حين عُرض، قبل خمس سنوات، فيلم "الحياة جميلة"، للايطالي روبرتو بنيني، عبّر بعض النقّاد، السينمائيين والسياسيين على السواء، عن امتعاضهم. فالفيلم، في رأيهم، يحوّل المحرقة الى مزاح ولعب. ذاك أن إدراجها في العادي، وتعريضها للكوميديا، ينتهكان الفرادة التي تُنسب الى المأساة تلك. لم يقبل أولئك النقّاد فكرة أن البكاء يمكن أن يسير يداً بيد مع المزاح واللعب، علماً بأن البكاء نفسه حين يغدو مقدساً وفريداً، يمسي طقسياً قريباً، بالتالي، الى كيتشية تبتذل العواطف وترخّصها. بيد أن ما قفز النقّاد فوقه أبعد من ذلك وأعمق. فالمحرقة ربما كانت أقرب المآسي الانسانية الى اكتساب صفة الفرادة، إن كانت مثل هذه الصفة قابلة للاكتساب. فهي، فضلاً عن عدد الضحايا الكبير، ارتبطت بقرار، ايديولوجي المصدر، باستئصال جنس بكامله. وهي تمّت في ذروة الحداثة واستخدام أدواتها وتقنياتها. لكنْ في مقابل صناعيتها هذه، سكنها نكوص الى وثنية بدائية تعهّدتها النازية. وهي إنما تعدّت بلداً بعينه الى جملة بلدان يقيم فيها يهود، كما طالت مدنيين لا جنوداً في ساحة حرب، وهم كانوا مدنيين مواطنين وليسوا "أغراباً" يبرر المصابون بالهوس العسكري والقومي قتلهم. وأخيراً، عززت لاعاديةُ النازية، من جهة، والحساسيةُ الاعتذارية للديموقراطية الأوروبية، من جهة أخرى، لاعاديةَ التجربة السوداء المذكورة والتعامل معها. رغم هذا، ليست المحرقة فريدة بالمعنى الإطلاقي والنفعي في آن على ما تريد لها اسرائيل. فما بين مشاركة الغجر والمثليين الجنسيين في المحرقة، ونشأة "المجالس اليهودية" المتعاونة Judenrat، وتساوي الضحايا الأفراد في العالم، كل الضحايا الأفراد، في كونهم ضحايا، بمعزل عن التفاوت بين مآسيهم، تخسر الفرادة اليهودية بعض إطلاقيتها، فيما الاطلاقية من شروط الفرادة. وبعض ما يودي بفرادتها، تالياً، خضوعها، مثلها مثل كل شيء آخر، للتصنيع البشري المحكوم بأغراض جزئية، إيديولوجية كانت أم نفعية. وكل من قرأ "المليون السابع: الإسرائيليون والمحرقة" لتوم سيغيف يذكر، ولا شك، قصة موردخاي شنهابي كيفية صارخة على التوظيف الذاتي. فهذا الناشط الكيبوتزي، والمشارك المتحمس في عديد المؤتمرات الصهيونية، اقترح في أيلول 1942 إقامة متحف للمحرقة باسم "ياد فاشيم" النصب التذكاري والتذكّر. لكنْ في أيلول 1942، وكما هو معروف، كان معظم ضحايا المحرقة لا يزالون أحياء. فحين كان المشروع الإبادي في بدايته كان ثمة صهاينة يريدون التعامل مع الموضوع كأنه اكتمل وانقضى! والراهن أن النسبيات الحزبية تحكمت الى أبعد الحدود، ودائماً، بما افتُرض أنه جامع إطلاقي. فبن غوريون، "العملي"، لم يكن يعبأ بيهود أوروبا لادراكه باستحالة إنقاذهم، فيما احترف مناحيم بيغن وسائر الجابوتنسكيين استخدام المأساة في الحرب السياسية بينهم وبين "العمل". ولأن زعيم "حيروت" كان، بحسب وصف لأفيشاي مرغليت، "المُمسرح الكبير للمحرقة في السياسات الاسرائيلية"، فإنه لم يكفّ عن تكرار تلك الرواية الملحمية والرؤيوية