مرّت القصيدة الحديثة في الخليج العربي عموماً، وفي السعودية خصوصاً، بمراحل لا تختلف عنها في البلاد العربية، واستطاعت في السنوات الأخيرة أن تثير حضوراً متميزاً للنص الشعري، الذي يراهن على مكوّنات غير مألوفة للعملية الشعرية، أبرزها ما يتصل باللغة والتناص أو المراجعات العميقة في القصيدة الحديثة. وعلى رغم ذلك، ظلت النصوص الشعرية الحديثة تتعايش مع التجربة التقليدية الراسخة في تاريخ الحركة الشعرية. وهذا التعايش يجعل العملية الشعرية فضاء مفتوحاً للجدل على رغم ما تحسمه مقولات الحداثة. الكتابة الشعرية لدى عبدالله محمد باشراحيل في مجموعته الجديدة "أبجدية قلب!" المؤسسة العربية، 2003 لم تكن مجرّد عملية تحويل للمنطوق الشفهي الى مكتوب بصري، وبالتالي، لم تكن وظيفتها تدوين أو حفظ المكتوب لنقله بأمانة الى المتلقي، لأنها تنطوي بالضرورة على معانٍ ووظائف تشمل كل عمليات استثمار الشاعر للطاقة التشكيلية الكامنة في الحروف والكلمات والعبارات. وتجربة باشراحيل فيها سمات متفرّدة، وخصوصية في المستويات الكلّية والإيقاعية والدلالية، حيث تكشف عن مظاهر ديناميتها وانفتاحها على أفق الشعرية والفكرية في شكل خلاّق. ولا يمكن أي قراءة نقدية أن تتعامل مع مظاهر تعدّدية الشكل في تجربة شاعرنا، لأن الكتابة الإبداعية عنده تجربة جمالية - وجودية أساسية، انها مجال حضور الكائن المحدّد في الزمان والمكان المحدودين، ودليل نزوعه الدائم الى المطلق، حيث تتداخل معاني الحضور والغياب، وقد تمحى ليبقى "الأثر" الذي هو البداية والنهاية: "وتحملني على الذكرى،/ مع الحب الذي ما زال قلباً ليس ينساها/ أذوب كعطرها فيها/ أناديها وأسهر ربما تأتي/ فما رجعت" ص 25 وأكثر ما يثير الدهشة في نصوص باشراحيل الشعرية، هو هذا التشابك في دوائر البنية الرمزية، وما يمكن أن يختفي خلف صورة أو دلالة من دلالات متقاطعة متداخلة يصعب الفصل بينها، وان كان يسهل التنقل بين ظلالها المتشابكة ضمن غابة الرؤيا الكلية المتوهجة: "صه لا تحدّث/ ان في الأرجاء غول/ كم يهلك من الأنعام مخلبه/ ويلعق من دماء النسل موتوراً ويغتصب الفصول" ص 70 الغول هو دلالة كل القوى التي تسلب الإنسان حرّيته، ولقمة عيش عياله، والأنعام ترمز الى الشعوب المقهورة، ضحايا هذا الغول النهم، أما المتحدّث فهو الشاعر. وهو الطاقة المحركة والحيوية الإبداعية على مستويات الفكر والشعر والسياسة: "والناسك في نعي الآمال يقول/ ماتت أشجار الحب/ وأطلع شجر الزقّوم والرعب" ص 96 خيال ومشاعر ان التأمل في مثل هذه النصوص يعطينا انطباعاً بكون الرؤيا الجيدة للشاعر بكل أبعادها تظل تجسيداً حياً من خلال اللغة، وربما تفطّنت التجربة الشعرية المعاصرة لباشراحيل بأن الخيال والمشاعر والعاطفة لا تؤدي أغراضاً جمالية بمفردها، وانما ينبغي صوغ كل هذا في أسلوب جديد ينتقل بالصورة من حيّزها المعقول الى شكل انبثاقها الموحد. وهكذا فإن الصور التنافرية والاستعارات والمجازات اللغوية والانزياحات بكل أنماطها، تتدخل للتكثيف من اقامة اللغة في القتامة والغموض بدافع من تحريض المعنى الغائب، من أجل الحضور الشمولي لرؤيا الفن والوجود الذي يجسد الشعر حركيته الأكثر تميزاً وشاعرية. ينشأ العذاب من وعي الإنسان لذاته في ظروف موضوعية واجتماعية تقف حائلاً دون تحقيق هذه الذات بالصورة التي تريد، ومن ثم فإن الواقع عنده مصدر للشرور التي أنتجتها العلاقات الاجتماعية والظروف الموضوعية