنه مضلل. بدل ذلك يجب التفكير بإطار يشمل الحد الأدنى من القواعد والأعراف والاجراءات، وحتى القيم، التي يمكن لمختلف الثقافات والحضارات في العالم قبولها والتزامها بما يسمح بالتعايش السلمي وتبادل المنافع في ما بينها. هذه كما أرى هي المشكلة الأساسية. لكن اذا كانت هذه هي المشكلة في الماضي فان لها في وضعنا الراهن خصائص جديدة. اذا سألنا ما هو العنصر الجديد في وضعنا الحالي الذي يساعد على فهم ما حصل في أفغانستان قبل تدخل الحلفاء - وهو تدخل لا يزال مستمراً وقد يستمر على المدى البعيد - فجوابي انه يتكون من التقاء اعتبارين معينين. الأول هو ظاهرة الدول الفاشلة - أعني تلك التي تشظّت أو انهارت أو تآكلت، والتي لا تملك صفات الدولة الحديثة - أي انها، مثلاً، لا تسيطر بشكل فاعل على العنف ضمن حدودها ولا توفر لمواطنيها الحد الأدنى من السلم والأمن. لقد كانت هناك دوماً دول فاشلة، لكن الجديد في عصرنا، بل قد يكون من صفاته الفريدة، هو تواجدها في كل انحاء العالم، ومن ضمنه أوروبا، كما في حال ألبانيا وجورجيا وبيلاروس واجزاء من الاتحاد الروسي، اضافة طبعاً الى الاتحاد السوفياتي المنهار نفسه. توافق وجود هذا العدد من الدول الفاشلة في أنحاء العالم مع ما يسمى عادةً "العولمة"، خلق وضعاً يعبر عن نفسه، ولو جزئياً، بالارهاب، وأيضاً، اذا نظرنا الى حروب البلقان والاحداث وصولاً الى 11 أيلول، هناك موجات الهجرة. فقبل 11 أيلول كانت المسألة الخلافية الأبرز سياسياً في كل الدول الأوروبية، ومن بينها بريطانيا، قضية المهاجرين أو طالبي اللجوء. لكن من اين جاء اكثر هؤلاء؟ جاؤوا، عادة، من الدول الفاشلة ومناطق الحرب، محاولين الانتقال الى مناطق لا تزال فيها حكومات قوية. أي ان المطلب لم يكن اقتصادياً فقط بل وجود حكومات قوية. هذا كان يحصل بالفعل قبل 11 أيلول. هذه واحدة من ظواهر الوضع، والظاهرة الثانية الارهاب. هناك اذاً تباين واضح في العالم. فمن جهة نجد عدداً من الدول الحديثة المتمتعة بالقوة والثراء، مقابل دول كثيرة منهارة أو ما قبل حديثة أو شبه فوضوية، أو دول مجاورة لهذه الدول المنهارة، مثل حال هنغاريا ويوغوسلافيا السابقة. هذه خلفية التدخل في أفغانستان. انه تدخل دفاعي بقصد الوصول الى اهداف محددة، وتم ذلك بالفعل في ما يخص بعضها. انه جزئياً تدخل لبناء دولة، ولكن ليس لبناء "الدولة - الأمة". وهنا اعتقد انني اخالف بولي - اذا صح فهمي لموقفها. اذ يبدو لي ان كلامها يطابق ما بين الحرية وتقرير المصير، فيما أفهم معنى تقرير المصير كما يفهمه وودرو ويلسون وغيره، أي اقامة "الدولة - الأمة" حيث لم يكن هناك دولة قبل ذلك، خصوصاً في المناطق التي كانت خاضعة للامبريالية. لقد كان لتقرير المصير تاريخ متضارب خلال القرن العشرين، وارتبط مع مشاكل كبرى وهجرات بشرية. ومن بين أسباب ذلك، عند انشاء "دولة - أمة" من هذا