صهاريج النفط العراقي المتجهة إلى الحدود الأردنية تعيد الدفء إلى العلاقة بين البلدين الجارين بعد فترة التوتر القصيرة التي تسببت في عرقلة دخول العراقيين إلى الأردن والتضييق على إقامتهم، وقيل في حينه ان السبب يرتبط بجملة حسابات سياسية جاءت على خلفية العداء بين أحمد الجلبي زعيم "المؤتمر الوطني العراقي"، الذي كان على رأس السلطة الدورية في أيلول سبتمبر الماضي، ومسؤولين أردنيين. لكن حركة صهاريج النفط، كما لاحظ السائق الذي أقلنا في رحلة ال"جي ام سي" بطيئة وغير منتظمة بخلاف ما كانت عليه في عهد الرئيس المخلوع صدام حسين، وتأكدت لدينا هذه الملاحظة من مصادر أردنية موثوقة أشارت إلى أن أكثر من 700 صهريج كانت في السابق تنقل ما يقرب من 80 ألف برميل نفط يومياً، لكن حركتها تقلصت لأسباب أمنية بحتة حيث الطريق لا يزال غير مأمون. وبحسب المصادر نفسها، فإن الأردن اشترى 6.2 مليون برميل نفط من العراق بسعر السوق، لكن معظمها سيصل عبر البحر، من ميناء البكر في البصرة إلى ميناء العقبة الأردني. وإذا كانت مسألة دخول العراقيين إلى الأردن عادت إلى وضعها الطبيعي، إلاّ أن هناك بعض الاشكالات في الجانب العراقي من الحدود، حيث يتعرض بعض المسافرين لمحاولات ابتزاز من جانب رجال أمن الحدود العراقيين الذين يفرضون ما يصفه جمال داود، وهو جامعي عراقي جاء إلى الأردن للزيارة، بأنها "خاوة"، ويضيف: "انهم يحاولون الحصول على رشوة من مواطنيهم المسافرين عن طريق اختلاق المبررات والتشكيك في صحة جوازاتهم التي يحملونها، خصوصاً بعدما اتسعت ظاهرة الجوازات العراقية المزورة". وقالت لنا سيدة عراقية دخلت الحدود ظهر يوم 11 تشرين الثاني نوفمبر مع زوجها وابنها، إنها تعرضت للابتزاز من قبل رجال أمن الحدود العراقيين بدعوى أن جوازها الاصولي الصادر في ظل العهد السابق والذي لا يزال قانونياً نافذ المفعول، يحتاج إلى إعادة ختمه من سلطة جوازات بغداد، وان عليها العودة إلى بغداد لإنجاز ذلك. وفضلت السيدة المذكورة مرغمة دفع 150 دولاراً مقابل السماح لها بالخروج. وتقول: "في زمن صدام كان موظف الحدود يخاف السلطة، الآن كل موظف هو سلطة، وبخاصة رجال أمن الحدود الذين تربوا في ظل النظام السابق، ويريدون الحصول على أكبر قدر من المغانم، ولو على حساب مواطنيهم". مجمع طريبيل الحدودي، الذي عاد له اسمه الأول بعدما اتخذ اسم "مجمع أم المعارك" في السنوات الأخيرة من حكم صدام، يكتظ بمئات العراقيين المسافرين يومياً، والانطباع الذي يتكون للوهلة الأولى أن غالبيتهم إما من "تجار الحواسم"، وهي التسمية التي يطلقها العراقيون على الأثرياء الجدد الذين حصلوا على أموالهم عبر عمليات السلب والنهب في الفترة التي أعقبت سقوط نظام صدام، وإما من رجال الاستخبارات وأجهزة الأمن أو من البعثيين الذين جاؤوا يبحثون عن ملاذ آمن، خصوصاً أن بعضهم مطلوب عن جرائم قتل وقمع وتعذيب ارتكبوها في حينه، والقليل فقط منهم من صنف العلماء والأكاديميين الذين يريدون الهجرة إلى بلد مستقر! يقول كريم راضي، الذي يدير مكتباً لتجارة السيارات في المنطقة الحرة بمدينة الزرقاء الأردنية، إن "تجار الحواسم" يقومون بشراء السيارات من المنطقة الحرة في الزرقاء وكذلك من