ليس جديد خطاب الرئيس جورج بوش أمام المؤسسة الوطنية للديموقراطية، إعادة ترتيب أولويات السياسة الأميركية، ودفع شعار التغيير الديموقراطي في المنطقة الى موقع الصدارة لعقود من الزمن. وليس الموقف النقدي من سياسات الغرب القديمة التي غلّبت لغة المصالح المباشرة، ورعت الديكتاتوريات الحليفة على حساب مهمة نشر الديموقراطية. فجديد الخطاب هو ربما حال البلبلة والاضطراب التي خلّفها في صفوف الديموقراطيين العرب، وانعكاسه السلبي على شروط عملهم في سبيل نصرة مشروعهم الخاص في التغيير. فقد سارع اعداء الديموقراطية الى امتطاء موجة الاحتقان من سياسات واشنطن التي تسم الشارع العربي، جراء احتلالها العراق وانحيازها السافر الى جرائم العدو الصهيوني، ليوجهوا أشنع الاتهامات الى من يطالبون بالحرية والإصلاح. وخلصوا الى نتيجة مفادها ان الاصرار على نقد مساوئ انظمة الاستبداد، والدعوة الى اشاعة الحريات العامة، أو الى اجراء انتخابات حرة نزيهة، أو إطلاق سراح معتقلي الرأي هي أمور تمد الأجنبي بأسباب القوة، وتساعده على بث "سمومه الديموقراطية"، وخلق أنسب الشروط لسيطرته وتحكمه في المنطقة. صحيح ان ما يحرك سياسات واشنطن هو مصالحها ومخططاتها، لا القيم والمثل الديموقراطية. وصحيح انها، في غير مكان وزمان، ضربت عرض الحائط بادعاءاتها في الحرية وحقوق الانسان، وانها لا تتردد في تغليب مصالحها الأنانية على لغة المبادئ. ولكن الصحيح ايضاً ان هذه المصالح هي ذاتها استدعت اليوم هذا الجهد الأميركي الخاص في سبيل نشر الديموقراطية، وتعميمها، وتوظيف شتى الوسائل لنصرتها، ليس من باب الرهان على أثر النموذج الليبرالي في تخفيف عداء شعوب المنطقة لواشنطن فحسب، وإنما لأن مثل هذا النموذج يعتبر، في فكر المحافظين الجدد، خير معين لحماية المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية، وضمان استقرارها لأمد طويل. ويفترض بنا أخذ هذه الحقيقة في الاعتبار، مع المسارعة الى اظهار المسافة بين النموذج الليبرالي الأميركي ومشروع التغيير الديموقراطي العربي، لجهة تباين الدوافع والأسباب والغايات. فما تطمح اليه الشعوب العربية، وقواها الحية، ليس أوطاناً ضعيفة ومفككة، بل مجتمعات ديموقراطية تحقق لها حريتها وكرامتها وسيادتها الوطنية، وتمنحها فرصة جدية لدفع عملية التنمية والتحرر الاجتماعي والاقتصادي. وهذا المطمح حاجة داخلية حيوية لمواجهة مشكلات مجتمعاتنا وأزماتها المزمنة. فقضية التحرر والديموقراطية قضية محورية في حياة المجتمعات. ولا تشوب هذه الحقيقة شائبة حين تقف خلف هذا الهدف النبيل غايات خاصة، أو يستخدم ستاراً لتحقيق مصالح أنانية ضيقة. والعدو الحقيقي لأوطاننا هو صناعة القمع والصواية والإقصاء، لا قيم الحرية ومبادئ الديموقراطية. والانفتاح على هذه المبادئ هو انفتاح على مشترك انساني عام، يناهض صور الإكراه والاذعان كلها: قوى التسلط الامبريالي، وأنظمة القمع والاستبداد على حد سواء. ومن يدين النضال من أجل الحرية، ويدعو الى تأجيل الاستحقاق الديموقراطي، تحت عنوان أولوية النضال ضد السياسة الأميركية، وإفشال "نيات" بوش و"مخططاته"، يتقصد دفع المجتمع نحو هاوية القهر والتخلف. وهناك من لا يزال يعتقد ان التعبئة الوطنية ضد الاخطار المحدقة تتطلب إطاحة الحريات والديموقراطية وحقوق الانسان، وأن تجميد الوضع القائم، وحجز الداخل في القمقم الأمني يمكن أن يصنع نصراً، ويدحر الأهداف الأميركية ومخططاتها. فأين تقود طريق المصالحة مع واقع الفساد والاستبداد؟ هل نقوى في مواجهة السياسة الأميركية؟ وإذا أنشأنا أنظمة ديموقراطية عادلة، تضمن حرية الإنسان وحقوقه، وحكم المؤسسات والقانون، فأي فرصة تبقى للأجنبي ليتدخل في شؤوننا؟ هل تستقيم هذه المواجهة طالما يقهر الإنسان وتدمر روح المبادرة لديه؟ إن الديموقراطية إطار قادر على بعث دينامية اجتماعية تشجع الناس على الدفاع عن الوطن من دون ان تكون هذه المهمة مفروضة عليهم بالقوة أو بالاذعان، وللتعويض عن توازن قوى يميل لمصلحة اعدائنا. فليس من وسيلة للرد على هذا التحدي إلا بالارتقاء بعملنا، وتغيير المناخات السياسية والقانونية والأطر النفسية التي رعاها الخوف والاضطهاد. ونحن أحوج الناس للتسلح بقيم الديموقراطية من أجل المصالحة مع أنفسنا، وترميم علاقاتنا، وتغيير أوضاعنا التي تنتقل من سيئ الى أسوأ، وكسب الحلفاء والأصدقاء في العالم. ولا شك في أن بعض أسباب تعثر الديموقراطية في مجتمعاتنا يعود، بعيداً من لغة المصالح، الى شيوع تعارض مستحكم بين مبدأ الحرية وبين الفكرة الوطنية. وبات الأمر يحتاج الى تحرير الفكر الديموقراطي من الاختلاطات التي تمنعه من التقدم. وربما تعود المشكلة، أساساً، الى غياب الحريات التعددية والسياسية، والى مناخ الوصاية والاستبداد الذي ساد أمداً طويلاً، ودفع بالتجارب كافة الى طريق مسدودة. * كاتب سوري.