رسالة لم تنشر الى محمد شكري اقترب موعدنا الصيفي يا صديقي البربري الجميل، وكعادتي في مثل هذا الوقت من كل عام، أشعر ان جسدي هنا في بافاريا، أما روحي وخيالي وقلبي فهناك... بين طنجة وأصيلة! بعد أيام ثلاثة سأكون عندك. لن أحتاج الى أن أهتف اليك لكي أعرف اين تكون. ذلك ان عاداتك اليومية غدت معروفة ومألوفة لدي. فأنت بعد أن تستيقظ في الساعة السابعة صباحاً، تمكث في شقتك المتواضعة في الطابق الخامس حتى الساعة العاشرة، ممضياً جلّ الوقت في القراءة والاستماع الى الموسيقى وسقي زهور الشرفة ونباتاتها... وبعد أن تشبع نهمك المعرفي والموسيقيّ تتوجه الى البريد ثم تصعد جادة "باستور" أو "البولفار" كما يسميه أهل طنجة باتجاه مقهى "النيجريسكو". تظل هناك حتى الساعة الثانية، ثم تعود الى شقتك لتتناول طعام الغداء الذي تعدّه خادمتك الأمينة فتحية. بعدها تغفو قليلاً على أنغام الموسيقى ولا تغادر الشقة إلا عند هبوط الليل. غير انك لا تطيل السهر. فمنذ أن هاجمك فتيان أشرار وأنت عائد الى شقتك في ساعة متأخرة، وافتكّوا منك ساعتك اليدوية وأنت تلزم نفسك بعدم تجاوز الساعة العاشرة. وهكذا وبهذا النظام اليومي الصارم، طويت نهائياً صفحة ماضيك المملوء بالصخب والعربدة حيث كنت تسهر حتى مطلع الفجر. وكم من مرة أضعت مفتاح شقتك فاضطررت للنوم في المدارج! لن أسألك لماذا عدت الى مقهى "النيجريسكو" على رغم انك قلت لي الصيف الماضي ان مطعم "الألدورادو" سيكون مكانك المفضل مستقبلاً. أعلم بعد أن عاشرتك طويلاً وخبرتك جيداً انك لا تتحمل البقاء في مكان واحد طوال الوقت، لذا أنت تختلق دائماً وأبداً أسباباً لهجر هذا المكان أو ذاك. مرة لأن الخدمات سيئة. ومرة لأن الأسعار غالية تُرهق الجيب والقلب. ومرة لأن المرحاض معطل. ومرة لأن الضجيج فوق طاقة بني آدم... وقد تكون على حق، غير ان الباعث الحقيقي لهذا هو انك تبتغي ان تشعر بأنك تسافر لئلا تعاف تلك المدينة التي ألفتها وألفتك وعنها كتبت أجمل اعمالك... أعني طنجة. ألم تقل لي ذات يوم ان ليس هناك مدينة في العالم كله، قادرة على ان تتحملك إلاّها؟! لكن دعني أبوح لك بحدسي الآخر في ما يخصّ هجرك لمطعم "الألدورادو" وعودتك لمقهى "النيجريسكو"... الصيف الماضي، كنا جالسين على رصيف مطعم "الألدورادو" عندما رأينا شيخاً في الثمانين تقريباً، أنيقاً معتمراً قبعة بيضاء يدبّ بصعوبة معتمداً على عكازه. أحياناً كان يتوقف عن السير ليسترجع أنفاسه، ثم يواصل دبيبه السلحفاتي. عند وصوله الى الباب، استدار وحيّاك باشارة خفيفة. وفعلت أنت الشيء ذاته. وفي الحين نفسه، هبّ اليه الجرسون ليقوده الى احدى الطاولات. سألت: "من هذا الشيخ؟"، فأخذت نفساً طويلاً من سيجارتك وقد غطت وجهك كآبة سوداء وقلت: "انه كارلوس... ألا تتذكره؟!". وتذكرته بطبيعة الحال. فهو الغرسون الاسباني اللذيذ الذي خدمنا لما تعشينا في مطعم "الألدورادو" خلال لقائنا الأول أواسط الثمانينات حين أرسلتني مجلة "دي ثزايت" الألمانية لكتابة تحقيق مطوّل عنك. وقتها كان في حوالى الخامسة والستين من عمره، غير انه كان لا يزال يتمتع بصحة جيدة. وأذكر انك قلت لي بأنك تعرفت اليه أيام الشباب وانك "تصعلكت" معه بما فيه الكفاية، وانك تظن انه هو الذي سمّاك "الشحرور الأبيض". وفي الأيام التالية لاحظت ان كارلوس يأتي الى مطعم "الألدورادو" في الساعة نفسها ويغادره في الساعة نفسها أيضاً. وقد أعلمتني أنت بأن زوجته العجوز تساعده على نزول الطوابق الخمسة وصعودها وان هذا الأمر يستغرق منها يومياً نصف ساعة في الحال الأولى و45 دقيقة في الحال الثانية. ثم أضفت وقد ازدادت كآبتك قتامة: "من المؤكد انك تذكرت انت الذي تعشق جاك برال تلك الأغنية التي فيها يقول: أن نموت هذا لا يعني شيئاً... أما أن نشيخ.. آه أن نشيخ!. بعد صمت قصير، قلت بصوت خافت مفعم بالمرارة: "ما أظن ان هناك شيئاً أبلغ من هذا للتعبير عن حال كارلوس وغيره من الأصدقاء الذين تعبوا وهرموا!"