من أنه رأى، بعينيه، النازيين يقتلون أهله وهم على ضفاف نهر احمرّت مياهه بدماء خمسمئة يهودي بولندي ضمّتهم بلدته. ولئن كذّبته أخته نفسها، كما كذّبه وصوله إلى فلسطين قبل استفحال المحرقة في أوروبا، فهذا لم يمنعه من المضي في تأسيس إطلاقية قابلة دوماً للطعن التجريبي. وكان، في هذا، بالغ البراعة في إرساء المحرقة بوصفها ديانة زمنية لجميع الاسرائيليين، بمن فيهم الشرقيون الذين لم تربطهم بها صلة مباشرة. ولم يتردد بيغن، مُراسلاً الرئيس الأميركي رونالد ريغان في 1982، في القول إن محاصرته مقر ياسر عرفات في بيروت أشعرته كما لو أنه أرسل قواته للقضاء على هتلر في برلين! ما استدعى يومذاك رداً من الروائي عاموس أوز: "لقد مات هتلر، يا عزيزي رئيس الحكومة". وقصارى القول إن الحدود والنسبيات التي تحفّ بالفرادة، وصولاً إلى سهولة افتضاح أكثرها ابتذالاً وتسحيراً على طريقة بيغن، إنما تؤدي الى نسفها كلياً في آخر المطاف. غير أن الأمر يتعدى هذا كله الى استحالة الفرادة من حيث المبدأ، لا سيما في زمننا هذا. فهي، بادىء بدء، فكرة مدارها أوروبا والغرب الأبيض، إذ المآسي الأفريقية، مثلاً، لم تُرشّح أصلاً لهذا التصنيف، بغض النظر عن مدى انطباقه، أو عدم انطباقه، عليها. والفريد كيما يكون فعلاً فريداً، ينبغي تعريضه للقياس على الآخرين جميعاً، وبالتالي اكتشاف فرادته تبعاً لهؤلاء الآخرين كلهم. ثم أن الفرادة أريستوقراطية المصدر تمتّ بصلة قربى الى عصر البطولة والى الدم والنبالة والأصالة، لا بل تردّ إلى الفريد الأعلى الذي هو الله نفسه. ف"الفريد" الأريستوقراطي هو المقابل ل"المختلف" الديموقراطي والبورجوازي. وقد سبق لوالتر بنجامين أن علّمنا، قبل عقود، كيف أن زمن الشيوع الديموقراطي والفردية والإعلام، فضلاً عن التقدم التقني وتبلور الجماهير بصفتها هذه، ينهي كل أصالة وكل هالة سبق ان تباهت بهما حقب سابقة. وهذا لا يلغي، على نطاق فردي، اعتبار شخص كأينشتاين فريداً، أو تشجيع اكتشاف المواهب في المدارس والمهن ورعايتها. لكن الاعتبار المذكور شيء وتأسيس العالم والنظر اليه على فكرة الفرادة شيء آخر. فإلى أنواع التوظيف الرديء تستحكم، في هذه الحالة، معادلة هي، في حدها الأدنى، غير عادلة، وفي حدها الأقصى، عنصرية. ولما كان الموضوع الذي نتعامل معه يتناول جماعات وشعوباً وثقافات أكثر مما يطال الأشخاص، باتت احتمالات كهذه شديدة الخصوبة والقابلية للتكرار والإضرار الموسّع. وهذا، بالضبط، ما نلفاه اليوم في النظرتين المتضاربتين الى العالم من زاوية الفرادة: فرادة مكافحة الإرهاب، التي تهبّ علينا وعلى العالم كله، من الولايات المتحدة الأميركية، وفرادة مقاومة إسرائيل والغرب، التي تهبّ على العالم من منطقتنا. والحال أن السياسة، بمعناها الديموقراطي والحديث بما فيه من تلبية لمطالب مُحقّة، لا تقوم لها قائمة من دون محاصرة هاتين الفرادتين المزعومتين وكل فرادة أخرى اللتين تتشاركان في عدد من السمات والملامح. ففي الحالتين المذكورتين، كما