هناك، شمال بيروت حيث السفارة الكندية حشد من كل المحافظاتاللبنانية ينتظر بكل حماسة وقلق مقابلة القنصل لينال تأشيرة. في قاعة الانتظار نساء ورجال، عازبون ومتزوجون حمل كل واحد منهم ملفاً ورقماً يؤهله دخول مكتب القنصل. ولكي لا يمل كل عازم على الهجرة الانتظار، تعرف الى من جلس الى جانبه وحادثه عن أسباب طَرْقِ باب الهجرة واللحاق بركب المغتربين. تنوعت الأسباب والهدف واحد: هجر لبنان. البعض اخذ قراره لأسباب اقتصادية وطمعاً بإيجاد فرصة عمل لم تأت في لبنان، والبعض لظروف سياسية وأمنية، وعدد لا بأس به رغبة في الحصول على التسهيلات التي تقدمها الدول المستقبلة. ولأن الهجرة ولبنان صنوان لا يفترقان، وكأن جينة السفر زرعت في اللبنانيين جينة اسفر، تعددت طرقهم لترك الوطن الأم، فحاولوا الهجرة إما شرعياً أي عبر السفارات وإما بطريقة مخالفة عن طريق المافيات التي أودت بحياة الكثيرين الى الهلاك. ليس غريباً أن تبدو على وجه داني 23 عاماً وشقيقته زينة 19 عاماً ملامح الفرح والاطمئنان. لقد نالا لتوهما تأشيرة الى كندا بعد طول انتظار. يقول داني بكل جرأة: "سأهجر البلد ولن أعود مطلقاً لأنني عضو غير فاعل فيه، لقد نلت الإجازة في مجال الاتصالات والآن أعمل سائقاً لدى شخص ثري". ويقهقه عالياً حتى التفت اليه كل من في القاعة، واضاف: "حريتي مكبوتة والوضع السياسي لا يحتمل في لبنان". ينتمي داني الى تيار لبناني منحل، يتعرض مناصروه اثناء التظاهرات للقمع. أما زينة المؤيدة تماماً لما قاله شقيقها فستكمل دراستها في الخارج لأنها ما عادت تطيق العيش في لبنان وخصوصاً في ظل كبت الحريات، كما تقول. اما زياد فيعمل في حدادة السيارات. يحب لبنان كثيراً وسيتركه مرغماً ولكن مع الفتاة التي يحبها، والتي هاجرت منذ التسعينات. يقول زياد متأسفاً على وضعه "أصبح عمري 37 عاماً ولم أجمع أي رأسمال. كل راتبي أنفقه على ايجار المنزل والمتطلبات الأخرى". جوزفين، خطيبته، التي "ستسحبه معها" درست المعلوماتية في لبنان ولم تعمل بهذا الاختصاص في الخارج. تقول بلكنة أجنبية: "آتي الى البلد سياحة قرابة الشهرين أو ثلاثة ولكن أكثر من هذه المدة لا أتحمل البقاء". وفي المقابل، هناك من لم ينجح في الرحيل عن طريق السفارات فلجأ الى المافيات لتحصل له على تأشيرات الى القارة الاميركية. ويشرح عدد من شبان احدى القرى الجنوبية طريقة مغادرة نحو 150 شاباً الى أميركا. منهم من تنهد لسوء حظه بعدم الرحيل ومنهم من حمد الله لأنه لم يهاجر بهذه الطريقة. "أحد الأثرياء يعرفهم الى رجل يجهلون هويته وشكله يقدم لهم التأشيرة الى المكسيك مقابل 14000 دولار. وعندما يصل المهاجر الى المكسيك تهربه المافيا الأجنبية الى أميركا، إما عن طريق الصحراء أو في صناديق السيارات. وعندما يصل الشاب الى أميركا يدفع للمافيا 4000 دولار مرة اخرى. ولكن الأمور ليست دائماً بهذه السهولة، فغالباً ما يلقى القبض على المهاجر المغامر ويودع السجن ليعود الى لبنان