العقبة، لإعادة تصديرها إلى العراق. ويقدر عدد السيارات المصدرة منذ نيسان ابريل الماضي ب50 ألف سيارة. ويضيف "انها أشبه بعملية تبييض أموال". أما أبو يوسف، وهو مدير لفندق سياحي يقع في وسط عمّان، يرتاده العراقيون، فيقول إن زبائنه من العراقيين بعضهم من الأثرياء الجدد "الذين يرتدون ثياباً رثة لكن جيوبهم تحمل آلاف الدولارات"، وبعضهم من ضباط الاستخبارات الذين يحملون جوازات سفر مزورة. وغالباً ما تكون بغير اسمائهم الحقيقية. يضحك أبو يوسف وهو يقول: "ناديت أمس على أحدهم بالاسم الذي ظهر في جوازه، لكنه لم يرد فقد نسي اسمه الذي جاء به"! مؤيد...، ضابط استخبارات، جاء إلى الأردن بعد قرار تسريح جهاز الاستخبارات الذي اتخذته سلطة الاحتلال، يؤكد أنه لم يقتل أو يعذب أحداً، وليس مطلوباً من أية جهة: "نعم انني عملت في جهاز استخبارات صدام، ولكنني كنت أؤدي مهمات في إحدى الشعب الإدارية، لقد أصبح عملي السابق جزءاً من الماضي، واريد اليوم أن أعيش فقط!". لكن مؤيد يعترف ان بعض رفاقه، وهم موجودون في عمّان، كما يقول، جاؤوا بجوازات سفر مزورة خوفاً من ملاحقتهم جراء أعمال ارتكبوها. ويقر أن واحداً منهم على الأقل أعاد ارتباطه بمن يسميهم "جماعة صدام" وهو يعمل معهم اليوم "ربما جاء إلى عمّان في مهمة مكلف بها من قبلهم". ويضيف انه واثق من أن ذلك تم بدافع الرغبة في الحصول على المال، و"صدام يدفع لكل من يعمل معه!". ومهما تكن صفة وأهداف العراقيين الذين يجيئون إلى عمّان هذه الأيام، فإنهم يشكلون بالنسبة إلى الأردن مورداً مالياً مهماً، سواء عن طريق شرائهم للسيارات والبضائع ونقلها إلى العراق، أو من خلال اقامتهم حيث تتوافر عند بعضهم أموال كافية للانفاق اليومي الباذخ، وبعضهم اشترى أو يشتري عقاراً للإقامة الدائمة في الأردن. ويقول اردني يعمل في مجال تجارة العقار: "إن عقارات سجلت باسماء عراقيين خلال فترة الشهور الأخيرة، وبينهم سفراء سابقون وضباط استخبارات وأفراد من أسر مسؤولي النظام السابق"، وسمّى سفيرين بالاسم، وديبلوماسياً ثالثاً، قال إنهم اشتروا "فيلات" في منطقة معروفة بطابعها الارستقراطي في عمّان، وان آخرين اشتروا أو ساوموا على شراء شقق في أحياء أخرى من العاصمة. وحركة انتقال البشر والأموال بين العراقوالأردن ليست جديدة، فقد تنامت منذ حرب العراق وإيران التي ولدت على بعض أطرافها ازدهاراً غير مسبوق، وانشأت في حينه شركات ومؤسسات في الأردن بملايين الدولارات، واقيمت فنادق كبيرة، ونشطت حركة نقل البضائع الواردة من مختلف مناشئ العالم إلى العراق عبر العقبة، ما استدعى اجراء توسعات كبيرة في الميناء. ويعترف تجار أردنيون أن اقتصاد الأردن يعتمد في الكثير من مفاصله على العلاقة مع بغداد، و"التاجر أو الصناعي الأردني يتعامل ويشتري وينتج ويسوّق وعينه على بغداد". وتشير أرقام وزارة الصناعة والتجارة الأردنية إلى أن الصادرات الأردنية إلى السوق العراقية خلال الشهور الثمانية المنصرمة بلغت ما يقرب من 57 مليون دولار، وهو رقم صغير بحسب الطموح الأردني، وهناك أحاديث عن إمكان إبرام اتفاق تجاري جديد بين البلدين على غرار البروتوكول التجاري الذي كان معمولاً به زمن العهد السابق. ويستعد فريق من رجال