في الحالة الاسرائيلية حيال المحرقة، يُراد للفرادة ان تكون قاطرةً للحصول على امتيازاتٍ، أو للاعفاء من التزامات وواجبات ومن تقيّد بضوابط يتقيّد بها العاديون من غير فرادة. ونعلم جميعاً كيف استُخدمت وتُستخدم المأساة اليهودية لتبرير قيام الجيش الاسرائيلي بأكثر الأعمال وحشيةً "كي لا تتكرر المحرقة". لكن الوصف هذا يصح أيضاً في العلاقة العربية ب"الشهادة" الناجمة عن "المقاومة"، وفي العلاقة الأميركية الراهنة ب"الحرب على الارهاب". ذاك أن كلاً من هاتين الأيقونتين مدفوعة الى مصاف المقدّس الذي لا يدانيه النقد، وهو ما يترتّب في تسلسل منطقي آلي على الفريد الذي يلتبس بالالهي والملحمي، بقدر ما يناظر الشيطان بوصفه الفريد المضاد. ففي حالة المقاومة، يضحي عمل في شناعة زرع عبوة في سوق أو باص مدرسي أو مقهى، مبرَّراً لمجرد أن واضعيه مقاومون. وقد سبق ل"المجاهدين" الجزائريين ممن خاضوا حرب الاستقلال، أن حظوا بنفوذ وامتيازات مالية ضخمة، كما استُبعدت كل مساءلة لأعمال التقصير التي يُبدونها في مواقع مسؤوليتهم، لمجرد أنهم "قاوموا" و"قدموا شهداء". لا بل تأسست في الجزائر شرعية سياسية ومجتمعية كاملة على المقاومة و"المليون شهيد" استحال، بالاستعانة بها، كل نقد للانتهاكات والاخفاقات الكبرى الصادرة عن النظام المنبثق من تلك الشرعية. وبالمعنى نفسه يصير ارتكابٌ في حجم معسكر غوانتانامو الذي يضم 660 أسيراً لا يُعرف عنهم شيء ولا يندرجون في أي تصنيف قانوني، ولا تسري عليهم اتفاقات جنيف، عملاً مبرراً كونه ينتمي الى مكافحة الارهاب. كذلك يجد تبريرَه الجاهز "القانون الوطني" الذي يشرّع التجاوز على الحقوق والقوانين والأعراف المتفق عليها، لأنه إنما يتم لمصلحة قضية مصيرية واستثنائية لا يجوز إخضاعها للاجراء العادي. أما المجالات العادية، كالبيئة والاقتصاد والتعليم والمقاضاة، فيصبح للفريد الحق في أن يتصرف حيالها كيفما يشاء من دون أن يُساءَل في سلوكه، إذ هل يُساءل الفريد في العادي والتافه؟ وأهل الفرادة يجمعهم أيضاً أنهم يضفون الاستثنائية على خصمهم كيما ينتزعوا استثنائيتهم منها. فلأن الخصم الشرير نسيج وحده، ومشروعه ذو خطورة لا مثيل لها، بات خصمه الجيد نسيج وحده أيضاً، بما يكرّس وضعه فوق النقد والاعتراض والتحفظ. ف11 أيلول سبتمبر، وهي بكل المقاييس مأساة من طراز هيولي ضاعفه اقترانها بالفتوى البنلادنية، تُقدّم بوصفها الحدث غير المسبوق في التاريخ. لكن ما فعله بن لادن، على طابعه المروّع، ليس الأول في نوعه أو حجمه. فما بين 1890 و1901، قتل الفوضويون الأوروبيون امبراطورة النمسا ورئيس الجمهورية الفرنسية وملك إيطاليا ورئيس حكومة إسبانيا، ثم توّجوا نشاطهم باغتيال الرئيس الأميركي ماكِنزي. وكما لاحظ الصحافي الأميركي وليم فاف، قبل أيام، فإن أولئك الارهابيين إن لم ينجحوا في القضاء مرة واحدة على ثلاثة آلاف شخص، فهذا لأن فتك الأسلحة آنذاك لم يكن على درجة فتكها اليوم، كما ان ناطحات السحاب لم تكن قد نشأت. الا ان