في مخيم برج البراجنة ضاحية بيروت الجنوبية للاجئين الفلسطينيين يترعرع الأبناء الثلاثة للفلسطيني يوسف محمود شعبان الذي يقضي منذ عشر سنوات، في سجن رومية، حكماً بالسجن المؤبد بعدما دانه المجلس العدلي اللبناني أعلى سلطة قضائية مع آخرين بتهمة "قتل السكرتير الأول في السفارة الاردنية في بيروت نائب المعايطة في عام 1994". ويقيم الأبناء محمود 15 عاماً وحنين 14 عاماً وأحمد 13 عاماً في كنف جدتهم محفوظة شعبان التي ما برحت تقدم وكيلة ابنها المحامية مي الخنسا طلبات عفو باسمها إلى الرؤساء والمسؤولين اللبنانيين ل"اتخاذ الإجراء اللازم لتخلية سبيل ابنها بعدما تبين أن مرتكب الجرم شخص آخر هو ياسر محمد أحمد سلامة أبو شنار ونفذ فيه حكم الإعدام في الأردن ... ومن غير الجائز أن يبقى ابني موقوفاً نتيجة خطأ في الدلائل التي استند إليها الحكم". ويتبين من أوراق الدعوى التي حصلت "الحياة" على نسخة منها أن القضاءين اللبناني المجلس العدلي والأردني محكمة أمن الدولة اللذين أصدرا أحكاماً في هذه القضية، اتهما في شكل رئيسي منظمة "المجلس الثوري الفلسطيني". لكن اسم شعبان الذي اعتبره القضاء اللبناني متهماً أساسياً غير وارد في الحكم الأردني، فيما يتقاطع الحكمان عند أشخاص حاكمهم القضاء اللبناني غياباً وحاكمهم القضاء الأردني وجاهاً بعدما تمكنت الأجهزة الأردنية من توقيفهم، وأنزل في بعضهم حكم الإعدام. ولا تخفي شعبان خلال حديثها إلى "الحياة" أن ابنها كان منتمياً إلى "المجلس الثوري"، لكنها تبرر انتماءه إذ "كان مضطراً ككل الفلسطينيين المقيمين في لبنان، إلى الانضواء في تنظيم معين ليعيش. لكن يوسف الذي كان يعمل سائقاً، بدأ قبل ثلاثة أشهر من توقيفه إجراء معاملات سفر ليرحل". وتقول إنها كانت تدعوه ليترك التنظيم لأنه كان المعيل الوحيد "لي ولعشرة أيتام ربيتهم". أوقف يوسف 38 عاماً في 19 تشرين الأول أكتوبر 1994، عند مدخل مخيم البرج و"وضع في صندوق سيارة" وأخذ إلى مكان مجهول. بعد أيام علم ذووه من التلفزيون أنه موقوف لدى الأجهزة الأمنية اللبنانية بتهمة "اغتيال المعايطة". بعد أربعين يوماً من التوقيف، تمكنت الوالدة "المفجوعة" من لقاء ولدها، وكانت كلماته الأولى لها: "يمّا يا أمي أنا بريء والله يخلّص لي حقي، أنا رحت كبش محرقة". وطلب منها أن تعتني بنفسها وبالأولاد. عملت الوالدة بنصف النصيحة وأهملت نصفها الآخر. فهي لم تغفل عن أولاده مرة منذ عشر سنوات على رغم وجود والدتهم، ولم تبت مرة بعيداً منهم ولو في بيتها. وهي أيضاً تتكفل تربيتهم وتعليمهم وتنفق عليهم من مال يرسله إليها ولد لها في الدنمارك. أما صحتها فلم تعتنِ بها، بل أصيبت بمرض القلب، ناهيك بأنها لم تغمض لها عين ستة أشهر بعدما أوقف ولدها، وراحت تتناول دواء لتنام. وهي حتى الآن لا تعرف كيف تعتني بنفسها إذ بكت مراراً خلال حديثها، "ما هو ذنبي لأتعذب هذا العذاب؟". وتشبه نفسها بمن وقع في حفرة عميقة يحاول الخروج منها لكنه لا يستطيع. وتقول: "أحياناً أجدني فاقدة الصبر وأحياناً أجدني صابرة. عندما أغمض عيني وأسمع وقع خطى أمام الباب، يخيل إليّ أن يوسف داخل...". ولدى السيدة محفوظة يقين بأن ابنها لم يقتل أحداً وأنه في السجن "ظلماً، فالقاتل ظهر وليخلوا ابني ولا نريد منهم شيئاً". فهي صدّقت ما قاله لها ولدها عندما التقته في سجنه للمرة الأولى، وجاءت محاكمة الأردن للمتهمين في