خلال القرن التاسع عشر كله، لم يكن بقي في ايطاليا من الموسيقى الجديرة بهذا الاسم، سوى تلك التي تكتب للأوبرا، اذا استثنينا بعض الأعمال الدينية ذات الأهمية الثانوية مقارنة بالموسيقى الدينية العظيمة التي كانت تكتب في القرن السابق عليه. جهود المبدعين الموسيقيين كلها راحت تنصبّ اذاً، على ذلك الفن الذي باتت له حظوة كبيرة لدى عامة الجمهور وخاصته، وراحت اصنافه وتوجهاته تتنوّع. وعلى رغم ان فن الأوبرا الايطالية منذ بدايات ذلك القرن عرف كيف يحافظ على التقاليد التي كان بناها لنفسه خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، فإنه في الوقت نفسه عرف زوال الحدود التي كانت قائمة، بكل صرامة، بين ما كان يسمى "أوبرا جادة" و"أوبرا هازلة" أو حتى تهريجية. وهو - أي فن الأوبرا - كان في ذلك الحين بدأ يتعرض لتأثيرات جدية وعميقة جاءته من الغرب: من فرنسا. ومن هنا، لكي تستعيد الموسيقى الايطالية فرادتها وتألقها، مستفيدة على أي حال من تلك التجديدات، كان عليها ان تنتج موسيقياً عبقرياً مؤسساً، يتلاءم عمله مع "حداثة" القرن التاسع عشر. وكان جاكينو روسيني هو ذلك العبقري الذي اليه يعود، قبل أي شخص آخر، الفضل في نقل الموسيقى الأوبرالية الايطالية من الكلاسيكية الخالصة الى الرومانسية، من دون ان يؤدي ذلك الى احداث اي قطيعة حادة مع ذوق الجمهور. وهكذا عرف روسيني كيف يمزج في أعماله المتتالية، والكثيرة، حساً رومانسياً بابعاد تقليدية كلاسيكية. ولعل العمل الذي أنجزه روسيني، ويبدو - على بساطته اليوم الأكثر تعبيراً عن هذا المزج - هو أوبراه "الايطالية في الجزائر"، الذي يجمع بين مناخات استشراقية كانت سائدة في ذلك الحين، وبين نزعة رومانسية غرامية، اضافة الى فنون "الأوبرا الهزلية" الخالصة، وتوق المتفرجين الى أعمالهم تريهم كواليس القصور والمؤامرات الغرامية داخلها، في جو ميلودرامي تغريبي بالنسبة اليهم. من المؤكد ان هذه الصفات كلها قد لا تبدو مهمة جداً لمن يعرف الأوبرا أعمالاً من فاغنر، ضخمة اسطورية، لكنها تبدو مهمة في التأسيس للمرحلة التالية من مراحل مسار الأوبرا الايطالية كما تجلت عند فيردي وبوتشيني لاحقاً... مع اشارة ضرورية هنا الى ان كل عمل فيردي العظيم، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحتى بدايات القرن العشرين، انما يبدو وليد أوبرا روسيني "وليام تل"... لكن هذه حكاية أخرى ليس هنا مكانها. المكان هنا هو لواحدة من أنجح أوبرات روسيني: "الايطالية في الجزائر"، التي يروى ان الفنان أنجز موسيقاها خلال ثلاثة أسابيع لا أكثر، وانه كتبها في عام 1813، اضافة الى ثلاث أوبرات أخرى منها "تانكريدي"، في ذلك العام، ولسبب لم يتضح تماماً، بدا ان الفنان يسابق الزمن. والحال ان غزارة انتاجه من الناحية الكمية في ذلك الحين، لم تمنع ذلك الانتاج من ان يكون متميزاً. اذاً، لحّن روسيني "الايطالية في الجزائر"، وهو بعد شاب بالكاد تجاوز العشرين من عمره. والحال ان هذا العمل، اذ نجح حين قدم للمرة الأولى في البندقية يوم 22 أيار مايو 1813، هو الذي فتح الطريق واسعاً أمام روسيني، وأمّن له حماية في عمله، حتى حين كان الاخفاق من نصيب عمليه التاليين "اورليانو في تدمر" و"التركي في ايطاليا. ومن المؤكد ان فشل هذين العملين الاخيرين، مقابل نجاح "الايطالية في الجزائر"، يؤكد ان ما همّ الجمهور واجتذبه لم يكن ما في الأعمال الثلاثة من قاسم مشترك هو تصوير "تلاقي الحضارات"، بذلك الشكل الكاريكاتوري الذي تصوره الأعمال الثلاثة معاً، بل التجديد الموسيقي في "الايطالية" والذي حاول روسيني تكراره في العملين التاليين، لكنه اذ بدا في المرة الأولى أصيلاً، بدا بعد ذلك مكرراً لا تجديد جدياً فيه. ويمكننا ان نقول أيضاً ان جزءاً من