الحوار الفلسطيني الذي تستضيفه القاهرة اعتباراً من بعد غد الثلثاء يجدد الأمل بإحياء مسار سلمي يقترب من الاحتضار. كان هذا الأمل قد ابتعد بعدما وفرت أخطاء فلسطينية متكررة ومتراكمة فرصة تاريخية انتهزتها القوى الأكثر تطرفاً في إسرائيل لتحقيق هدفها في تشييع العملية السلمية. فهذه القوى تمتلك مشروعا لتصفية قضية فلسطين اعتماداً على اختلال حاد في ميزان القوى لا يقتصر على القدرات العسكرية. فالفجوة في هذه القدرات ليست الخطر الأهم على قضية فلسطين اليوم، بل الهوة الشاسعة بين طرف يملك مشروعاً واضحا يوجهه وآخر يتحرك عشوائياً على غير هدى. فللمرة الأولى في تاريخ جهود التسوية، نجد حكومة إسرائيلية تدمر هذه الجهود وفق رؤية استراتيجية لا مناورة تكتيكية. فقد بدأ أرييل شارون في بناء الجدار الفاصل ضمن رؤية متكاملة لا مجرد خطة أمنية. وفي إطار هذه الرؤية، ينطوي الجدار على مغزى توسعي لا يقل عن حربي 1948 و1967. وفي غياب رؤية فلسطينية لمواجهته، وجد شارون في معظم الفصائل الرئيسة وأجنحتها المسلحة من يساعده في تحقيق هدفه. وهذا ما كانت الديبلوماسية المصرية منتبّهة إليه في الشهور الأخيرة، برغم أن الحرب على العراق وتداعياتها نقلت بؤرة الاهتمام الإقليمي من المشرق إلى الخليج. فقد امتصت القاهرة الصدمات الناجمة عن تعثر، ثم إخفاق، مسعاها لتفعيل "خريطة الطريق" عبر ترتيب هدنة توفر فرصة لإحياء المسار السلمي. وكانت القاهرة تعرف أن شارون يريد نسف الخطة، وأن تحفظاته عليها ليست إلا تعبيراً عن رفض لها. لذلك بذلت جهودها لاقناع الفصائل الفلسطينية بتجميد العمليات، وإن لم تفلح في اقناع واشنطن باستخدام نفوذها لدى شارون لحمله على وقف الملاحقات والاغتيالات. فكانت هدنة من جانب واحد استمرت 50 يوما قبل أن تؤدي عملية القدس في 19 آب أغسطس الماضي إلى انهيارها. والمشهد وقتها بدا محبطا لكل طرف يؤمن بالحل السلمي. وبدا الأمل في جدوى هذا الحل أبعد من أي وقت، بعدما عملت حكومة شارون لتصعيد العنف ثم قررت إبعاد الرئيس ياسر عرفات. مع ذلك تمسكت مصر بهذا الأمل على النحو الذي أشار إليه رئيسها في خطابه الأخير يوم 19 تشرين الثاني نوفمبر الجاري. فقبل لحظات من الوعكة التي أصابت حسني مبارك، تحدث عن الصعوبات التي واجهها بسبب "موقف الحكومة الإسرائيلية الحالية تجاه أي جهد يقود إلى مائدة المفاوضات"، وأكد أن هذه الصعوبات لم تبدد أمله بتحقيق السلام وإقناع شعبي فلسطين وإسرائيل بحتمية التفاوض. وبهذه الروح واصلت مصر دورها انطلاقا من رؤية مفادها أنه لا بديل عن إحياء المسار السلمي لإنقاذ الشعب الفلسطيني من أسوأ مصير يمكن أن تنتهي إليه قضيته إذا نجح شارون في تنفيذ مشروعه. لذلك تحملت هجوماً يتعرض له غالبا ًمن يعملون للمصالح العليا للأمة التي تفرّغ بعض أبنائها للصراخ وتوجيه الاتهامات. وكانت مفارقة حقا أن يعلن قادة مختلف الفصائل تقديرهم لدور مصر في دعم النضال الفلسطيني في الوقت الذي يزعم بعض من لا صلة لهم بهذا النضال أنها تريد القضاء على الانتفاضة! وعلى مدى نحو ثلاثة شهور، منذ انهيار الهدنة السابقة، انغمست القيادة المصرية في عمل دائب بعيد عن الأضواء أثمر أخيراً استعادة التفاهم الفلسطيني على ترتيب هدنة جديدة، واقناع حكومة شارون، بموجب ضغط أميركي عليها بأن تكون هدنة من الجانبين هذه المرة. ففي الوقت الذي وضع الوزير عمر سليمان، مبعوث الرئيس المصري، اللمسات النهائية في عملية ترتيب الحوار الفلسطيني لإقرار الهدنة، حصل على موافقة إسرائيلية مبدئية على وقف أعمال العنف ضد الفلسطينيين. وسبق ذلك تجميد العمليات المسلحة ضد أهداف مدنية إسرائيلية ووقف عمليات اغتيال قادة الفصائل، مع انخفاض ملحوظ في مستوى العنف بوجه عام. كان الطريق الى هذا الإنجاز شديد الوعورة سلكته مصر بمفردها هذه المرة. فالإحباط المتزايد وتراجع الأمل بنجاح أي جهد سلمي، حيّدا دور أطراف عربية تساعد عادة في مثل هذا الجهد، خصوصا الأردن. كما أن إنشغال واشنطن بما لم تتوقعه في العراق صرفها عن الأزمة الفلسطينية-الإسرائيلية بعد اخفاق الجهد الذي شارك فيه الرئيس