النوع، أن أقليات ضمن حدودها لها مخزون تاريخي من الشك أو العداء تجاه البقية تحاول الهجرة أو تشعل حرباً أهلية. ويمكنني طرح القضية بشكل استفزازي لحد ما ولكن ليس بمبالغة كبيرة بالقول إن تقرير المصير في مناطق كثيرة من أوروبا خلال القرن العشرين تلازم مع التطهير العرقي، ولا أجد ما يدعو الى الاعتقاد بأن ذلك سيتغير مستقبلاً. وربما امكن القول، بقدر اكبر من الاستفزاز، انني لو كنت من بين المحكومين لا من الفئات الحاكمة او النخبة، لكنت فضّلت العيش ضمن امبراطورية الهابسبورغ النمسوية على المواطنية في غالبية الدول التي نشأت عن انهيارها بفعل الحرب العالمية الأولى، وكذلك مبادئ ويلسون في تقرير المصير، رغم أن بعض تلك الدول كان متحضراً وليبرالياً ديموقراطياً وناجحاً. اذاً حرية الفرد، التي تعني في هذا السياق ضمانه من شرور كعمليات الابادة والتعذيب والاعتقال الكيفي، لا تتماشى بالضرورة مع العمل بموجب تقرير المصير. وأجد هنا تناقضاً في موقف الدول الثرية وهي ليست كلها غربية عندما تتجاهل حرمة حدود دولة ما عند حدوث مجازر هناك، فيما تؤكد في الوقت نفسه انها عندما تتدخل لوقف المجازر أو التهديد لحقوق الانسان، فهي تهدف الى انشاء "دولة - أمة". ولا اعتقد اننا سنرى في قرننا الحالي في كثير من مناطق العالم، من بينها أفغانستان والشرق الأوسط، ما يشبه ولو من بعيد "الدولة - الأمة" كما نجدها في فرنسا أو ألمانيا أو الولايات المتحدة. ف"الدولة - الأمة" ليست ممكنة او قابلة للتحقيق الا في مناطق قليلة. ما ينبغي لنا التفكير بشأنه، كما يبدو لي، هو سبل تحقيق هذه المثل من دون قذف هدف تقرير المصير الباهظ الكلفة بشرياً الى آخر ركن في الارض. فالحقيقة التاريخية تبيّن انه حيثما تكون الشعوب مختلطة، وحيث توجد ثقافات متميزة كانت متعايشة لوقت طويل لكنها تملك ذكريات تاريخية عن عداوات او ارتياب او حروب، وحتى عندما تكون هناك مستويات عالية من الزيجات المختلطة - في البوسنة مثلاً كان هناك مستوى عالٍ جداً منها بين المسلمين وغير المسلمين اعتقد انها بلغت حوالى 3 في المئة، حتى في هذه المناطق يمكن ان يحدث على نحو سريع تماماً فرز مفاجئ للسكان وتطهير عرقي فظيع لا ينجم عن السعي الى الديموقراطية لكنها لا تملك أي حل له، وقد تؤدي حتى الى مفاقمته. علينا ان نفكر بمقاربة جديدة. وقد تكون هذه صيغة لامبراطورية اكثر تعاونية او توافقاً، تلك المؤسسة التي تعتبر غير آهلة للثقة وغير شرعية الى حد كبير، ولكن مع ذلك فان دولاً كثيرة تسعى حالياً الى إحيائها. وهي ما تزال قائمة في روسياوالصين وبلدان اخرى كثيرة، ويمثل الاتحاد الاوروبي نوعاً منها في الواقع، نوعاً على نمط بيزنطي جديد ما بعد حداثي لكنه يبقى مع ذلك نوعاً من امبراطورية. واعتقد انه ينبغي علينا ان نشرع بالتصدي لما نقوم به وان نسعى الى القيام به على نحو افضل. واياً