نجاح "الايطالية في الجزائر" ربما يكمن في ان الجمهور الايطالي كان يعرف "طبعة" أولى من هذا العمل، اذ كان سبق للموسيقي لويجي موسكا ان لحن أوبرا انطلاقاً من النص نفسه الذي كتبه انجلو آنيلي، ليقدم في ميلانو قبل سنوات من تقديم عمل روسيني. صحيح ان العمل القديم لم يحظ باعجاب النقاد والجمهور بموسيقاه، لكنه ككل ابقى ذكرى طيبة خدمت روسيني لاحقاً، ما مكّن من اكتشاف روعة موسيقاه. اذاً، لحن روسيني "الايطالية في الجزائر" انطلاقاً من نص مسرحي كان معروفاً. وهو نص بسيط يصل الى حدود السذاجة من ناحية الفكرة، اذ ينطلق من حكاية الحسناء روزيلانا التي كانت المحظية المفضلة لدى السلطان سليمان الثاني القانوني، وهي حكاية حقيقية، لينقل الاحداث الى جزائر بدايات القرن التاسع عشر، أيام حكم وال تركي هو مصطفى باي الجزائر، الذي حلّ في العمل الأوبرالي محل السلطان العثماني. منذ البداية يطالعنا مصطفى بي وقد بدأ يسأم زوجته الخاصة الفيرا فيكلف القبطان علي، زعيم القراصنة، بأن يأتيه بامرأة اخرى يريدها هذه المرة ايطالية. وتشاء الصدف ان تصل الى شاطئ الجزائر، بفعل العاصفة، في الوقت نفسه سفينة على متنها الحسناء الايطالية ايزابيلا، التي تدور بحثاً عن خطيبها ليندور الذي كان القراصنة قد خطفوه، يرافقها الفارس تاديو، الأمين والعاشق لها في الوقت نفسه. ولما كان كل عمل ميلودرامي يقوم على الصدف، ها هي الصدفة تكشف لنا ان ليندور نفسه موجود في قصر الباي، كعبد. وهكذا، اذ تقدم ايزابيلا لمصطفى تزعم انها تشجعه على مغازلتها وقد آلت على نفسها ان تخدعه لتظفر بما تريد. واذ يستكين الباي اليها تنظم ايزابيلا حفلة صاخبة مليئة بالتهريج والأكل وتعطي مصطفى خلالها لقب "بابا تاتشي" شارحة له ان هذا اللقب الشريف يطلق في بلادها على الاشخاص الذين يحبون الياة ومولعون بها ويحبون الحياة والشرب والنساء في الوقت نفسه. واذ يُطرب مصطفى للقب يروح آكلا وشارباً بكل شراهة معتقداً ان غرقه في هذا انما هو تشريف للقبه الجديد. وهكذا، اذ يستبد النهم بالباي، يتوجه ليندور وايزابيلا ورفاقهما الى السفينة التي تنقلهم الى بلادهم. وحين يفيق مصطفى من هذا كله ويدرك الخديعة، يستبد به الغضب الشديد، ويروح ذارعاً قصره كالمجنون... لكنه شيئاً فشيئاً يعود الى هدوئه، ولا يكون منه الا ان يعود الى امرأته الفيرا، وقد استنتج - وها هو يعلن غناءً - ان النساء الايطاليات لا يصلحن له. وان المرأة الحقيقية التي تصلح له، انما هي زوجته الطيبة والوفية ألفيرا، التي تستقبله بكل حنان فاتحة ذراعيها، غافرة له ما فعل. في تلحينه لهذه الأوبرا، التي راحت تبعد موسيقى روسيني عن الهزل الخالص - والايقاعي - الذي كان يهيمن على بعض أعماله السابقة عليها، بدأ الفنان الشاب يسلك طريق الأوبرا المرحة، الذي سيطبع أعماله مذاك، خالقاً ما سمي لاحقاً ب"الأسلوب الروسيني الخالص" والذي يقوم على دمج الميلوديات العاطفية في حيوية ايقاعية دينامية تقوم على التركيز على الجملة الموسيقية نفسها مؤداة غالباً عبر استخدام أكبر عدد ممكن من الآلات الموسيقية، وغالباً الأوركسترا كلها. ويذكر مؤرخو الموسيقى ان بعض اجواء هذا العمل اكتسب على الفور شعبية كبيرة، ليس في ايطاليا وحدها، بل في طول أوروبا وعرضها إذ خلال شهور من التقديم الأول للعمل، كان الأوروبيون يغنون معاً ذلك الثلاثي الرائع الذي يهيمن على الفصل الثاني، من حول لعبة "الباباتاتشي". ولد روسيني عام 1792 في بيزارو، ورحل عن عالمنا بعد ذلك ب76 عاماً، استفاد من ذلك النجاح، لكنه في الوقت نفسه لم يكف عن تطوير عمله اختباراً وتنفيذاً... ومعظم اعمال روسيني لا يزال حتى اليوم من شوامخ الأوبرا العالمية: "حلاق اشبيليا"، سندريلا"، "سميراميس"، تانكريدو" و"ويليام تل" بالطبع.