الفوضويين، فضلاً عن اغتيالهم السياسيين الكبار المذكورين، هاجموا المقاهي والمكتبات العامة والبورصات وقتلوا أعداداً لا يُستهان بها قبل أن يطويهم حدث عنفي أكبر منهم بكثير، وليس لهم أي دور فيه، هو الحرب العالمية الأولى. في المقابل، ف"الغزوة" التي "يقاومها العرب والمسلمون" ليست، بحال، فريدة. فالغرب الصناعي والرأسمالي اندفع الى سائر بقاع الأرض مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد وقعت في قبضته مناطق لا هي بالعربية ولا بالمسلمة، كالفيليبين وبلدان أفريقيا الغربية والجنوبية وأميركا الوسطى. كذلك فاسرائيل استعمار استيطاني مثل ذاك الذي توجه الى أستراليا ونيوزيلندا وأفريقيا الجنوبية، بل مثل البيض الذين توجهوا الى ما بات الولايات المتحدة الأميركية حيث عانى هنودها الحمر، أو سكانها الأصليون، أسوأ بما لا يُقاس مما عاناه العرب على يد استعماراتهم. وما المبالغات التنظيرية لهذا الحدث منع "المنطقة" من التقدم، أو من الوحدة غير أشكال مزوّقة في طلب الفرادة عينها، لا سيما وأن الدرجة التي كانت متحققة من التقدم والتقارب عربياً، لم تنتكس كما فعلت في مناخ تلك المقاومات. الى هذا، فالشر المستطير الذي هو الارهاب الاسلامي، او الاستعمار الغربي-الصهيوني، ليس حكراً على الطرف الذي يُفترض أنه فريد في الشر، بل قد يضلع فيه الطرف الذي يُفترض أنه فريد في الخير. فهناك سبب وجيه لاتهام الولايات المتحدة بممارسة "الارهاب من فوق" والارهاب بدأ مع الحكم الروبسبييري إرهاب أنظمة "من فوق" قبل أن يصير "إرهاباً من تحت". وحتى لو رُدّت الحجج المتعلقة ب"إرهابية" السلوك الأميركي في غواتيمالا وإيران والهند الصينية وتشيلي وغيرها، يبقى حاسماً دور واشنطن في دعم "الكونتراس" النيكاراغويين و"المجاهدين الأفغان" الذين انبثق الارهاب البنلادني من فضائهم ومختبرهم، ناهيك عن مناخ الحرية الذي تمتع به طويلاً، وعلى أعلى المستويات، "الجيش الجمهوري الإيرلندي" في أميركا مموّلاً، بالاستفادة منه، عمله الارهابي. وغني عن القول في ما خص البراءة الاسرائيلية المزعومة من كل إرهاب، أن الارهاب عثر في الدولة العبرية على رئيسي حكومة لاحقين هما بيغن واسحق شامير. وهناك، في المقابل، سبب وجيه لاتهام عرب ومسلمين بممارسة أشكال بدائية من الاستعمار والعنصرية، مثل التي مورست عليهم، يصح هذا في العراق حيال الأكراد، وفي السودان حيال الجنوبيين، وطبعاً في موريتانيا حيال السود غير العرب. والنقيض لتحديات غير فريدة كهذه ليس فريداً بالتالي. فقبل الولايات المتحدة، تصدّت دول أخرى كثيرة للارهاب. يكفي ان نتذكر تاريخ الصراع بين اسبانيا وارهابيي الباسك، وبريطانيا وارهابيي ايرلندا الشمالية، والمانيا وارهابيي مجموعة بادر ماينهوف، وايطاليا والارهابين اليساري واليميني المتطرفين. وبدورها، فالمقاومة العربية-المسلمة للغرب واسرائيل لا تملك من الفرادة أكثر مما تملكه المقاومة الأميركية للارهاب ولا تملك، حتماً، أية أسبقية على مثيلاتها. فالمقاومة