في السابق كان من يمتلك جهاز "الدش" أو "الستلايت" في العراق يعتقل الأمن العام لمدة شهر ويغرّم مبلغ نصف مليون دينار ويصادر الجهاز. وذلك كان يدفع العراقيين الى اخفاء الجهاز على سطح المنزل وسط عش للطيور لئلا يكتشفها المنافقون ويبلغون الحزب أو الأمن بالأمر. وبقي الحال رهن المجازفة حتى سقوط نظام صدام، حيث دخل البلد في الانفلات الأمني والرقابي، ما أباح استيراد المواد ومنها "الستلايت" الذي أصاب الشعب العراقي بحمى لا تزال مستمرة حتى الساعة. إباء عبدالقادر تعرّض للاعتقال في عهد النظام البائد، بسبب امتلاك الصحن اللاقط. لا يزال حتى هذه اللحظة يبحث عن الشخص الذي بلّغ عنه الحزب في ذلك اليوم "الأسود" على حد قوله، حيث تعرض "للبهدلة" هو وعائلته. لذلك، لا يفكر بامتلاك "دش" مرة أخرى حتى يعرف من قام بالتبليغ ويقتص منه، ومن ثم سأشتري أكبر دش دخل بغداد!". واقتنت انعام محمد 45 عاماً وهي أم لثلاثة أطفال "الدش" بمجرد طرحه في الأسواق المحلية وكان مكلفاً جداً في حينه، حيث وصل سعره الى 650 دولاراً أميركياً بما يوازي مليون دينار عراقي. وتعرض المواطنون الى عمليات استغلال كبيرة من جانب التجار بسبب الاقبال الكبير على شراء "الدش"، الذي تراجع سعره في ما بعد الى 250 دولاراً ولأنواع أكثر جودة مما سوّق في البداية. راضي سعيد يشير الى أنه لا يستطيع الاستمتاع كثيراً "بهذا الجهاز الأعجوبة"، بسبب انقطاعات التيار الكهربائي المستمرة، فيما يؤكد أبو سامر أنه يرفض اقتناء "الدش"، على رغم ضغوط عائلته التي تضطر الى مشاهدة الكثير من البرامج في بيت الجيران "السعداء الحظ". ويعزي سبب رفضه الى أن "الدش" يأتي بالكثير من المسائل اللاأخلاقية". سلام نعمة يضع على سطح منزله "دشين" ويبرر ذلك بالقول ان لزوجته مزاجاً خاصاً في البرامج فيما لوالدته وشقيقاته مزاج آخر، "لذلك وجدت نفسي أمام معركة باردة قد تتفجر في أي لحظة فكان الحل بشراء "دش" آخر لتهدأ الحرب". وهذه حال أبي نزار الذي يعيش أولاده في نزاع مستمر، "فالصبيان يطالبون بدش خاص بهم لأن البنات أصابوهم بنوبات غثيان من كثرة برامج الأزياء والطبخ والمسلسلات المدبلجة التي يشاهدونها!". وأصبح الدش يباع في كل انحاء بغداد وتجده حتى في المحال التي لا علاقة لها به. ويؤكد عمار الحاج، صاحب مكتبة، أنه يبيع الدش بعد أن تراجعت حركة البيع في مكتبته الخاصة لأن الناس لا تشتري اليوم أي شيء سوى "الستلايت". وفي السياق عينه، يقول داؤود قاطع، صاحب محل للمرطبات، إن المبيعات في محله جيدة جداً، لكنه أصيب بالحمى هو الآخر "وزيادة الخير خيرين"، فهو يضع الدش أمام محله ويبيع منه الكثير. وعن علاقة محله المخصص لبيع المواد الغذائية بالدش، يقول مرتضى أحمد ضاحكاً: "الدش يدفعك الى الجلوس أمامه لساعات طويلة فتصاب بالجوع وتطلب الطعام باستمرار وبالأخص "النمنمات" من كرز وحلويات وفاكهة... وتسألني ما علاقة الدش بالمواد الغذائية!". ويتدخل عباس عبدالستار صاحب محل أدوات منزلية ويبيع الدش أيضاً ويقول: "هذه التجارة رابحة جداً، والحمد لله فقد أمنت رزقاً جيداً لي وعملاً مربحاً لولدي وهو خريج كلية الهندسة - قسم الكهرباء وكان عاطلاً من العمل، اليوم بعد أن أبيع الدش أقول للزبون ان لدينا مهندساً قادراً على نصب الجهاز وبسعر مخفوض يصل الى 20 دولاراً فقط، فيرحب". ويقول أصحاب المحال المتخصصة ببيع الأجهزة الكهربائية، ومنهم ادمون خيري، ان المحال مفتوحة بفضل الدش "الذي نبيعه، اضافة الى جهاز التلفاز وبقية البضائع الكهربائية تعاني كساداً كبيراً على رغم انها معروضة بأسعار مخفوضة جداً". ويؤكد الباعة ان اللون الأزرق هو المرغوب للدش "وذلك لمنع الحسد!". وكذلك الأبيض لأنه الطبق الوحيد الذي كان يشاهده العراقيون إذ انه كان "طبق الفضائية العراقية" الذي تحول اليوم الى "خردة". ويؤكد عالم الاجتماع صبري الجبوري ان "حمى الدش" تعتبر صحية، بسبب الكبت والمنع اللذين كان يعيشهما المواطن العراقي. ويذكر ان "وسائل الإعلام كافة كانت مراقبة وتخدم النظام وأفكاره بطريقة أو بأخرى، وما كان يربط العراق بالعالم هو "الفضائية العراقية" وكانت تعرض كل ما هو عراقي صرف. أما القناة المحلية الوحيدة التي كانت تربط العراق بالعالم، فهي "قناة الشباب" التي كان مسموحاً لها سرقة بعض البرامج ومن ثم بثها بطريقة الفيديو على المواطنين، لذلك أنا أجد الحال طبيعية". ويضيف قائلاً: "كانت هناك سياسة تجويع في كل شيء وكانت سياسة طاغية لذلك عاش الشعب في سجن كبير والانسان الجائع يهجم بشراسة على مائدة مملوءة بأصناف الطعام، هذا طبيعي ولا يمكن أن نطالبه بالتعامل بوقار مع هذه المائدة وهو جائع. لذلك فإن الشعب العراقي سيأخذ مدة ليست طويلة كي يتعرف ويستكشف التقنيات الحديثة في العالم حتى يطمئن قلبه في براح الحرية". ويشير الجبوري الى أن "ظواهر كثيرة مثل هذه ظهرت في مجتمعات الاتحاد السوفياتي السابق بعد انحلاله وكذلك في رومانيا بعد سقوط تشاوشيسكو وكذلك في أفغانستان وفي ألمانياالشرقية. وأخيراً فإن ساحة المتغيرات كبيرة وواسعة جداً، ومحاطة بآلاف المحاذير لشعب انعزل عن العالم ثلاثة عقود من الزمن كان العالم فيها يقفز بين ثانية وأخرى!". ديشات في الشوارع وفوق المنازل: اللون الأزرق لمنع الحسد والأبيض رمز "الفضائية العراقية".