... ولعلك لم تعد تحتمل يا صديقي البربري هذا المشهد الجنائزي اليومي فآثرت ترك مطعم "الألدورادو" لتعود من جديد الى مقهى "النيجريسكو" الذي يرتاده شبان وشابات ينسونك هموم الشيخوخة ومتاعبها وآلامها. لهذا السبب أيضاً أنت هجرت المدينة العتيقة التي أمضيت فيها الجزء الأكبر من حياتك، ولم تعد تتحمل الذهاب اليها. ومرة أغويتك وقدتك الى هناك. وكنا نسير في زقاق ضيّق ينحدر باتجاه الميناء لما برزت أمامنا عجوز رثة الثياب، مربدة الملامح، تتكلم وحدها، محركة يديها بإشارات غريبة تدل على حال جنون مؤكد. أدرت أنت وجهك متحاشياً النظر اليها. ولما ابتعدنا عنها بما فيه الكفاية، قلت لي: "أتدري ان تلك العجوز المجنونة التي شاهدناها قبل حين كانت قبل اربعين عاماً من أجمل النساء في طنجة... وكان الرجال يتقاتلون من أجل الفوز بقلبها... انا نفسي كنت من عشاقها ومعها أمضيت أجمل الأوقات في حياتي كلها... أما الآن... آه الآن!!". ولكن ما أظن انك قادر على فك هذا الحصار المرير الذي ضربته الشيخوخة من حولك. انها تتعقبك طوال الوقت ولا تترك لك أبداً حتى ولو لحظة واحدة لنسيانها وغضّ الطرف عن ويلاتها. ذلك بيّن في كتابك الأخير "وجوه" الذي جاء سراً حزيناً اكثر من جميع كتبك السابقة. ففي هذا الكتاب نحن أمام أناس متعبين يسيرون حثيثاً باتجاه الجنون أو باتجاه القبر. أناس ذبلت حياتهم وأضحت هشيماً. فهم هنا بأجسادهم ،غير ان ارواحهم انتقلت الى العالم الآخر. وها أنت وحيد كما لم تكن أبداً، خصوصاً بعد رحيل صديقنا محمد زفزاف... كنت أعد نفسي للنوم بعد سهرة رائعة مع أصدقاء جميلين مثلك لما رن الهاتف. رفعت السماعة، فإذا بالصديق صموئيل شمعون يبلغني من الرباط حيث كان موجوداً ان محمد زفزاف غادرنا وإلى الأبد! نمت على الشوك... ولا بد من ان اقول لك يا صديقي ان رغبتي حين جئت الى المغرب للمرة الأولى مطلع صيف 1981 كانت التعرف الى مبدعين ثلاثة بدوا لي جدّ قريبين من نفسي ومن عالمي. هؤلاء هم: محمد زفزاف وادريس الخوري وأنت. وقد تعرفت الى محمد زفزاف من خلال نص قصصي نشرته مجلة "الآداب" مطلع السبعينات في عددها الخاص بالقصة القصيرة في العالم العربي. لا أتذكر عنوان القصة غير انني اتذكر انها اعجبتني كثيراً، الشيء الذي شجعني في ما بعد على قراءة كل ما يكتب صاحبها. وكان عليّ ان اظل اتردد على المغرب أزيد من اربع سنوات لكي ألتقي محمد زفزاف شخصياً. ومنذ ذلك اللقاء الأول به، ظل يلح علي بأن أزوره في شقته المتواضعة مثل شقتك والكائنة في حي "المعاريف" الشعبي. وبصوته الهادئ الذي لا يعلو ابداً كان يقول لي: "اسمع يا صديقي التونسي... ان اجمل اللقاءات بيني وبين الأصدقاء الحقيقيين لا تكون إلا في بيتي!". في صيف 1981، كنت في الدار البيضاء، هتفت له ذات ظهيرة قائظة فقال لي: "تعال الآن وإلا فسأظل غاضباً عليك طوال حياتي!" ذهبت. وجدته جالساً في الصالون البسيط الأثاث مرتدياً جلابية مغربية بيضاء. وبلحيته الطويلة التي خطها الشيب المبكر، بدا لي شبيهاً بكاهن بوذي اعتزل الناس منذ امد طويل. بين اصابعه النحيلة، سيجارة "كازا سبورت" القوية جداً، وأمامه زجاجة، لا أكل، ولا حتى صحن زيتون، على الأريكة المقابلة له، فتاة سمراء، حزينة العينين لم تكن تتكلم إلا نادراً غير انها كانت تنفّذ اوامر محمد زفزاف بعناية فائقة. اشار إليها وقال: "هذه واحدة من أعزّ صديقاتي... لقد طلقت لأن زوجها كان يضربها كل يوم... وجاءت إلي". بعد دقائق، لاحظت ان هناك غيلماً يجول في الصالون. ابتسم زفزاف وقال لي: "من هذا الغيلم أتعلم الصبر والحكمة!". بعدها حدثني عن مشاريعه الإبداعية بكثير من التواضع. ابديت له اعجابي الشديد بمجموعاته القصصية فأبدى حرجاً جعلني اكف عن الكلام. نادرون هم المبدعون العرب الذين يمقتون الإطراء والمديح. ومحمد زفزاف كان واحداً من هؤلاء. في اليوم الثاني عدت في العاشرة صباحاً ومعي كمية هائلة من السمك والخضار والفواكه: "لمن كل هذا؟!" صاح فيَّ محمد زفزاف مدهوشاً لما طرحت امام عينيه ما كنت قد اشتريت. "لي ولك ولصديقتك السمراء" قلت له ضاحكاً. اجابني وأصابعه النحيلة تعبث بشعرات لحيته البوذية: "هي تأكل مثل عصفور وأنا ايضاً... فلمَ أتعبت نفسك؟!". وكان على حق إذ اننا اضطررنا بسبب العطل الذي اصاب الثلاجة الى التخلص من نصف ما اشتريت! في خريف 1981، بدعوة من المهرجان العالمي للشعر الذي اعده صديقنا محمد بنيس سافرت الى الدار البيضاء. هتفت لمحمد زفزاف ذات صباح فقال لي: "تعال بأقصى السرعة!". لا شيء تغير في الشقة. الأثاث نفسه. الرائحة نفسها. الغيلم يروح ويجيء وصاحبه جالس على الأريكة ذاتها، مرتدياً الجلباب نفسه وأصابعه النحيلة تعبث بشعر لحيته البوذية. اما الفتاة السمراء فلا أثر لها. مدّ لي روايته الأخيرة "افواه واسعة" التي كانت صدرت للتو وقال لي: "خذ... هذا آخر ما كتبت عن هذا المغرب الذي امتلأ باللصوص ومصاصي الدماء...". الخريف الماضي كنت في باريس لما أبلغني صديقي المغربي محمد العزديوي بأن محمد زفزاف موجود هناك لإجراء عملية. ذهبت إليه في الفندق الذي كان يسكن فيه قرب ساحة "الكونكورد". كان المرض الخبيث غيّر ملامح وجهه، وأنهك جسده غير انه كان متماسكاً، ومتفائلاً الى اقصى حدود التفاؤل. ولابنته التي كانت تنظر إليه مرتعبة كان يقول: "لا تخافي على ابيك... سيعيش سنوات طويلة اخرى!". على مدى اسبوع كامل ظللت اتردد عليه في الفندق نفسه ومعه اقضي ساعات طويلة في الدردشة والنقاش حول مسائل شتى. ومرات كثيرة روى لي طرائف عنك وعن ادريس الخوري اضحكتني كثيراً. ولما ودعته قبل عودتي الى ميونخ بيوم، كنت واثقاً من ان المرض الخبيث الذي فتك بمحمد خير الدين، وبمبدعين مغاربة آخرين لن يمهله هو ايضاً. وهذا ما كان. وأمس كنت اعيد قراءة مجموعاته القصصية، فإذا بي اعثر على تلك القصة البديعة الحاملة لعنوان: "جيمس جويس" والتي يلمّح في فقرة من فقراتها الى الموت الذي لا يرحم احداً، لا الخراف الصغيرة، ولا النعاج الكبيرة. في هذه الفقرة هو يقول: "اذا كان جيمس جويس نعجة عجوزاً ذبحت يوم 18 كانون الثاني يناير 1941 فهو لا يزال خروفاً. ولا يدري متى سيساق الخروف الى المجزرة. ولكنه يعرف ذلك المثل الرائع الذي يردده الناس من حوله. يوم عيد الأضحى، لا يمكننا ان نتكهّن بأسبقية الذبح. هل يكون ذلك للشاة الكبيرة ام للشاة الصغيرة. ذاك فيها خارج عن إرادة النعاج طبعاً". وعن إرادة البشر ايضاً. عزاؤنا واحد يا صديقي. ولكن اظن ان الغيلم هو أكثرنا حزناً ولوعة على فراق ذلك الطفل الوديع الذي اسمه محمد زفزاف، والذي كان يتعلم منه الصبر والحكمة! سلاماً! ميونيخ 30/7/2001