كان المجال الذي نحن فيه فانني لا أرى العالم، واعتقد ان الخطأ ان نراه، اما كشيء اشبه بديموقراطية ليبرالية او غياباً تاماً لحرية الفرد، أي حكم استبدادي مطلق. اعتقد ان هذه رؤية خطرة جداً للعالم اياً كان من يتبناها، سواءً كان جورج بوش او ليبراليون غربيون او ليبراليون متشددون مبدئيون. اقول هذا لسببين. اولاً وقبل كل شيء، لا اعتقد ان أي بلد، لا بريطانيا ولا اميركا، يملك نموذجاً يخلو من العيوب لدرجة انه يستحق إسقاطه على بقية العالم. تعاني بلدان غربية كبريطانيا مشكلات مثل الديون والجريمة. وهذه مشاكل خطيرة، وقد تصبح اخطر مستقبلاً. ينبغي الاّ نتصور ان بامكاننا إسقاط أي نموذج في كل مكان، بل ان نجسّد باشكال جديدة هذه القيم الاكثر كونية والتي لا تتصف على نحو مميز بكونها ليبرالية او غربية. يبدو لي ان هناك انماطاً كثيرة من الرأسمالية تتخطى ما شهدناه حتى تاريخياً، وهي كثيرة. هناك انماط كثيرة من الدول. وهناك انماط كثيرة من التعايش بين ديانات مختلفة وشعوب مختلفة ما يزال يتعين علينا استكشافها. ان استقطاب النقاش بين التصريح بأنك مع الديموقراطية الليبرالية او ضدها هو، كما يبدو لي، موقف ينطوي على إختزال مريع وهو بطريقته الخاصة اصولي. صاغيّة: حقوق الانسان بخلاف القول المأثور في وسائل الاعلام، فأول ضحايا هذه الحرب لم تكن الحقيقة. فالحقيقة يمكن ان تُبتر هذه الايام، وقد حدث هذا بالفعل، لكن ذبحها بالكامل بالغ الصعوبة. الضحية الاولى في هذه الحرب ليست الحقيقة بل حقوق الانسان. منذ وقت غير بعيد، خلال التسعينات، بدا كما لو انه سيُعترف بشكل جدي بحقوق الانسان كمعيار شمولي يُحكم على السلوك السياسي استناداً اليه. لا أنفي الارباك الذي وسم الكثير من افعال كلينتون، لكن ما ازال اعتقد ان شيئاً ما ايجابياً كان يجري ترسيخه، وانه سيعم تأثيره ويتم إقراره إن عاجلاً او آجلاً. في الواقع، بدا كما لو ان هناك هيمنة ايديولوجية من نوعٍ ما بدأت تحققها قيم حقوق الانسان والديموقراطية، احياناً بشكل جدي، واحياناً كادعاء لفظي، واحياناً بفتور، لكن عموماً بدا انهم كانوا يتعاونون للظهور او التظاهر بان هناك اجماعاً بشأن هذه القيم. والتظاهر مهم، حسب اعتقادي، ولو انه لم يكن دائماً هكذا، لأن دساتير جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق مثلاً، نصّت على حقوق الانسان وحمايتها كجزء لا يتجزأ من هذه الدساتير. ويبيّن لنا ترحيل مقاتلي "القاعدة" مقيّدين بالاغلال الى غوانتانامو في كوبا وانتهاك بعض الحريات المدنية في الولايات المتحدة، وبدرجة أقل في اوروبا، ان هذا الحلم قد تهشم. من جهة اخرى، هناك الرد في العالم الثالث على 11 ايلول، حيث يبدو كما لو ان المشكلة لا تتعلق بعرض الديموقراطية وحده، فهناك ايضاً غياب الطلب عليها. الديموقراطية وحقوق الانسان غير مدرجة على الأجندة هناك. وعندما تصرف