اسرائيل وأنصارها واليمين الاميركي هائجون بسبب نتائج الاستطلاع الذي اجري في دول الاتحاد الاوروبي وخلصت الى ان 59 في المئة من الرأي العام فيها ترى ان اسرائيل هي الدولة الاخطر الاولى على السلام العالمي. ابتداء يمثل الاستبيان ونتيجته والضجة التي رافقته علامة فارقة ومنعطفاً حقيقياً على اكثر من صعيد. هو علامة فارقة واساسية في تاريخ فك العلاقة القاتلة بين عقدة الذنب الاوروبية/ الغربية التاريخية تجاه جرائم اوروبا وماضي عنصريتها ضد اليهود، وحاضر موقفها المخجل عن جرائم اسرائيل تجاه الفلسطينيين. الرأي العام الاوروبي والاميركي تم اختطافه حقاً في العقود الماضية من قبل الخطاب الصهيوني ثقيل الوطأة عبر النجاح في مماهاة الموقف من اليهود والموقف من اسرائيل. تطورت عقدة الذنب المشار اليها، ورمزها الاكبر الهولوكوست، الى مقدس كبير في الغرب لا يمكن المساس به او بممارسات اليهود. تحولت الهولوكست، التي هي جريمة بشعة وقذرة وتعبر عن أدنى مراتب الانحطاط الانساني، الى صناعة قذرة تبرر كل الجرائم اللاإنسانية والعنصرية التي تقوم بها اسرائيل. اسرائيل التي قامت على مشروع ظلم تاريخي سوغت قيامها على اساس تصويب الظلم الذي عاشه اليهود في الغرب. لم يهضم كثير من اليهود فكرة ان يؤسسوا ظلماً جديداً بتبرير تسوية ظلم واجهوه. لكن المشروع الصهيوني داس ترددهم، ومضى بقسوته ممثلاً ليهود العالم طوعاً ام كراهية. ومنذاك، تولدت هذه الخلطة العجيبة التي رقت موقع اسرائيل الى مرتبة المقدس، وذلك على رافعة الاستثمار الهولوكستي الفج. اشتغل هذا "المقدس المفتعل" على استغلال واعادة انتاج وتكرار واقعة الظلم الاوروبي بحق اليهود بحيث تصبح الواقعة الجديدة، الظلم الاسرائيلي للفلسطينيين تفصيلاً هامشياً لا يهم مقارنة بالظلم الاول. تمرد كثير من اليهود على الصيغة الجديدة. فقد وجدوا انفسهم منسوبين قسراً الى دولة بعيدة عنهم تفترض عليهم اعلان الانتماء اليها والولاء لها، ظالمة او مظلومة، وللحق، كان بعض الاصوات اليهودية النبيلة هي الاشجع في رفض المشروع الصهيوني، والتمرد على "المقدس" الذي فُرض على الرأي العام العالمي. في السنوات الاخيرة صارت جرائم الدولة المسنودة بعماء مطلق من قبل الولاياتالمتحدة تقيض عن قدرة جميع انصارها في العالم في الدفاع عنها. ما عاد بالإمكان الابقاء على العلاقة الاصطناعية المفتعلة بين ما تعرض له اليهود من مظالم في السابق، وغض النظر عن مظالمهم للفلسطينيين في الوقت الحاضر. في السنوات القليلة الماضية، تفاقم فيضان التوحش الاسرائيلي الشاروني، وقاد الى انفجار التمرد الذي نراه الآن معبراً عنه في الاستبيان الاخير وبشكل غير مسبوق. وان يقول 59 في المئة من الاوروبيين ان اسرائيل تشكل التهديد الاكبر للسلام العالمي فذلك معناه ان العالم ضاق ذرعاً بكل العنصرية الاسرائيلية والبطش والغطرسة التي ما عاد بالامكان هضمها. والسعار الذي دب في الاوساط الاسرائيلية وخصوصاً اليمينية، معطوفاً عليها ما حدث من هستيريا اللوبيات الصهيونية في الولاياتالمتحدة يشيران بشكل اكيد الى المفعول الهائل لنتائج هذا الاستبيان. فنتائج ذلك الاستبيان وجهت ضربة قاصمة الى صورة اسرائيل العالمية والمزيفة، الحمل الوديع المحاط بالذئاب العربية المتأهبة لافتراسه من كل جانب. وهي بالتأكيد نتائج مدهشة ومفاجأة حتى لأكثر المراقبين متابعة ودقة. من يعيش في الغرب، وخصوصاً أوروبا، يلاحظ بوضوح تنامي نزعة التعاطف مع الفلسطينيين خلال السنوات القليلة الماضية، سواء شعبياً أو اعلامياً أو حتى