على رغم اللهجة المتعجرفة المعتادة، هناك تراجعات في خطاب الرئيس الأميركي، الذي كرّسه لما بات "هاجس" جورج دبليو، وهو الديموقراطية في الشرق الأوسط. لعل الأميركيين انتخبوه، إذا كانوا انتخبوه، من أجل هذه المهمة. وهناك أيضاً، في هذا الخطاب، "ثوابت" تعنت اليمين المحافظ الذي يعبر عنه "الصقور" المتحكمون بالقرار في الإدارة الأميركية. أي ان بوش حاول ان يوفق بين اعتبارات ايديولوجية تخوض معارك دامية خصوصاً في العراق، وبين اعتبارات مصلحية اقتضت منه شيئاً من الرزانة والعقلانية في الحديث عن السعودية ومصر، لكنه لم يتخلَّ عن منطلقاته الغريزية في الحديث عن سورية وايران وكذلك عن الفلسطينيين. تهافت البعض على الاشارة الى "تاريخية" هذا الخطاب، متناسين ان خطابات أخرى أكثر تاريخية استخدمها بوش لتسويق حربه على العراق وأصبح معروفاً أنها تضمنت الكثير من التلفيقات وتجاوزت الحقائق. وهي "أكثر تاريخية" لأن الولاياتالمتحدة ذهبت الى تلك الحرب، واحتلت العراق، وغرقت في التفاصيل، ولا تزال تدافع عن الأكاذيب كما لو أن الحرب لم تقع بعد. أما قضية الديموقراطية فلا كانت ولن تكون يوماً قراراً أميركياً، وانما هي تخص الشعوب والمجتمعات التي لا تنفك أبواق موتورة في الولاياتالمتحدة ترشقها بالاتهامات والاهانات. وإذا كان البعض قد نسي خطاباً "تاريخياً" آخر فإن الرئيس بوش نفسه لم ينس، اذ ذكرنا بآرائه ومواقفه حيال الشعب الفلسطيني، وهو كان خصص أحد خطاباته "التاريخية" ليشطب قيادة هذا الشعب مدعياً انه يؤيد حلاً قوامه دولتان، فلسطين واسرائيل، لكنه يؤيد كل تصرفات عصابة شارون وجرائمها سعياً الى الغاء هذا "الحل". ولعله ينطلق من اعتباره اسرائيل "دولة ديموقراطية"، بالمواصفات الأميركية البحتة، ليبارك كل مخالفاتها للقوانين الدولية، وليبرر ارهابها ويتفهم بناء الجدار الفاصل وجرف الأراضي المزروعة وقطع أشجار الزيتون وضم الأراضي وسكانها عدا الاغتيالات وتدمير الأبنية والمنازل. واقع الأمر ان بوش الذي وقف أول من أمس ليوزع نقاط حسن السلوك على دول المنطقة هو نفسه بوش الذي لا يزال يعامل شارون على انه "رجل سلام". خطاب الديموقراطية مهم بكل تأكيد، وأي خطاب لرئيس اميركي هو محطة سياسية يفترض ان يبنى عليها بالنظر الى الدور الأميركي النافذ في المنطقة والعالم. لكننا اعتدنا خصوصاً مع هذه الإدارة على أقوال تناقضها الأفعال، وعلى أخطاء بارزة لا يعقبها أي مراجعة أو تصحيح. فكل الفضائل والنيات الحسنة التي يمكن أن يبثها الرئيس في مداخلاته عن العرب شعوباً وحكومات، لا تلبث جرائم شارون أن تبددها كأنها لم تكن. حتى ان كل ما حصل في فلسطين، منذ خطاب "الرؤية" ثم خطاب شطب القيادة، لم يلفت أحداً في ادارة بوش الى خطأ الاعتماد على "حس المسؤولية" لدى حكومة اسرائيل. كان التغييب المتعمد لأي نقد لعصابة شارون من العناصر الكافية لنسف صدقية خطاب الديموقراطية. ومثله كان الابراز المتعمد لديموقراطية العراق كهدف أول ووحيد للحرب. ففي أفضل الأحوال لا يزال هذا الرهان تحت الاختبار، لأن كل يوم يمر على العراق يثبت أكثر فأكثر ان البلد يعاني كما عانى سواه من مشاكل الاحتلال، كما يحدث في أي احتلال. ولعل هذا هو السبب وراء شكوك المجتمع الدولي وحذره وتردده في إقحام نفسه في العراق. لقد تحدث بوش وكأن مجرد اسقاطه النظام العراقي السابق ووجود جنوده في بغداد وسيطرة موظفيه على قرار الحكم الجديد واستدراج الصفقات لشركات اصدقائه خطوات كافية لاعلان ان عصر الديموقراطية قد بدأ في العراق. هكذا تصنع واشنطن شعاراتها وتصدقها لتفاجأ بعدئذ بأنها مجرد شعارات وبأن أحداً سواها لم يصدقها.