القضية نفسها بعد سنوات لتزيدها يقيناً ببراءته. فقبل ثلاث سنوات علمت عائلة شعبان عبر وسائل الإعلام بتوقيف القضاء الأردني متهمين في هذه القضية، وأملت بأن يخرج يوسف "فوراً" من السجن. لكن لخروجه مجرى قانونياً غير سهل، خصوصاً أن الحكم صادر عن المجلس العدلي الذي تعتبر قراراته مبرمة غير قابلة للنقض أو التمييز. وترى الخنسا أن "باب المراجعة القضائية سد في وجهنا نتيجة خطأ ونقص اعترى المادة 366 من قانون أصول المحاكمات الجزائية إذ جعل أحكام المجلس العدلي غير قابلة لأي طريق من طرق المراجعة العادية وغير العادية". هذا ما حدا بوكيلته إلى تقديم طلب عفو خاص عبر وزارة العدل إلى رئيس الجمهورية إميل لحود، لكن الطلب رفض. وهذا الرفض أيضاً كان مبنياً على أسس قانونية. فهو قبل أن يرفض أحيل إلى لجنة العفو فأحالته الأخيرة إلى النائب العام التمييزي القاضي عدنان عضوم الذي أبدى رأيه رداً للطلب وفقاً للمادة 366 إياها. لكن الخنسا تقدمت مجدداً بنسخ عن الملف إلى الرؤساء الثلاثة ووزير العدل بهيج طبارة وعضوم ورئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي طانيوس الخوري وعضوم. وهل تقبل أحكام المجلس العدلي أي نوع من المراجعة؟ فالقاضي خوري رفض إبداء رأيه في القضية ل"الحياة". لكنه أكد أن "الملف ورد إلى قلم رئاسة مجلس القضاء وأحيل إلى مستشار لدرسه، وهو لم يعطِ رأياً بعد". وقال: "بعد أن يعطي المستشار رأيه يُتخذ قرار". أما عضوم فقال ل"الحياة" إن "في إمكان المحكوم أن يتقدم، إذا ظهرت واقعة جديدة في القضية، بطلب إعادة محاكمة إلى الهيئة التي أصدرت الحكم في حقه سواء أكانت محكمة التمييز أم المجلس العدلي". وعن طلب العفو، قال: "إنه يقدم إذا كان الجرم ثابتاً على المتهم، أما إذا برزت واقعة جديدة في القضية ففي إمكان المحكوم أن يتقدم بإعادة محاكمة لأن المتهم قد يكون بريئاً". وهنا يطرح سؤال آخر: هل يعتبر القضاء اللبناني عدم ورود اسم شعبان في الحكم الأردني وتأكيده أن أبو شنار هو الفاعل الأول وتنفيذ حكم الإعدام فيه، واقعة جديدة تستدعي إعادة المحاكمة؟ وقالت المحامية الخنسا ل"الحياة" إن "التحقيق في الأردن أظهر ارتكاب أبو شنار مع المتهم عقاب نمر سليمان جريمة القتل، إضافة إلى ثلاثة متهمين آخرين هم جمال درويش مصطفى فطاير وإحسان صادق صالح رضوان وصبري خليل عبدالحميد البنا، وتبين أن اثنين منهم موجودان في الأراضي المحتلة وتقدمت السلطات الأردنية بطلب لتسلمهما". وأضافت: "لو كان لأي من المحكومين في لبنان أي شعبان ويوسف عبواني وبسام عطية جبر حكما عشر سنوات سجناً، دور في هذه القضية لطلبت السلطات الأردنية استلامهم، لكن هذا لم يحصل وأصدر القضاء الأردني حكماً وصدقته محكمة التمييز ونفذ الحكم في حق القاتل أبو شنار". وكان القضاء الأردني حاكم أبو شنار الملقب ب"ثائر محمد علي" وجاهاً، وعقاب نمر سليمان الفقهاء الملقب ب"عز الدين نمر" وجمال درويش مصطفى فطاير الملقب ب"راشد أحمد عطيه" وإحسان صادق صالح الرضوان الملقب ب"سعد عمر" وصبري خليل عبد الحميد البنا أبو نضال - وجد مقتولاً في العراق بعد الغزو الأميركي غياباً، فيما حاكم القضاء اللبناني شعبان الملقب ب"وائل محمد العلي" ويوسف مهيوب عبواني الملقب ب"سليم قاسم مهيوب" وبسام عبدالله محمد عطيه جبر الملقب ب"نضال مروان" وجاهاً، وسمير خليل مصطفى أحمد الملقب ب"راشد أحمد عطيه" لقب