لا بد ان تنشأ بمجرد أن ينشأ استعمار، على ما كان لينين وتروتسكي يساجلان، بطريقتهما، وفي وقت مبكر، ضد روزا لوكسمبورغ. وكما ان اميركا ليست جوهراً موحداً ضد جوهر الارهاب، وغير موحد ابداً حول طرق مقاومته، على ما يدل المتظاهرون والاستقصاءات وآلاف المقالات وعشرات الكتب المعترضة، فالعرب والمسلمون ليسوا موحدين ضد الاستعمار والصهيونية بالمعنى الذي تفترضه معادلة الشيطان الرجيم في مقابل الاله الرحيم. ولو أتيح للأصوات أن تنطق، في الدوائر الاقتصادية والثقافية وبين المهاجرين المقترعين بأقدامهم، ناهيك عن الأقليات المحمولة على القبول بالنظرة الغالبة، لعبّرت قطاعات عريضة عن رفضها وجهةَ النظر الأحادية والضيقة الأفق هذه. ثم أن المقاومة والارهاب يتكتمان تماماً على تاريخهما ونشأتهما. ذاك أن إخضاع الفريد للتاريخ وأسبابه يحيله عادياً. وما من مؤمن، بعد كل حساب، يسأل في نشأة الله، أو يتمعّن في أصول الخَلق. لهذا يكره الرسمي الأميركي، أو الناطق بوعيه، كل تذكير بمسؤولية ما للسياسات الأميركية، وينفران من كل محاولة لتحويل الارهاب حالةً قابلة للدرس والاستخلاص. وحتى حين تُردّ الآفة هذه الى "نقص الديموقراطية في المجتمعات الارهابية"، لا تلبث هذه الديموقراطية الناقصة أن تتحول أقنوماً يقطع الطريق على تأويل معقّد يضوي فيه تعدد العناصر التي قد تنفع في استيعاب الظاهرة. فإذا صح أن النقص الديموقراطي يمكن أن يكون أحد الأسباب، وهو صحيح، بقي أن رفع العامل المذكور الى جوهر، ثم تفسير الجوهر بجوهر، لا يقولان لنا كيف تعرّضت مجتمعات أوروبا الديموقراطية للارهاب، وكيف تظهر، بين فينة وأخرى، خلايا إرهابية أصولية في الولايات المتحدة الديموقراطية؟ وبمعنى مشابه، لا نستطيع، تبعاً لرواية المقاومة/المقاومات عن نفسها، أن نعثر على تفسير، أو ذكر، للتصفيات المتبادلة بين الثوار الجزائريين، ولماضي "حماس" المتعاون مع اسرائيل، ولموقع "حزب الله" في المنافسة الشيعية/اللبنانية-السنية/الفلسطينية، وللعداء الأصلي في مشروع "فتح" للمشروع القومي العربي، لا سيما الناصري. وبالطبع فصدّ "الغزوة"، الغربية أو الصهيونية، لا يطلعنا على المصالح المالية ل"طبقة" كبار المقاولين في المقاومات، ولا على الانتهاكات التي تعرّضت لها النساء والطلاب والمثقفون واليساريون في كل واحد من البلدان التي شهدت صعود حركات أصولية، ولا على خطف الأجانب هنا أو هناك. حتى الحروب الأهلية التي أثارها هذا الصدّ ل"الغزوة" وجاءت هائلة الكلفة والدلالة على المصاعب البنيوية في مهمة الصد نفسها، يلفّها التجهيل والتجاهل. ومثل التكتّم على البدايات، يسود تكتّم على النهايات لأن المواجهات الألفانية ضد الشر لا تفضي الى ما هو أقل من خلاص مؤزّر، خلاصٍ لا يجوز التساؤل عن أعبائه وأكلافه وكل ما هو "وضيع" آخر قد يتصل به. فاستغلال بوش الحرب على الارهاب لأغراض داخلية وخارجية، أمنية وسياسية واقتصادية، وكذلك التساؤل عن نتيجة الحرب، وما بعدها، وانعكاسها على الاجتماع