لا تتوقّف ديمومة الإدهاش في شرق أوسط الأزمات: مقدّمات لا تقود إلى نتائجها، استعصاء عن الاندراج في مسار عالمي عريض، تدخّلات أجنبية تحقّق عكس ما أرادت، أنظمة تُحالف ما تعاديه شعوبها، وشعوب لا تعرف ما تريد، وحدات تؤدي إلى التفتّت، ومحاور متصارعة تنتج فراغات قيادة لآخرين، دمقرطة وحريات مقطّرة تُمكّن قوى تستشرس في عدائها الجوهري لكليهما، وهكذا. يترنّح ذلك كله بين لطمات أيديولوجيات هشّة وتوتّرات سياسات جبروتية... وبالعكس! فما يتبدّى في الظاهر راسخاً ثابتاً يتكشّف عن قوة ذابلة بالكاد تحافظ على نفسها، وما يظهر هشّاً مهزوزاً ينتظر نفخة الانهيار الأخيرة، يصمد عقوداً ويأبى المغادرة. يمتدّ هذا التفارق العنيد في الإقليم الممزّق إلى قرن من الزمن وأزيد: زمن الحركة العنيفة والتحولات الحادة، الحروب الباطشة والثورات الفاشلة، وأيضاً زمن الجمود المدهش الهازئ بكل التغيرات، العصي على الخضوع لمنطق الحركة والتحول. بين حدي التغير الحاد والجمود الثابت تتوتر تقلبات الأيديولوجيا والسياسة، التقلبات بين الهشاشة والجبروت. كيف يمكن الأيديولوجيا وهي صناعة الصلب والفولاذ الفكري أن يقبع في قلبها جوهر بالغ الهشاشة؟ وكيف يمكن السياسة وهي فن الممكن، والتردد في المناطق الرمادية المائعة أن تتمتع بجبروت مدهش يتحدى كل التوقعات؟ أيمكنُ أن تنتج مقدماتٌ هشة نتائج جبروتية، أو هل يُتوقع أن تفضي اندفاعات الجبروت إلى مآلات الهشاشة خلافاً لأبجديات التقدير الظاهري؟ الجواب البسيط ونصف المفاجئ هو نعم. يمكن ويجوز أن يصير ذلك (في الطبيعة، والحياة، والبشر، والتاريخ). بيد أن ما هو أكثر مفاجأةً وإدهاشاً تخطي ديالكتيك الجبروت والهشاشة دائرة الاحتمال أو الاستثناء في ظرف زماني أو مكاني ما، ليصير إطاراً عاماً يُمكن أن تُرى التفاصيل من خلاله وفي داخله. عندها تأخذُ أمور كثيرة سمتاً سوريالياً أكثر من أي شيء آخر، سوريالية باطشة هي الأخرى. مُقاربات «هشاشة الأيديولوجيا وجبروت السياسة» تلتقي في مقادير الاستنتاجات غير المباشرة لتقابلية هذين الضدين اللدودين، وهي مقاربات كما غيرها لا تزعم الانطلاق من النقطة ذاتها، حتى وإن اكتشفت تقارب النهايات. في عالمنا العربي المعاصر وكما يمكن ان يكشفه لنا «براديم» تناقض الأيديولوجيا والسياسة نقف أمام «جبروت المجتمع وهشاشة الاستبداد» أو العكس، أو الحالتين معاً، حيث تتبادلان الضعف والقوة، وتتبادلان كيل الصفعات. تتناقضان وتتشاركان إن على مستوى اندراجهما في سجالات الشأن العام على المستوى الوطني (القطري)، أو على مستوى الاجتماع السياسي والمحلي. وهكذا وفي المستويين تبرز قضايا ألحت وتلح على المجتمعات العربية الممزقة بين جبروتين وهشاشتين: جبروت وهشاشة ثقافة المجتمع نفسه، وجبروت وهشاشة الإستبداد الحاكم فيه. على المستوى الإقليمي الأوسع يأخذ امتداد تناقض الأيديولوجيا والسياسة شكلاً آخر يمكن تلخيصه ب «جبروت الحروب وهشاشة الانتصارات»، امتداد في عمق السجال حول الحروب والصراعات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط الراهن. هي حروب ضاغطة على دول وشعوب المنطقة تمزقها بين جبروتين وهشاشتين: جبروت وهشاشة الحرب نفسها، وجبروت وهشاشة نتائجها. منتصرون مذعورون من انتصارهم، وخاسرون يتبخترون بخيلاء. تبهت الفروق بين معنى «النصر» ومعنى «الهزيمة»، والكل يعلن انتصارات ضد الكل. وبنظرة أكثر تفحصاً نتلمس فاعلية «براديم» الهشاشة والجبروت في سياقه العربي/الشرق أوسطي. في «دمقرطة العالم العربي» اندفع المشروع الأميركي بطاقة أوحت لكل من له علاقة بمسألة الديموقراطية (الأنظمة، الشعوب، النخب، ألخ...) أن هشاشة الأنظمة القائمة، سياسياً واجتماعياً، لن يكون بمقدورها الصمود أمام تلك الاندفاعة الديموقراطية وطاقتها الجبروتية المخيفة. ألم تتجسد تلك الطاقة كإرادة سياسية، ولو في سياق تسويغي، في حرب كبرى كحرب العراق الثانية عام 2003 على قاعدة تغيير نظام صدام الاستبدادي ودمقرطة العراق؟ أية بنية محلية أو إقليمية هشة يمكنها أن تقف أمام تلك الاندفاعة؟ لكن البنية الهشة وتداخلاتها الالتوائية مع مجموعة المصالح الدولية التاريخية في المنطقة وفرت لها إمكانية الانحناء النسبي امام العاصفة (الديموقراطية) ريثما تمر، وقد مرت ب «جبروتها» فيما بقيت «الهشاشة» وضعفها... الجبروتي! في «الرأي العام العربي بين ثقافة الاستهانة وحدود الاستجابة» و «جمود الشارع العربي»، تتمكن هشاشة الاستبداد العربي في دولة ما بعد الاستقلال من التحكم بجبروت المجتمع. كما يعمل جبروت المجتمع الهش من الانفصال عن الدولة التي يتنازل عنها إلى الاستبداد نفسه، فيتخلق وضع يعكس في جوهره بطش «الوضع الراهن» الكسيح الذي لا يتغير. وهو وضع تصلح مقارنته بانقضاض مصارعين على رقاب بعضهما بعضاً ووصولهما إلى حالة التعادل: كلاهما ذو قوة جبروتية وكلاهما واصل إلى غاية الهشاشة، ذاك أن حركة أي منهما لن تعني الفوز على الخصم، بل انهيارهما معاً. ومعنى ذلك، سياسياً وسوسيولوجيا على المستوى العربي، أن حالة الشلل التي تكبل الأنظمة والشعوب عن إحداث تغيير جذري في الوضع الراهن صارت تبدو للطرفين وكأنها الحالة «الأفضل» مقارنة بالمجهول الذي قد يعقب انهيار هذا الوضع. في «الغيتو العربي والإسلامي في الغرب»، وبعيداً من الجغرافيا العربية بالتعريف الكلاسيكي لكن في قلبها تماماً بالتعريف الهوياتي والتواصلي، هناك جاليات عربية وإسلامية ترتعد هشاشة وضعفاً في وسط الغرب. بيد أنه من قلب تلك الهشاشة والخوف والترقب، ذي الأسباب العديدة، تبرز تيارات التطرف والأصولية الباطشة التي تمتلك كل الجبروت المتخيل لتقوم بأعتى أصناف الإرهاب (مدريد 2004، ولندن 2005 على سبيل المثال الأبرز). وعلاقة ذلك الغيتو بوسطه الأوسع يمكن فهمها من المنظور ذاته. فالمجتمعات الغربية المستقبلة، على استقرارها ورسوخها وانتظام سبل اجتماعها السياسي، وانفتاحها الحرياتي، صارت هشة وميسورة الاستهداف: تحول جبروت نجاحها التاريخي وتراجع القبضة الأمنية المباشرة إلى نقطة ضعف تغري متطرفي الهشاشة من الغيتو العربي والإسلامي ليترجموا خلاصات توترهم فيغطوا جماع ضعفهم بطبقة رقيقة وسخيفة من الجبروت الآني. وفي المجال الانتخابي، أيضاً، في الأردن كما في فلسطين، تتبادل الهشاشة والجبروت الدور: انتخابات يُناط بها أن ترمم وضعاً هشاً، فتخلق أوضاعاً أكثر هشاشة. ويتبلور في قلب الهشاشات الإضافية الناتجة جبروت متوتر يصدر عن ضعف أكثر من صدوره عن أي موقف قوة. في حروب وصراعات وتنافسات الحروب الإقليمية يتجسد ديالكتيك الجبروت والهشاشة بشكل مذهل. أبرزه في حرب الولاياتالمتحدة على العراق التي ربما تمثل ذروة الجبروت الظاهري في عقود ما بعد الكولونيالية المباشرة في الشرق الأوسط (أو عودة لها). عرّى هذا الجبروت وبسرعة قياسية هشاشة جيش صدام حسين والذي أنتج تبخره المفاجئ خلال أيام دهشة ما تزال قائمة حتى الآن. لكن الجبروت ذاته سرعان ما تعرى هو الآخر من قبل الجماعات المسلحة التي قامت على الفور إما تحت شعار مقاومة المحتل، أو من دون شعارات ومدفوعة عملياً بنوازع وأهداف بدائية، طائفية وإرهابية وسواها. امتلكت هذه الجماعات الناشئة القدرة على إحباط مفعول الجبروت الأميركي المخيف على ضخامته، وعلى هشاشتها. وبالتوازي مع ذلك صارت إيران، الصاعدة من ناحية، والخائفة من ناحية أخرى، تراكم جبروتاً خاصاً بها أساسه هشاشة سياسية وشعاراتية وضعف بوصلة مجتمعية. الجبروت الأميركي أزاح من وجه إيران أهم عدو لها وفتح المجال لهشاشتها كي تأخذ أبعاداً إقليمية، وتصبح جبروتية باتجاه سورية، و «حزب الله»، و «حماس»، من خلال قوس محور «الممانعة». الجبروت المتأسس على توتر وهشاشة ينطوي على خطر إعادة إنتاج الهشاشة نفسها. والهشاشة المتولدة عن جبروت تنطوي على خطر إعادة إنتاج التوتر والجبروت الأعمى. جانب من هذه العملية التدميرية يظل في وارد الإنتاج وإعادة الانتاج في داخل مجتمعات المنطقة وحولها. * أكاديمي وباحث فلسطيني - جامعة كامبردج [email protected]