بوش بحضوره قمتي شرم الشيخ والعقبة في الأسبوع الأول من حزيران يونيو الماضي. بقيت مصر وحدها تغالب الإحباط الذي لم ينل من إصرارها على مواصلة جهدها السلمي، لأنها تتحرك وفق رؤية استراتيجية تساعد في الاهتداء إلى الطريق الذي ينبغي المضي فيه. وقام تحركها الذي كان معظمه وراء الكواليس، خلال الشهور الثلاثة الأخيرة، على أساس خطة عمل من أربعة عناصر رئيسة: أولاً: إحباط خطة شارون لتغييب عرفات من أجل الوصول بالتصعيد إلى ذروة لا سابق لها، والدفع باتجاه انهيار كامل في الوضع الفلسطيني من جراء عدم وجود بديل جاهز ومقبول يسد الفراغ الذي سيتركه الرئيس الفلسطيني. كان أبو مازن الوحيد في القيادة الفلسطينية الذي يمكنه ملء هذا الفراغ بدرجة أو بأخرى. لذلك لم يتردد شارون في حرقه سياسيا بل تعمد ذلك. لكن مصر أحبطت خطة شارون لتغييب عرفات عبر اقناع واشنطن بأنها يمكن أن تحرق المنطقة برمتها. ثانياً: المساعدة في تذليل العقبات التي اعترضت تشكيل حكومة أبو علاء فلسطينيا وإسرائيليا. كانت رسالتها الى عرفات واضحة وهي أن فشل مهمة أبو علاء، بعد ما حدث مع أبو مازن، يضعفه شخصيا فضلا عن تعريض الوضع الفلسطيني كله لخطر أفدح من أي وقت مضى. كما سعت الى اقناع واشنطن بأن ترك شارون يدمر رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد، لن يترك مجالا لظهور شريك آخر في عملية مقبلة. وأثمر التحرك المصري موقفا أميركيا أقل تشددا تجاه شروط "تأهّل" الحكومة الفلسطينية، خصوصا على صعيد الأجهزة الأمنية، ما اضطر حكومة شارون بدورها الى خفض سقف مطالبها. ثالثاً: الحفاظ على حد أدنى من الأجواء التي تعطي مسحة من أمل بإمكان استئناف المسار السلمي، عبر التحرك في اتجاه أساسي وآخر ثانوي: أساسياً، سعت مصر إلى ابقاء "خريطة الطريق" خطة مطروحة. فسعت لدى واشنطن من أجل إصدار قرار من مجلس الأمن يجعلها ملزمة. ولما لم تلق اهتماما، تداولت الأمر مع باقي أطراف اللجنة الرباعية الدولية فبادرت روسيا الى تبني الموضوع وتحمست له الى حد أن شارون لم ينجح في أن يثنيها عنه خلال زيارته الى موسكو نهاية الشهر الماضي. وعندما وجدت واشنطن أن التحرك الذي قامت به مصر لإحياء المسار السلمي بدأ يثمر، صار الطريق مفتوحا لإصدار قرار مجلس الأمن 1515 في 19 الجاري لدعم تطبيق "خريطة الطريق". وثانوياً، شجعت مصر جهود أنصار السلام الفلسطينيين والإسرائيليين التي بدأت فى جنيف، عندما اقتربت من تحقيق اختراق يتيح وضع وثيقة لحل سلمي لأنها تخلق جواً من التفاؤل بغض النظر عن جدواها عملياً. رابعاً: تسريع التحرك اعتبارا من الأسبوع الثاني في الشهر الجاري لترتيب الهدنة اللازمة لإحياء المسار السلمي. فمصر كانت قد حافظت على قنوات الاتصال مع الفصائل الفلسطينية. ولم يحبطها سوء تقدير هذه الفصائل للموقف وضعف إدراكها للخطر الذي يهدد القضية، فعقدت لقاءات غير معلنة خلال الشهر الماضي مع قادة في هذه الفصائل شملت موسى أبو مرزوق، عضو المكتب السياسي لحركة "حماس"، ورمضان شلح، زعيم حركة "الجهاد". كما عقدت لقاءات مع مسؤولين أمنيين إسرائيليين هما رئيس الموساد مئير دعان ورئيس "شين بيت" أفي دختر. وأدى هذا كله إلى تحسين الأجواء بما أتاح التحرك نحو استئناف حوار الفصائل الذي يبدأ بعد غد في القاهرة للتفاهم على موقف موحد في شأن هدنة جديدة، ولكن من الجانبين لا من جانب واحد. وهكذا فما لم يكن ممكنا تخيله قبل ثلاثة شهور صار قريبا اليوم. والمسار السلمي الذي بدا قريبا من حال الاحتضار سوف تدب الحياة فيه خلال الشهر المقبل. لكن هذا لا يعني إحراز تقدم بالضرورة. فالمتطرفون في إسرائيل مازالوا قادرين على إحباط الجهد السلمي. والمتشددون الفلسطينيون لا يمتلكون رؤية تمكّنهم من مغادرة موقع رد الفعل الذي تسهل فيه استثارتهم. لذلك ربما كان مفيدا أن تهتم مصر، التي ترعى الحوار الفلسطيني، بتوجيهه صوب التفاهم على رؤية أوضح تشمل، بين ما تشمل، إعادة ترتيب البيت الذي يعاني اختلالات حادة، وبلورة برنامج سياسي ينطوي على رؤية استراتيجية تعصم الفلسطينيين من انزلاقات الحركة العشوائية ومخاطرها.