السائدة. وقد تجلّى مفهوم العذاب بغزارة وبصورة تصاعدية "في النص العربي الشعري نتيجة للظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي عاناها الوطن العربي. فكان لهذه العوامل أثرها في الذات التي عجزت عن التلاؤم مع معطيات الواقع، وتجلّى هذا العجز بصورته المرعبة في نص "الحداثة الشعرية" التي ما زلنا نعيش انجازاتها حتى اليوم. ولما كان الفنان من أكثر الأفراد صدامية مع الواقع نظراً لطبيعته النفسية والفكرية، فإن حالات مثل القلق والاغتراب والسوداوية تظهر لديه جليّة، وتختلف هذه الحالات من مبدع الى آخر تبعاً للعناصر المكبوتة في اللاشعور وتفاوتها من هذا الى ذاك، فإذا كانت المكبوتات ضخمة ظهرت في العمل الفني بمظهر حاد يوازي ما ترسّب في اللاشعور: "كل آهاتي جراح/ كل أيامي التي استمهلتها صارت ظلاماً/ كذب الوعد الذي أمّلني" ص 8 وفي قصيدة أخرى يقول باشراحيل: "ودّع بريق الشمس في الزمن المريب/ فالقهر عاش والنوائب تستجيب/ أغداً هو الوعد الكئيب/ هيّا نودع بعضنا بعضاً" ص 13 إن الإنسان المعاصر، كما يظهر من خلال هذين النصين، معزول مجبر على أن يتعاطى سموم الواقع ومفاسده، فاغترب وجودياً، على أن الاغتراب الوجودي يختلف في هذين النصّين عن الاغتراب الروحي. فالمغترب الوجودي يفقد معنى الأشياء والعناصر الخارجية، ويتساءل في نفسه ما معنى كل هذا، أما المغترب الروحي فيحافظ على معنى هذه الأشياء في ذات المعذّب، ولكنه، أي المعذّب، يغترب عنها قسريّاً، فالحياة ذات معنى رائع عند هذا المغترب، ولكن تبدو صورة المغترب وجودياً أكثر تطرفاً وأكثر تأزّماً من صورة المغترب، روحياً: "هذه الدنيا فصول الوجد فيها/ إنها أمّ وتغتال بنيها/ كي تواري فيهم الأشواق" ص 79 حضور المرأة وتبرز المرأة في شعر باشراحيل، رمزاً ومعنى، وحضوراً متوهجاً كأن يقول: "أغير يا حبيبتي وكيف لا "أغير"/ فإنك الهواء لي والفيض في الضمير/ وإنك المنى التي تضوع بالعبير/ ككل شيء رائع بوجهك المنير/ أغريتني ألفيتني في حبك المثير" ص 18 يقدم شاعرنا في هذا النص، وفي لغة بسيطة لا تلجأ الى تعقيدات الفلسفة وعلم النفس تحليلاً نفسياً لمعنى الحب ولأهمية المرأة في حياته المادية والروحية، ويقدم تعريفاً للمرأة العاشقة وأمثلة لا تخلو من حسيّة العشق، تختلف عما نجد في شعر نزار قباني أو عمر بن أبي ربيعة، فالحب عند باشراحيل لا يقتصر عليه بل يشمل الحبيبة. ففي الكثير من قصائده نجد الحب حاضراً، في أبهى صوره وأقسى لوعاته: "يبحث عن أنثى تسكنه/ أبحث عن نمر يسكنني/ لا يلمسني ويعذّبني/ أبحث عن وجهي في المرآة" ص 53 يعرض هذا النص صورة من صور الانكسارات المريرة الناتجة من القطيعة بين المرأة والشاعر، فالرجل عامل من عوامل الطمأنينة للمرأة، والمرأة عامل طمأنينة للرجل، بيد أن تلك الطمأنينة لم تتكلل بالنجاح لأن النص يحمل في طياته معالم الضياع والبحث لكل منهما. وإذ يكتب الشاعر هذه المقطوعة قائلاً: "الخيل والفرسان والرهان/ وقصة الأمجاد والأعياد/ أسطورة قديمة" ص 20، فهو يكشف قدرة فائقة في استخدام الموروث الأدبي العربي، ووعياً بالتراث عميقاً. والحداثة الشعرية في شعر باشراحيل تتمثل باستعمال المحسنات اللفظية، ما يجعل التراث في صناعة الشعر حاضراً في الأذهان، أكثر إشراقاً وأبعد من أسلوب اللفظية التي تَصِم الشعر في العصور المظلمة. * صدرت المجموعة الشعرية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت - عمان 2003.