خسر سلاح الجو الأردني أخيراً ثلاثة من طياريه واثنتين من طائراته المقاتلة، وقبل بضعة اسابيع خسر كل من سلاح الجو البحريني والاماراتي مجتمعين الحصيلة نفسها، وتعرضت دول الخليج والمنطقة في الاعوام القليلة الماضية لخسائر ملحوظة من هذا النوع. ويتساءل البعض عن حجم هذه الظاهرة وأسبابها الحقيقية، اذ ان فقدان طيار مقاتل ذي خبرة يعد خسارة كبيرة، تضاف اليها خسارة طائرة مقاتلة ربما تمثل سبعة في المئة تقريباً من قوة طائرات الخط الاول كما هي الحال في سلاح الجو البحريني، مثلاً، كما ان هناك دلائل تشير الى ان نسب هذه الحوادث اعلى من المعدلات العالمية المقبولة لدى دول تتشابه معطيات وظروف اسلحتها الجوية بقريناتها في الخليج والمنطقة. منذ البداية صاحبت مسيرة الطيران بشقيه المدني والعسكري ظاهرة حوادث تحطم الطائرات ومقتل الأطقم الجوية. ومع مرور الاعوام وتقدم تقنية الطيران، تراجعت نسبة الحوادث بمعدلات عالية، وهناك معايير ونسب قياسية يتم الاستعانة بها لتحليل اداء السلامة لكل نوع من الطائرات، او منظومة او سلاح طيران، تقابلها معايير اخرى تطبق على الطيران المدني. وهذه المعايير تعتمد على احصاءات ونسب الحوادث مقابل كل مئة ألف ساعة طيران خلال عام واحد، وهناك معايير اخرى مختلفة. وتكون مصادر تلك النسب هي نتائج التحقيق لكل حادث. وتدخل تلك الدراسات والعمليات، ضمن تخصص واسع هو "سلامة الطيران". ويتعين ملاحظة ان عدد الحوادث يزداد طرداً مع تزايد اعداد الطائرات لدى كل سلاح طيران، وازدياد طلعاتها الجوية، اضافة الى تكثيف الطلعات والتمارين الجوية. ويكون حجم الخسارة مضاعفاً لكل حادث يترتب عليه مقتل الطاقم الجوي الطيار او الملاح الجوي، - اذ ان بعض المقاتلات بمقعد واحد وأخرى بمقعدين حسب مهمتها التي صنعت من اجلها - فكلفة برنامج تدريب الفرد الواحد من هذا الطاقم تبلغ في المتوسط بين مليونين وثلاثة ملايين دولار، وتصل مدة هذا البرنامج الى خمس سنوات. ويتعين ان يكمل الطاقم الجوي 12 الى 15 طلعة جوية في الشهر وتكلف الطلعة الواحدة في المتوسط بين خمسة و10 آلاف دولار، متضمنة تكاليف الوقود والصيانة وتكاليف الاطقم الجوية والارضية. فيما تكلف الطائرة الواحدة من طائرات الخط الاول ميراج - 2000 او أف 15 بين 70 و100 مليون دولار تشمل قيمة انظمة ومصاريف المساندة الاولية. وخلافاً للقيمة المعنوية التي لا تقدر بثمن للطاقم الجوي لعائلته ووطنه، فإنها باضافة القيمة المادية والدفاعية تكون كبيرة جداً. وينطوي الطيران المقاتل على صعوبة بالغة كونه ليس طيراناً فقط، بل طيراناً وقتالاً في آن، ينفذ في بيئة من الضغوط الجسدية والفيزيولوجية والطبيعية الاستثنائية. ويتكرر طرح السؤال حول الحوادث الاخيرة: هل هي بسبب خلل فني؟ ام انها بسبب اخطاء من الطاقم الجوي؟ او لماذا لم يقفز الطيار او الطيار ومساعده بالمظلة. وتراوح حوادث الطيران بين "حويدث"، وهو حادث غير مهلك وغير مدمر للطائرة، ويكون على شكل انفجار اطار أو اصطدام بطائر او النزول من دون عجلات، وغيرها من حوادث مختلفة، وبين حادث مدمر يؤدي الى تحطم الطائرة مع ما قد يصاحبه من هلاك الطاقم الجوي. وتنقسم اسباب حوادث الطيران الى ثلاث فئات رئيسة، الاولى: العطل الفني، والثانية: الخطأ البشري، والثالثة: اخطاء اخرى او غير محددة. وهناك اسباب غير مباشرة مصاحبة/ اوتراكمية تؤثر في حصول الحادث، مثل سوء الاحوال الجوية وعدم جاهزية الطيار او عدم كفاءته والمعلومات الخاطئة وضعف برامج التدريب وتعطل او سوء الخدمات الملاحية اجهزة تحديد الاتجاهات والمسافات للهبوط، ومساعدات الهبوط الآلي او سوء المدارج والممرات الارضية. وربما يتراكم او يشترك اكثر من سبب مباشر او غير مباشر خلال مدة من الزمن دون اكتشافها او معالجتها، مما يؤدي الى وقوع الحادث. أما الفئة الاولى: الحوادث بسبب العطل الفني في الطيران المقاتل لدول الخليج والمنطقة - ومن مصادر مفتوحة وغير رسمية - فهي اقل النسب، ولا تتجاوز 10 - 20 في المئة من اسباب الحوادث الجوية في أسوأ الاحوال، وهو يراوح بين عطل في المحرك او اجهزة التحكم بالطيران او الانظمة الهيدروليكية او الكهربائية او الحريق. وبما ان دول الخليج والمنطقة في عمومها تمتلك منظومات طائرات غالبيتها حديثة، تدار بصيانة جيدة جداً، او مدعومة من الشركة الصانعة في الغالب، لذلك فإن هذه الفئة من الاسباب ليست المسبب الرئيس للحوادث، مع ان بعض الطائرات يكون تشغيلها منذ البداية، مقروناً بمصاعب تصميمية وتشغيلية، تجعل العطل الفني يكثر فيها من دون غيرها. اما الفئة الثانية، وعي بأسباب الخطأ البشري، فهي الأغلب، وتصل في احيان كثيرة الى 80 - 90 في المئة من نسبة الحوادث، وتراوح تلك الاخطاء بين اتخاذ القرار الخاطئ في وقت ومكان معين، أو ضعف او عدم جاهزية الطيار للتحكم في الطائرة في ظروف صعبة او مجهدة، او إهمال معلومات مهمة او عدم الحصول عليها مما يؤدي الى الحادث. وهناك اخطاء بشرية بسبب الثقة الزائدة للطيار الذي يقوم بمناورات اما استعراضية في غير مكانها وزمانها - غالباً متجاوزاً القواعد والانظمة - او عندما يقوم بمناورات خطرة لم يتقنها من قبل وهي خارج قدرته او قدرة الطائرة مما يؤدي الى الحادث. اما اتخاذ القرار الخاطئ فيمكن تمثيله في عدم تقديره لكمية الوقود المتبقي مما يؤدي الى نفاده قبل هبوطه، اما ضعف قدرته على قيادة الطائرة مثل عدم القدرة على التحكم بالطائرة في طقس سيئ او في مناورات صعبة، او طيران مجهد مثل الطيران المنخفض والليلي، والمناورات الالتحامية المتعددة الطائرات، وتكون عدم جاهزيته ربما بسبب يتمثل في عدم لياقته الصحية اثناء الطلعة الجوية او انشغاله بمؤثرات خارجية. اما إهمال المعلومة فيكون ربما بعدم استقباله لتعليمات برج المراقبة او الرادار، مما يؤدي الى جهله او سوء تقديره لموقع طائرة اخرى، فيؤدي الى اصطدام على المدرج او في عرض الجو بين طائرتين. وجدير بالقول من خلال المعلومات غير الرسمية عن هذه الظاهرة في المنطقة، ان هناك عاملين رئيسين مباشرين، اديا الى نسبة كبيرة من الحوادث المتكررة الاخيرة في المنطقة، ويتزامنان مع طلعات الطيران الليلي، وهما بسببين بشريين يتعرّض لهما الطيار: اولاً وهو الأكثر. ظاهرة Special Disorientation ويمكن تبسيط المقصود بها بالعربية انه "فقدان القدرة على تقدير وضع الطائرة"، وهي ظاهرة مصاحبة لغياب الرؤية الواضحة في الطيران الليلي او الطقس السيئ او