الاميركيون بهذه الطريقة، وجد كثير من الحكام المستبدين في العالم الثالث الفرصة مناسبة لأن يقولوا: "حقوق الانسان وغيرها ليست سوى خداع من قبل الغرب كي يفرض سيطرته علينا". هكذا، بدا فجأة كما لو ان لا أحد يريد ان يعطي ولا أحد يريد حتى ان يأخذ. هنا تكمن الأزمة او، اذا وضعنا ذلك في سياق لقائنا هذه الامسية، نشهد هنا استسلام ما أسميتموه الامبريالية الليبرالية. فالامبريالية الليبرالية تسمية، ونظام ذو تناقض داخلي هو الآن اكثر تفجراً من أي وقت مضى. وعند مراقبة عملية اتخاذ القرار في الغرب في اعقاب 11 ايلول، خصوصاً عبر الخطاب السياسي المهيمن والتأويل الايديولوجي له، يتولد الإحساس بان فكرة كامنة تقف وراء هذا كله، فكرة تقسّم العالم الى اولئك الذين انشأوا الدولة - الأمة، وبشكل خاص أمّنوا وظيفتها الرئيسية كموفّر للأمن، وكل العالم الآخر. دعوني اقرأ هذه الفقرة التي هي مقتطف من كلمة القاها جورج شولتز، وزير الخارجية الاميركي الاسبق، في 25 كانون الثاني يناير الماضي في واشنطن. انه يقول: "على رغم كل حقائق العولمة التي نزعت السلطة من الدولة، فان الدولة هي كل ما نملك كوسيلة لتنظيم وجودنا العالمي وتحقيق حكم تمثيلي وحماية حقوق الفرد. فاذا كان البندول تحرك ضد الدولة ذات السيادة في العقود الماضية، فان الوقت قد حان لاعادته الى مكانه لجعل الدول مسؤولة ولتعزيزها في مواجهة الارهاب. فما لاريب فيه ان الارهاب يهدف الى تدمير الدولة...". من جهتي لست بالطبع ضد الدولة، لكن السؤال هو: كيف نحدد اولويات وظائف الدولة؟ هل ينبغي ان تعطى اولوية للأمن ووسائل القمع؟ ادرك ان لكل دولة بعداً قمعياً بحكم طبيعتها بالذات، لكن هل تكون الاسبقية للقمع او للرفاه الاجتماعي والتعليم والصحة الخ...؟ بالنسبة الى اولئك الذين شيّدوا الدولة - الأمة فعلاً ما تزال الأجندة الليبرالية مطروحة على الطاولة، ولو ان المستقبل القريب يهدد بان يكون اكثر تقييداً واستبداداً. لكن بالنسبة الى اولئك الذين لم يقيموا الدولة - الأمة ستبدو حقوق الانسان اشبه بترف كبير. وقد يفصح هذا الترف عن نفسه بأشكال مختلفة. فالخطاب الدعائي لبوش يتضمن الاصرار على حل القضايا الأمنية. ويبدو ان كل ما يطلبه اشخاص كبوش من البلدان غير الغربية هو ان تبرهن للعالم انها تستطيع ان تؤمّن الاستقرار المحلي، وبالتالي تؤمن الاستقرار للغرب. كل شيء عدا ذلك يمكن ان يؤجل لأنه يخضع بالأساس لهذه الغاية. ان شجب هذه الفكرة والاحتجاج ضدها هما، بالطبع، شيء صحي، لكن ما ينبغي ان يكون مخيفاً لنا جميعاً هو ان العالم يُقسم الى جزئين غير متشابهين كلياً. احدهما قد ينزع لأن يكون اكثر دولتية، فيما يميل الآخر الى مزيد من الافتقار الى الدولة، واخشى ان هذا الشطر الأخير يفعل ذلك احياناً بشكل واعٍ، وبشعور ظافري. وبقدر ما يتعلق الأمر بالقيم، فاننا قد نواجه خطراً من نوع