والاقتصاد والعولمة، يبقيان مثل التساؤل عما قد تؤول اليه العمليات الانتحارية، ومدى جدواها. وفي الطرفين، يبدو الذين يتساءلون جبناء ومشبوهين وقليلي الوطنية أو منقوصيها. وكان آية الله الخميني الذي شيطن الأعداء، وبوّبهم شياطين كباراً وصغاراً، صاحب إسهام أساسي في تطور هذه المعتقدات في منطقتنا التي كان وعيها الحديث قد قطع شوطاً. الا أن الشيطنة، بوصفها الفرادة المضادة، هي في أصلها وأساسها خرافة. فالارهاب سيء وخطير من غير شك. لكن الارهابيين هم من تم ويتم التفاوض معهم في عديد الحالات وآخرها إيرلندا. ثم ان الارهاب حين بدا متساوقاً مع الحركات الاستقلالية للخمسينات والستينات، كان مرشحاً لتقبّل المزاج العالمي والفوز بغفرانه. وهذا ما انقلب بعد حصول الاستقلالات وانحصار المطالب الاستقلالية في عدد قليل من الشعوب السيئة الحظ، التي في عدادها الشعب الفلسطيني. وما يعنيه هذا أن "الشيطان" الارهابي قابل للنسبية وفعل الزمن وتحولاته، الشيء الذي ينطبق على الاستعمار وسائر "الشياطين". فالاستعمار ذو وجه ايجابي مؤكد الى جانب وجهه السلبي المؤكد. فهناك بناء المدارس والادارات وانشاء سكك الحديد واقامة المؤسسات وتخريج الكوادر وكسر العزلة عن العالم وتأسيس النقابات والصحف والأحزاب الحديثة في المستعمرات. ولهذا وجدنا شعوباً صغرى، كأهل جزر القُمر أو سورينام، أقل اعتداداً بالنفس الجمعية من تلك الكبرى، تطالب الاستعمار بالبقاء أو العودة. وقصارى القول إن مقاومة الارهاب والاستعمار واجب مبدئي الا أنه ليس ديناً. وإنما بالمعنى هذا، يغدو الارهاب والاستعمار قابلين لعلاجات تاريخية، زمنية ونسبية، تضع الفرادات والاطلاقيات ذات المصدر الديني جانباً. فالحروب التي هي السياسة بوسائل أخرى، حروب دول وقوانين وزمن، أي أنها تبدأ بيوم معين وتنتهي بيوم معين، محققةً في هذه الغضون أغراضاً محددة لأحد طرفيها، وحائلة دون تحقيق الطرف الآخر أغراضه. بيد أن حروب الفرادة ليست كذلك لأن فيها شيئاً من خلود الفرادة نفسها. فالحرب على الارهاب، الذي لا بلد له، ذات طبيعة لزجة، مائعة، وقابلة للتمييع على أيدي خائضيها ومستخدميها. ومن هنا كانت نظرية "المحافظين الجدد" القائلة إن الانتكاسات في الحروب الأميركية لا تحصل الا بنتيجة الفتور في توسيع الحرب وتعميقها. أما المقاومات فإذا انتهت، كما هي الحال في الجزائر، تناسلت في مقاومات أخرى، كالتي شهدناها بعد 1990 بحسب الكوميدي الجزائري فلاّغ: رحنا ننتظر منذ الاستقلال أن يغزونا أحد. فلما لم يأت أحد بدأنا نقاتل أنفسنا، أو في شرعية سياسية ومؤسسية تستعيد المقاومة بوصفها مستقبلاً لا ماضياً فحسب. وأما الرغبة المقاومة فأن لا ينتهي الصراع واجدةً في مزارع شبعا، كما تدل الحالة اللبنانية، ذريعتها لتخمير المأساة وتعتيقها. وبحسب المثال الأعلى للفرادة، بالمعنى الفيبري للكلمة، من الجائز دائماً رسم أي وجه فلسطيني على ملامح هتلر، والمضي في مطاردة الفوهرر الألماني إلى آخر الزمن، على ما زعم بيغن أنه يفعل.