وقد خسر ماله. أما المشكلة الكبرى كما يذكر محمد أحد شبان القرية وهو شارد الذهن، فهو ما حصل لعائلة هاجر أحد أبنائها وتوفي في الصحراء. "الحادثة مؤثرة جداً، فاجعة كبرى" تروي عمته إذ ان أمه لا تستطيع الكلام وتمضي معظم وقتها جالسة بقرب قبر ابنها تندب. وتضيف العمة: "ترك اهله على رغم ارادتهم. اراد ان يؤمن مستقبله. وصل الى المكسيك ومشى في الصحراء حيث درجة الحرارة تصل الى الخمسين، ولم يكن متعوداً على هذا الطقس وما ان وصل الى الحدود الأميركية...". وتجهش بالبكاء. يوسف الملصقة صوره على جدران المنزل توفي وهر بعد في الواحدة والعشرين من العمر. اراد ان يعمل في الخارج لأنه افتقد فرص العمل في لبنان. ويوضح رئيس الديوان في وزارة المغتربين سليمان كنعان الأمر فيقول: "يأتي الكثير من الأهالي الى الوزارة مطالبين بأولادهم ويقولون انهم لا يعلمون عنهم شيئاً وذلك بسبب هجرهم البلد بطريقة مخالفة، وهنا تقوم السلطات اللبنانية بالاتصال بوزارة الخارجية في البلد المهاجر اليه لمتابعة الموضوع ولكن في غالبية الأحيان يكون المهاجر اما ميتاً أو ضائعاً...". ويروي علي ما حصل معه منذ سنتين حينما أراد الرحيل ولكن عبر مكتب سفريات. "طلب مدير المكتب 1200 دولار ثمن الفيزا الى أميركا، وافقت على كل طلباته ودفعت مقدماً 1000 دولار لكي ينظم ملف الأوراق وقال لي انتظر اسبوعين، الا ان المدة طالت أكثر من ذلك بكثير حتى ناهزت السنة، مللت الوضع وطلبت منه ان يوقف المعاملة ولكنني خسرت مالي". علي 25 عاماً يعمل في النجارة 12 ساعة يومياً مقابل أجر زهيد، أراد ان يستدين ثمن الفيزا من أحد أقاربه معتبراً ان ما سيجنيه من مال في أميركا يبلغ أضعاف ما يحصل عليه في لبنان. ولا مبالغة في القول ان غالبية اللبنانيين من جميع الطوائف والمستويات العلمية تفضل الرحيل على البقاء. حتى ان البعض توجه الى الدراسة في جامعات اجنبية على حسابه الخاص طمعاً في إيجاد فرصة عمل لاحقاً. وفي هذا الاطار تقول والدة أشرف الذي يدرس الطب في أميركا ويبلغ 22 عاماً "ندفع للجامعة نحو 15000 دولار سنوياً وفضلت العائلة أن يدرس في أميركا كونه سيجد عملاً فوراً بعد تخرجه". أما هادي 29 عاماً فدرس في لبنان اختصاص الالكترونيك ويعمل في هذا المجال إلا ان راتبه لا يكفي لسد حاجاته ولهذا أراد السفر رغماً عن ارادة أهله الذين لم يتقبلوا الفكرة، يقول بكل حذر: "كندا ليست الجنة وانما أنا ذاهب لكي أعمل وسأعود عندما أجمع مبلغاً من المال أستطيع الاستمرار به في لبنان". هل يخلو لبنان من دون اللبنانيين؟ يعتقد البعض ان عدد اللبنانيين في الخارج أكثر منه في الداخل، الا ان رئيس دائرة المغتربين جهاد العقل يعتبر ان في الامر مبالغة، ويقول: "معرفة عدد المهاجرين اللبنانيين اشكالية معقدة، فلا توجد احصاءات رسمية، وعبثاً نتكلم عن واقع الهجرة اللبنانية". ويضيف: "الارقام مبالغ بها كثيراً وحسب تقديري الشخصي لا يوجد أكثر من 6 ملايين لبناني في الخارج".