المتهم الثالث في الأردن ووصفي عبد الرحيم الملقب ب"وصفي حنون" وثائر محمد علي الملقب ب"ثائر الرفاعي" لقب المتهم الأول في الأردن وعقاب نمر الفقهاء الملقب ب"عز الدين نمر" غياباً. وكل القضاء نسب إلى الأشخاص الذين حاكمهم فعل الجريمة على رغم تقاطع الحكمين عند ثلاثة منهم تداخلت أسماؤهم وألقابهم في القرارين وهم: أبو شنار الملقب ب"ثائر محمد علي" في الأردن، فيما عرفه القضاء اللبناني ب"ثائر محمد علي" الملقب ب"ثائر الرفاعي"، وجمال درويش مصطفى فطاير الملقب ب"راشد أحمد عطيه" في الأردن، أما في لبنان فسمي سمير خليل مصطفى أحمد وحمل اللقب نفسه، وعقاب نمر الفقهاء الملقب ب"عزالدين نمر" فتوافق القراران على اسمه ولقبه. وكذلك حمل الحكمان بعض التناقض، إذ اعتبر القضاء اللبناني أن شخصين أطلقا النار، خلافاً لتقرير الطبيب الشرعي اللبناني الدكتور يوسف الحاراتي الذي كشف على الجثة، وأكد أن مطلق النار واحد، وكذلك لم يضبط السلاح المستخدم في الجريمة. أما القضاء الأردني فاعتبر أن مطلق النار واحد بناء لتقرير الطبيب الشرعي الأردني الدكتور قيس جميل القسوس الذي أكد أن القاتل شخص واحد. ومما جاء في وقائع الحكم الأردني أن لجنة انبثقت من "المجلس الثوري" سميت "لجنة المهمات الخاصة" مقرها لبنان ويترأسها أبو نضال، ومهمتها القيام بعمليات عسكرية ضدّ أمن بعض الدول التي يعادونها، وقرر "المجلس الثوري" اقتراف مجموعة أعمال إرهابية في حق الأمن الخارجي للمملكة الأردنية الهاشمية، وتنفيذاً لذلك كلفت "لجنة المهمات الخاصة" من جانب رئيسها المتهم الخامس أبو نضال ضرب السفارة الأردنية وديبلوماسييها في بيروت. وإثر ذلك قام المتهمون الأول أبو شنار والثاني الفقهاء والثالث فطاير وبتكليف من الرابع الرضوان، بمراقبة السفارة وموظفيها وسياراتهم 25 يوماً ثم رفعوا تقريراً إلى الرابع الذي رفعه بدوره إلى الخامس الذي أصدر أمراً إلى الأربعة بتنفيذ العملية ضدّ أي شخص من الديبلوماسيين. وبناء على ذلك كلف الرابع الأول والثاني والثالث بالمهمة وتمكنوا من تنفيذها في صباح 29 كانون الثاني يناير 1994، إذ توجهوا إلى منزل المعايطة فانتظر الأول والثاني قرب سيارته وانتظرهما الثالث في السيارة، وعندما شاهدا الديبلوماسي يهم بركوب سيارته اتجه المتهم الأول أبو شنار نحوه شاهراً مسدسه وأطلق عيارات عدة في اتجاه رأسه وصدره أدت إلى وفاته، فيما كان المتهم الثاني يؤمن الحماية ثم غادر الثلاثة المنطقة". وأضاف القرار الأردني: "بعد ذلك بدأت السلطات اللبنانية باعتقال مجموعة أشخاص ينتمون إلى الجمعية غير المشروعة المجلس الثوري نفسها للتحقيق معهم في واقعة اغتيال المعايطة مما دعا المتهم الخامس إلى تكليف المتهمين الأول والثاني والثالث بمغادرة لبنان إلى السودان، فغادر الأول أبو شنار إلى السودان بجواز سفر أردني مزور، ثم كلف المغادرة إلى تركيا حيث بقي هناك إلى أن قبض عليه وسلم إلى السلطات الأردنية في مطلع العام ألفين". وأنزل حكم الإعدام شنقاً بالمتهمين الخمسة: أبو شنار نفذ فيه الحكم وفطاير والرضوان والبنا والفقهاء. أما ما جاء في القرار اللبناني فكان مشابهاً في الدوافع إذ أشارت الوقائع إلى أن المتهمين ينتمون إلى "المجلس الثوري الفلسطيني" برئاسة صبري البنا أبو نضال ويتولى ماهر عبدالله مجهول بقية الهوية مسؤولية الساحة اللبنانية ويساعده في مهماته منير أحمد. ... وتبين