الأعمال والتجار الأردنيين لزيارة العراق لبحث هذه الأفكار، ووعد أكثر من مسؤول عراقي زار الأردن بالنظر في إمكان اعطاء تسهيلات للأردن في مجال تزويده بالنفط، كما كشفت مصادر اقتصادية ل"الحياة" ان الاتصالات جارية مع بغداد لاستحصال حقوق مالية لأكثر من 60 شركة أردنية ترتبت نتيجة عقود سابقة لتصدير بضائع إلى العراق، وربما ستسدد المستحقات المذكورة من الأرصدة العراقية المجمدة في عمّان والتي تبلغ نصف بليون دولار. وهناك مساعٍ لانشاء غرفة صناعية أردنية - عراقية - أميركية مشتركة، وأخرى أردنية - عراقية - بريطانية، في إطار المساهمة في حملة إعادة إعمار العراق، والعمل على تشغيل المشاريع الصناعية العراقية المتوقفة حالياً وتأهيلها وتطويرها، وتأسيس شركات صناعية جديدة. هناك حسابات سياسية أيضاً في العلاقة بين الأردنوالعراق، فالفرد الأردني، مسؤولاً أم مواطناً، يشعر أن المخاطر التي قد تلحق ببغداد تصل أطرافها إلى بلاده، ومثلما للأردن مصلحة اقتصادية في العراق فان هناك مصالح سياسية ايضاً، تقابلها مصالح عراقية اقتصادية وسياسية في الاردن، ولذا فان العلاقة بين البلدين بمجرد ان تنتكس قليلاً لسبب او لآخر فانه سرعان ما يجري العمل ومن الطرفين معاً على اعادتها الى مسارها الطبيعي. الفترة الوحيدة التي شهدت توتراً حاداً في العلاقة في ربع القرن الاخير هي الفترة التي استضافت فيها عمان زوج ابنة الرئيس العراقي المخلوع حسين كامل، ومنحته الفرصة لمهاجمة عمه صدام حسين، ولمحاولة التآمر للاطاحة به، لكن ذلك لم يدم طويلاً. وكسب صدام، في سنوات حربه مع ايران، الشارع الاردني ونشطت فعاليات عراقية كثيرة داخل الاردن على شكل شركات ومؤسسات ساهم فيها تجار ووسطاء وسماسرة وكذلك سياسيون وصحافيون وانشأ العراق اكبر محطة استخباراتية له في المنطقة كان يديرها السفير العراقي نفسه، ومن هذا الطريق تم عقد صفقات سلاح لتلبية المتطلبات العسكرية للجيش العراقي، وقيل في حينها ان 22 شركة في الاردن مثلت واجهة لنشاطات استخباراتية عراقية متعددة الاشكال، وعمل بعضها في ما بعد في تلبية احتياجات برنامج "النفط للغذاء". ولا يكتم الاردنيون مخاوفهم من ان يعمد بعض رجال الاستخبارات العراقية السابقين، وهم متواجدون في الاردن هذه الايام وتحت ايديهم ارصدة مالية عالية، من اعادة تأهيل تلك الشركات وتنشيط عملها، ما قد يضع الاردن في موقف حرج وصعب قد يضطر معه الى اتخاذ اجراءات تحفظ له أمنه وسلامته. لكن هذا كله لا يقلل من حجم الاحباط والمهانة التي يشعر بها رجل الشارع الاردني بعد السقوط السريع لصدام حسين، وقال ل"الحياة" سائق سيارة أجرة: "كيف يمكن لبغداد ان تسقط في ساعتين امام القوات الاميركية في حين قاومت ام قصر ثلاثة اسابيع... الامر مذهل حقاً!". ويسأل السائق: "كيف اختفى صدام حسين فجأة من موقع مطار بغداد تاركاً جنوده وفدائييه يموتون... لقد كان عليه ان ينتحر او ان يقاوم حتى يموت!". الاردنيون غير راضين عموماً عن الطريقة التي تصرف بها صدام عند انتهاء حكمه ويصبون نقمتهم عليه "لقد خدعنا صدام كما خدع شعبه، وفضيلة الاميركيين الوحيدة انهم كشفوا لنا صدام على حقيقته"، يقولها سائق سيارة الاجرة الاردني بغضب وتأثر شديدين.