وافق البرلمان الفرنسي بالاجماع على اعتبار ما حصل لأرمن تركيا، مطلع القرن، "ابادة". واختتم بذلك سجالاً حاداً في الوسط السياسي ليفتتح نقاشاً "ثقافياً" ليس مقدراً له ان ينتهي بسهولة. وسبّب الموقف الفرنسي امتعاضاً تركياً ورد فعل غاضباً أديا الى ازمة ديبلوماسية. ان ما تخشاه انقرة، في الواقع، هو موقف اميركي شبيه بالذي اتخذته فرنسا. غير ان جماعات الضغط في اميركا نجحت في سحب مشروع بهذا الاتجاه من لجان الكونغرس. ويعود النجاح التركي الى الدعم الذي قدمه "اللوبي اليهودي" الذي مارس ضغطاً كبيراً من اجل سحب الفكرة من التداول. ويستند هذا "الانجاز" الى العوامل الآتية: اولاً- التحالف الاميركي - التركي الذي يدفع واشنطن الى مراعاة حساسية انقرة العضو في حلف شمال الاطلسي. والمعروف ان الولاياتالمتحدة تسعى لدى اوروبا من اجل ضم تركيا الى الاتحاد. ولقد تجاوب الاوروبيون مع هذا الطلب جزئياً، وهو الامر الذي لم يرضِ تركيا فمارست حق النقض على استخدام القوة الاوروبية المزمع إنشاؤها للبنية التحتية للحلف. ثانياً- التحالف التركي - الاسرائيلي الذي يجعل تل ابيب تعتبر انها وجدت "صديقاً" اقليمياً مهماً قادراً على ممارسة الضغط على "المثلث المعادي" الايراني - العراقي - السوري. ويتجسد هذا التحالف بتعاون عسكري واقتصادي وسياسي يحاول ان يضم اطرافاً عربية اليه. وليس غريباً، والحال هذه، ان تتدخل اسرائيل لدى جماعات الضغط الموالية لها في اميركا من اجل تقديم خدمة الى تركيا. ثالثاً- الحرص اليهودي الواضح على الدفاع عن "فرادة" المحرقة التي قام بها النازيون ضد اليهود. ويجسد المؤرخ برنارد لويس هذا الحرص الذي ادى به الى تسخير خبراته كمؤرخ من اجل دحض واقعة تعرض الأرمن الى "ابادة". ولقد استنتج الكاتب الاميركي نورمان فنكلشتاين في كتابه "صناعة المحرقة" ان لويس هو المؤرخ التحريفي الوحيد الذي ينكر حوادث ويقلل من اهميتها. ولقد وجدت اطروحات لويس صدى في فرنسا لدى مثقفين يهود معروفين بشدة دفاعهم عن اسرائيل. ودخل هؤلاء في سجالات حادة مع مؤرخين ومثقفين آخرين يرفضون "فرادة المحرقة اليهودية"، وإن كانوا لا يقللون من هول الجريمة النازية. ان التشكيك بفرادة المحرقة، بقرار برلماني، يصب في جدل عاشه الغرب في النصف الثاني من القرن العشرين وعرف سياقين مختلفين، اميركي وأوروبي، انتهيا في مصب واحد. ففي الولاياتالمتحدة، البعيدة جغرافياً من مسرح الجريمة، لم يكن موضوع المحرقة ضد اليهود حاضراً في كتابات المؤرخين ولا حتى في كتابات المثقفين اليهود ذوي الميل الصهيوني الواضح. واستمر الامر على هذا المنوال حتى 1967 حين شهد انعطافاً كاملاً مهّد، تدريجاً، لبناء واحدة من اهم الاساطير الايديولوجية. اما في اوروبا فلقد مرت هذه القضية بطورين. ففي المرحلة الاولى الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى 1967 كانت الكتابات عن الموضوع تركز، في شكل اساس، على انكار اي فرادة. لا بل وصل الامر بالبعض الى اعتبار ان الاشارة الحادة الى الخصوصية اليهودية يمكن له ان يشجع انبعاث اللاسامية لأنه في امتداد التحديد النازي لليهود بوصفهم "جماعة على حدة". كان تصوير ما جرى لليهود في معسكرات الاعتقال يؤكد التماثل مع ما جرى للمعتقلين الآخرين من مقاومين وبولنديين وغجر. ولكن في 1967 وما بعدها تطورت الفكرة القائلة إن اليهود لم يكونوا ضحية مثل غيرهم بل "أفضل" من غيرهم، وبالضبط لأنهم استُهدفوا بصفتهم هذه ولم يكونوا مقاومين. وفي الحالين الاميركية والاوروبية تحولت "الفرادة" الى رصيد اخلاقي يجعل الضحية السابقة في مرتبة تكاد تكون اعلى من تلك التي تحتلها اي فئة اجتماعية اخرى. ولكن ما الذي حصل في 1967 حتى يتم "الانقلاب"؟ حصلت امور كثيرة. اولاً- انتصرت اسرائيل في عدوانها على العرب وفي شكل بات يسمح باطلاق الألسن لتأسيس اسطورة جديدة. والهدف غير المباشر لهذه الاسطورة موازنة واقع الاحتلال الجديد برصيد اخلاقي ومعنوي يحول دون محاكمة جدية له. ثانياً- ترسخ التحالف الاميركي - الاسرائيلي وتحولت الدولة العبرية الى مرتكز استراتيجي اميركي. ويسمح ذلك للوبي اليهودي في الولاياتالمتحدة بدمج مصلحته "الاثنية" بالمصلحة الوطنية العامة. ثالثاً- تدخّل صف من المثقفين اليهود لتقديم قراءة شبه صوفية للمحرقة. واذا كان ايلي فيزل، الاميركي الهوية والفرنسي اللسان، هو رأس حربة هذا الفريق فإنه مسؤول، اكثر من غيره، عن تحويل آلام اليهود الى عاصم لهم عن النظر الى المآسي الانسانية الاخرى بمقدار من الموضوعية. ولعل الوجه الاكثر تعاسة لهذه العملية كلها هو الاضطرار الى تبهيت اوجاع الآخرين، بمن فيهم، لا بل على رأسهم، الفلسطينيون والعرب، من اجل الدفاع عن فرادة موهومة. ... ان الاعتراف الفرنسي بإبادة الأرمن هو اختراق لهذه الفرادة يفترض ان تليه اختراقات.