أن "خلايا المهمات والمعلومات" أنشئت إثر صدامات مسلحة بين المجلس الثوري ومنظمة التحرير الفلسطينية والمنشق عن المجلس المدعو طارق سهمود الملقب ب"سفيان"، وتولت تلك الخلايا الرد على الخصوم في مختلف الوسائل ونفذ أعضاؤها عمليات اغتيال. وفي أواسط كانون الثاني 1994، عُقد اجتماع في معسكر عيتا الفخار البقاع الغربي ترأسه قائد المعسكر سليم أحمد وحضره بسام عطيه جبر ويوسف مهيوب عبواني ويوسف محمود شعبان وسواهم وخلال الاجتماع طلب سليم أحمد من شعبان وعبواني وجبر التوجه إلى مكتب "المجلس الثوري" في مخيم برج البراجنة فذهبوا واجتمعوا بالمتهم وصفي عبدالرحيم الذي أبلغهم أن "المجلس الثوري" يتعرض في الأردن لضغوط من جانب السلطات الأردنية، وأن قيادة "المجلس الثوري" قررت الرد في الساحة اللبنانية وأن المهمة سيتولاها سمير خليل أحمد المسؤول عن إحدى الخلايا ويتبع له ثائر محمد علي وعقاب نمر الفقهاء، كما فُصل المتهم يوسف شعبان من خلية عبواني وألحق بخلية سمير أحمد بناء لطلب وصفي عبد الرحيم. وقام سمير أحمد ويوسف شعبان وعقاب نمر الفقهاء وثائر محمد علي بمراقبة السفارة الأردنية في ساقية الجنزير في بيروت وتبين لهم تعذر اغتيال السفير فقر الرأي على اغتيال المعايطة ... وفي صباح 29 كانون الثاني 1994، توجه سمير أحمد ومعه ثائر محمد علي وعقاب نمر الفقهاء واصطحبوا معهم يوسف شعبان إلى منطقة الروشة وفي الطريق سلم سمير أحمد رفاقه مسدسات 9 ملم وترجلوا من السيارة فيما تابع سيره وانتظرهم قرب مطعم نصر، عندما نزل المغدور من شقته وصعد إلى سيارته وأدار محركها اقترب منها ثائر محمد علي وأطلق عليه طلقات عدة فأحدثت كوة في زجاج باب السيارة الأيسر الأمامي ثم تقدم يوسف شعبان وأطلق عيارات عدة في اتجاه رأس المعايطة وجسده ولم يتوقف حتى تأكد من مقتله، وكان الفقهاء يقوم في هذه الأثناء بتأمين الحماية، ثم فروا إلى مخيم برج البراجنة ومنها إلى معسكر عيتا الفخار". وأنزلت بالمتهمين الأحكام الآتية: تجريم شعبان وجاهاً وثائر محمد غياباً وإنزال عقوبة الإعدام بكل منهما لقتلهما المغدور وخفضها تخفيفاً إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، وتجريم وصفي عبدالرحيم غياباً وإنزال عقوبة الإعدام به لتحريضه على القتل وخفضها تخفيفاً إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، وتجريم سمير خليل أحمد غياباً وإنزال عقوبة الإعدام به لجهة المساعد الضروري لارتكاب الجريمة، وخفض العقوبة إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، وتجريم المتهمين يوسف مهيوب عبواني وجاهاً وبسام عبدالله محمد عطية جبر وجاهاً وعقاب نمر الفقهاء غياباً لجهة التدخل وإنزال عقوبة الأشغال الشاقة مدة عشر سنوات لكل منهم وإخراجهم من البلاد فور انتهاء تنفيذ العقوبة. فعبواني وجبر اقترب موعد الإفراج عنهما، أما شعبان الذي لم تنل "الحياة" ترخيصاً لزيارته في السجن أو الحصول منه على رسالة، فسيبقى مسجوناً حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا، فإما أن يمنحه رئيس الجمهورية عفواً خاصاً رفض من قبل وإما أن يخرج في عفو عام، ولكن لهذا الأخير بعد سياسي إذ يجب أن تتوافر من أجله أجواء سياسية مناسبة وتوافق وطني لبناني لأن صدوره مرتبط بوضع قائد "القوات اللبنانية" المحظورة سمير جعجع الذي يمضي غير حكم بالسجن المؤبد في سجن وزارة الدفاع.