ظهر صدام حسين حياً، وحقيقياً وملتحياً في الفيلم الذي صوره الأميركيون لحظة اعتقاله. هذا الأمر يحسم حيرة وغموضاً لطالما جعلا زائر العراق وتحديداً قاصد الصحراء الغربية والشمالية مشتتاً بين معاينته لبقاء صدام حياً في وجدان الكثير من السكان وبين حقيقة الوجود الهائل للقوات الأميركية والذي يجعل من بقاء هذا الرجل حياً أو مؤثراً أمراً شبه مستحيل. اظهرت الكاميرا وجه الرجل عريضاً، ولم يبد على ملامحه اثر لوهنٍ او تعب. شعره ليس ابيض، خلافاً لما اعلن اكثر من مرة، والشيب ارتسم خطوطاً متباعدة في لحيته. فهل كان سكان مناطق "المقاومة" ينتظرون صورة لرئيسهم على هذا النحو؟ وماذا ستخلف صورته خائفاً وصامتاً ومنقاداً في وجدانات هؤلاء الفتية المقيمين في الخاصرة "المقاومة" للعراق. الضربة لما يسمى "مقاومة عراقية" هي معنوية في حدها الأدنى، اما حدودها القصوى فستشمل احد الأجسام التنظيمية الرئيسية للفصائل المنخرطة في الأعمال العسكرية ضد الأميركيين في العراق. انها حقيقة سيلمسها زائر المناطق العراقية التي تشهد تصاعداً في العمليات العسكرية، سواء في الغرب او الوسط او في الشمال العربي. صدام حسين هو على الأقل الصورة التي تتسرب من تحت ملابس الأطفال الذين يتجمعون في أعقاب كل تفجير ويبدأون بالهتاف ل"أبو عدي". انه بالنسبة الى هذه البيئة طرف حلم صعب يتمثل في ان تثمر هذه الأعمال عن عودة وإن مختلفة للرئيس المخلوع. انها حقيقة مأسوية ولكنها ثابتة في ذلك الفضاء الذي يصل بين الفلوجة وسامراء وبين الرمادي وتكريت، اضافة الى بعض بغداد. ونحن هنا ما زلنا بصدد الصورة والحلم. ولكن الضربة بلا شك ستمتد الى جسم تنظيمي متين اعيد بعثه في تلك المناطق، وهو الذي يتولى بشكل رئيسي الأعمال العسكرية. الأميركيون الذين سارعوا الى إعلان نهاية الحرب تاركين مدناً ومحافظات شاسعة بلا هزيمة رمزية، سهلوا على صدام اعادة بناء اجهزة رديفة، تملك مالاً وعتاداً وجيشاً من المحبطين والمؤيدين والمستفيدين والمرتزقة، وصورة صدام بقيت طيفاً ضرورياً لتماسك هذه الشراذم. عبارة "ابو عدي" حين تسمعها في اسواق الفلوجة تشعر انها خارجة من حناجر مصدقة وموقنة ان الرجل على وشك العودة للإمساك بكل شيء. وبين الخوف من صورة الرجل، والحاجة الملحة الى صورة تمسك بهذه المشاعر الصحراوية الجامحة خيط رفيع. اعتقال صدام سينهي الرصيد الوهمي لحلم عودته الذي يكتنف مشاعر الكثير الواقفين وراء اعمال المقاومة، ولكنه ايضاً ضربة لرأس التنظيم الرديف الذي كثر الحديث عنه في الآونة الأخيرة والذي ما كان من الممكن للأعمال العسكرية ضد الأميركيين ان تستقيم وتتسع من دونه. فالحديث في الغرب والشمال العراقيين عن رجال صدام وعن اموالهم وأعتدتهم، يكاد يكون التفسير الوحيد للأعمال العسكرية. ففي الشمال يتحدث السكان عن دور عزة ابراهيم ونجله في تمويل الأعمال العسكرية وفي الغرب يتحدثون عن عضو قيادة البعث فرحان المحمد المختبئ مع كميات كبيرة من الدولارات التي توزع على "ثوار" المنطقة، ويشكل الاثنان عزة ابراهيم وفرحان المحمد معبراً لصورة صدام الى مشاعر السكان. ولعل المخاوف التي عبر عنها ل"الحياة" قبل اسابيع احد المواطنين على زيارة صدام قبل سقوطه، والتي تتمثل في معادلة اعتقال صدام يعني انهاء للمقاومة، وجدت لها ما يدعمها في الصورة التي ظهر الرجل فيها على التلفزيون. فالمعادلة بحسب صاحب المخاوف نابعة من يقينه بأن صدام يقود بنفسه الأعمال العسكرية على رأس جهاز خاص انشأه قبل سقوط بغداد وطوره بعد السقوط. وهو بعيد عن معظم الجهاز الأمني والعسكري التقليدي، ومسخّرة له طاقات كبيرة. الأميركيون الذين سارعوا الى القول ان اعتقال صدام لا يعني انتهاء الأعمال العسكرية، يحاولون بإعلان توقعهم هذا امتصاص خيبة محتملة من جراء رهانهم الأكيد على عكس ما اعلنوه، فهم اولاً وفي الشهرين الأخيرين جعلوا من مهمة البحث عن صدام اولوية الأولويات في العراق، وهم ثانياً مدركون ان حل مأزق تضخم صورة صدام وتحولها الى مرآة لأحوال الناس ومشاعرهم لن يتم إلا عبر القبض عليه. عضو في مجلس الحكم الانتقالي قال ل"الحياة" ان الأميركيين يتوقعون تصاعداً موقتاً للأعمال العسكرية ضدهم بعد اصطيادهم صدام حياً، ولكنهم يعتقدون ان عقدة اساسية أزيلت من امامهم، سيؤدي زوالها الى تراجع هذه الأعمال على المدى المتوسط والبعيد. لكن الأسئلة ايضاً تدور ومنذ مدة في اروقة اميركية في بغداد حول مصير العمليات الانتحارية التي يجزم العراقيون بأن منفذيها جميعهم من غير العراقيين، ولكن المسؤولين العراقيين الجدد يجزمون ايضاً بأن اجهزة صدام تمكنت من ان تنشئ علاقة مع هذه المجموعات وأن تتحول طرفاً في تحديد اهدافها وفي عمليات الإعداد والتمويل، فهل ستشمل نتائج اعتقال صدام حسين هذا الحقل من الأعمال العسكرية؟