جديد، يضاف الى الانقسام الاقتصادي والسياسي. فاذا كان الميل الساذج الى نزع التسييس عن الشؤون الانسانية قد ساد سابقاً، لاسباب شتى جيدة او سيئة، في ايديولوجية المنظمات غير الحكومية وجماعات الصواب السياسي وغيرها، فان الميل الآن هو للأسف باتجاه نزع الصفة الانسانية عن السياسة. وهذا خطر جديد يُضاف الى الانقسام الاقتصادي والسياسي. انني واثق بانه يمكن اعتبار التجارة احد الضمانات القليلة في الوقت الحاضر، نظرياً على الأقل، لمكافحة هذا الميل الى الفصل والعزل. لكن الملحوظ ان العولمة ذاتها كفكرة، وليس كتطبيق فحسب، اصبحت مسألة خلافية، وموضع جدلٍ حاد بين شطري العالم، عدا تراجع حركة التبادلات والتحويلات والتوظيفات منذ 11 ايلول. ومن جهة اخرى، كثيراً ما يحصل افراط في أدلجة الوحدة التي يمكن ان تنتجها عمليات تحرير التجارة. لكن اذا القيتم نظرة على صحيفة "وول ستريت جورنال" في الفترة الأخيرة واجهتكم مقالات عدة تتحدث عن التخلص من نفط العرب وتطوير بدائل وغير ذلك. وهذا ليس من علامات الوحدة. وبالعودة الى القيم، لا يمكننا الا ان نلاحظ الفكرتين المزعجتين: احداهما تريد ان تثبت ان هذه القيم اوروبية حصرياً، والاخرى تحرص على اثبات انها ليست اوروبية. ويواصل هذان الصوتان في مجال الايديولوجيا حرباً معينة. فلنضع جانباً هنتينغتون وكل الهراء حول صدام الحضارات، لكنني ما ازال اعتقد بانكم عندما تتحدثون - وانا هنا اتكلم كعربي ولبناني وعالم ثالثي - منتقدين مجتمعاتكم وثقافاتكم بالذات، فان هذا شيء عظيم وهو يكشف التراث الفكري، والتراث الديموقراطي، وغير ذلك... لكن اعتقد انه ليس من الحكمة القفز من هنا لتجميل العالم الثالث. لن تسدوا لنا اي خدمة عندما تحاولون ان تُظهروا تضامنكم معنا على شكل اشادات بنا. لا تشيدوا بنا. تحدثتم عن مشاكلكم. مشاكلنا اسوأ بكثير. اذا كنتم تريدون ان تقدموا العون، اطلبوا منا ان نكافح من اجل بناء مجتمعاتنا، وديموقراطياتنا، وطريقتنا الخاصة لتحديث انفسنا. الموضوع لدينا ليس اطلاقاً انتقاد الحداثة. انني مستعد لأن اقبل على مستوى نظري وجود بنى متعددة للحداثة او للتسامح، وغير ذلك. لكن اذا تحدثنا واقعياً وسياسياً فإنني لا أرى أي مسار آخر غير الذي عرفه الغرب. دعوني اختم حديثي بهذه الحكاية القصيرة. كان جاك بيرك، وهو مستشرق فرنسي بارز اشتهر بحبه للعرب وتأييده لقضاياهم، رجلاً نبيلاً وجادّاً وغير ذلك. وقد التقى الحبيب بورقيبة الذي كان زعيم الحركة الوطنية التونسية في الخمسينات قبل ان يصير رئيساً لتونس. بدأ جاك بيرك، مدفوعاً باحترام يكنّه للثقافة العربية، يتكلم بالعربية الفصحى مع بورقيبة، فرد بورقيبة بلغة فرنسية حديثة. وعندما سأله بيرك "لماذا ترد بالفرنسية؟"، قال: "حسناً، انت تتكلم بالعربية الفصحى لأنك مهتم بالماضي. انا مهتم بالمستقبل. رجاءً ساعدني على ان أدخل المستقبل".