بهما معاً، مع عدم القدرة على الطيران بواسطة الاستدلال بعدادات واجهزة الطائرة، مما يؤدي الى تأثيرات مضللة على مراكز الاحساس بالاذن والبصر لدى الطيار حيث توحي ان مساره منحرف رأسياً او عمودياً فيما في الحقيقة تكون الطائرة مستقيمة، او العكس، والنتيجة في حال عدم كفاءة الطيار او قلة تجربته، او حتى في حال افضل الطيارين واكثرهم خبرة، من الممكن ان يبدأ صراع بين ما يرى وما يحس يؤدي احياناً بالطيار الى ان يفقد السيطرة على الطائرة وتوجيهها كما ينبغي فتهوي الى الأرض وتتحطم. اما السبب الثاني: فهو Gravity Lock او "قفل الجاذبية"، ويمكن تعريفه ب"فقدان وعي الطيار بسبب هبوط الدم عن المخ بواسطة الجاذبية التسارعية". فالطائرة المقاتلة تقوم بالتفاف حاد بزوايا متصاعدة، مما يؤدي الى التعرض للجاذبية المتسارعة، وتنتج عنها قوة طرد مركزية تؤدي بدورها الى ان يهبط الدم من الرأس واعلى الجسم الى اسفله، وتصل قوة الجاذبية في بعض المقاتلات الى تسعة اضعاف الجاذبية. ومع ان أطقم المقاتلات يرتدون تجهيزات ضغط خاصة، تساعد على مقاومة الجاذبية، الا انها لا تغني عن قدرة الطيار ولياقته، والتزامه المسموح بهما. الفئة الثالثة: وهي الاسباب الاخرى، فتقارب خمسة في المئة من نسبة الحوادث، وهي اسباب نادرة وغريبة، كأن يقفل مدرج المطار لتعطل طائرة عليه، او لأي سبب، فينفد وقود الطائرة، ويقفز منها الطاقم الجوي. او ان تتعرض للاصطدام بطائر يعطل المحرك، او ربما اسباب يعجز فريق التحقيق عن كشفها. اما الخروج بالمظلة فهو قرار يتخذه الطيار او الملاح عندما يفقد السيطرة على الطائرة، والمظلة هي جزء ضمن نظام المقعد القاذف للطاقم الجوي، وهو مقعد يحوي شحنة متفجرة قاذفة او صاروخ صغير. يتم تفعيله بسحب ذراع او يد مثبتة على اكثر من جانب، وفي انواع اخرى في اعلى او اسفل المقعد. حينما تبدأ عملية آلية وسريعة جداً لفك او تحطيم زجاج قمرة القيادة، يتبعها انطلاق المقعد بعيداً عن الطائرة، ثم تنفتح المظلة. والمعضلة الكبرى ان اكثر الأطقم الجوية اما يتأخرون في اتخاذ القرار قبل تحطم الطائرة او لا يفكرون فيه لعدم ادراكهم لخطورة الوضع. وربما يتحقق لدى سلاح جو او وحدة قتالية معينة حوادث جوية قليلة لكن ذلك لا يعني ان هناك فعالية تدريبية تحققت، فالقيام بتدريبات مكثفة ومعقدة سيؤدي حتماً على المدى الطويل الى حوادث، لكن اختيار مرشحين جيدين كأطقم جوية يتلقون خلال تعليمهم وخدمتهم في برامج تدريبية وتقويمية حازمة وفعالة، اضافة الى برامج سلامة صارمة وشاملة، هي متطلبات لا مهادنة فيها. كما ان وسائل التدريب المناسبة للتعلم والفحص، تساعد على فرز الطيارين غير القادرين على مقاومة حالات فقدان الوضع الجوي Special Disorientation وحالات قفل الجاذبية Gravity Lock. اضافة الى ذلك فان تجهيز الطائرات المقاتلة بأجهزة رؤية ليلية، وأجهزة الكترونية لمنع او التحذير من الارتطام بالأرض والاصطدام بطائرة اخرى، سيؤدي متكاملاً مع ما سبق، الى تقليل الحوادث لتكون ضمن معدلاتها المقبولة، واستبقاء الخسائر - ان لزمت - لزمن الحرب في معارك جوية تحقق اهدافها وتبرر التضحية. * عقيد طيار ركن متقاعد. باحث في الشؤون الدفاعية في جامعة لندن.