سياسياً ولو كان التعبير السياسي الرسمي عن ذلك التعاطف ما زال خجولاً ومتردداً. لكن لم يكن يتوقع احد ان تكون النظرة ازاء اسرائيل قد تغيرت الى هذا الحد وهي نظرة كان اشتغل على صوغها اعلام متحيز على مدار عقود طويلة ماضية. ما يحدث الآن ان الاجيال الشابة الجديدة هي اقل استسلاماً لما يردده الاعلام عن طهرانية وبراءة اسرائيل. وما يحدث الآن ان الفضاء الاعلامي العالمي، والغربي في مقدمته، لم يعد محتكراً على وسائل معدودة ومسيطر عليها من قبل حفنة من انصار الصهيونية بعماء مطبق. وقبل ذلك وأهم منه، فإن ما حدث وما يحدث الآن ان الانتفاضة الفلسطينية ومقاومتها هزت كثيراً من الضمائر النائمة. تفكك الاحتكارات الاعلامية العالمية، وتنوع مصادر الأخبار، وتعمق النزعات الانسانوية التي تساند القضايا العادلة خلقت بيئة جديدة متمردة، وترفض الانصياع لمنطق القوة والهيمنة والكذب المستديم. هذه البيئة هي نفسها التي ولدت الحركة الشعبية الضخمة المعادية للحرب على العراق والتي سيرت الملايين في شوراع المدن الغربية الكبرى. اسرائيل الهائجة صارت تلقي بالاتهامات يميناً وشمالاً. والقراءة الاسرائيلية الاولى لنتائج الاستبيان تقول انه يعني ان اللاسامية متعمقة في الشارع الاوروبي، وهي بذلك تحاول ان تتغافل عن وحشية سياساتها وعن حقيقة ان احتلالها الوحشي هو الذي سبب العداء المتصاعد لها في كل رقاع الارض. الاجيال الاوروبية الجديدة، في متوسطها العام، ليست معنية بمعاداة اليهودية كدين، ولا الاسلام كدين أو غيرهما من الاديان على رغم مظاهر العنصرية والاسلاموفوبيا هنا وهناك. فهي اجيال غير متدينة، وغير آبهة بالعودة الى التاريخ وقراءة ما يقوله هذا الدين او ذاك حتى تأخذ منه او من اتباعه موقفاً عدائياً، لاسامياً في حالة اليهودية، وهي اجمالاً تنظر إلى كل الاديان نظرة ازدرائية عامة لا تحابي ديناً، ولا تنتصر لدين على حساب آخر. ما تحتكم اليه شرائح مهمة من الاجيال الجديدة في نظرتها وتقويمها للأمور هو ما تراه من عدل وظلم، وما يمليه عليها الضمير الانساني العادي المنفلت من سطوة التشويه السياسي. لذلك فهروب اسرائيل الى الشماعة التقليدية السمجة، العداء للسامية، هو هروب المذعور الذي تفاجأ بما لم يكن يتوقعه. بل هو هروب سيجرجر بقايا العنصرية واللاسامية الحقيقة المختبئة والتي لا تتجرأ على الظهور الى انتهاز الفرصة والظهور مجدداً. مواصلة عزف اسطوانة اللاسامية بمناسبة أم من دونها هي التي تخلق قدراً من الحنق العالمي الذي ينتج في اكثر اطرافه تعصباً لاسامية حقيقية. كثيرون كتبوا عن غطرسة اسرائيل المضاف اليها الارهاب الفكري والسياسي الذي تمارسه ويمارسه انصارها المتعصبون في اميركا واوروبا بقذف كل ناقد لسياسة اسرائيل بتهمة اللاسامية. وكتبوا ان تلك الغطرسة والارهاب هما اللذان سيولدان نزعات عداء متجددة ضد اسرائيل، بل سيعيدان بث الروح في اللاسامية الاوروبية، خصوصاً في اوساط بعض اليمين المتطرف. لكن اسرائيل لم تلق بالاً، وتاجرت بقضية اللاسامية وقضية الهولوكوست ورقتهما الى درجة مقدسة لا يمكن الاقتراب منهما، في مجتمعات وبيئات تمردت على كل مقدس. المثير في الأمر، من جهة أخرى، ان اسرائيل كانت أرادت ان تذهب شوطاً أبعد وأكثر انتهازية في مسألة اللاسامية، وقبل قصة الاستبيان الاخير ونتائجه، فقد كانت تفاوض الاوروبيين والاميركيين على اعادة تعريف اللاسامية، بحيث يتم اعتبار أي نقد لسياسة اسرائيل ووسائلها في الدفاع عن نفسها بأنه يقع ضمن اطار اللاسامية، لان تلك السياسة ووسائلها مهما كانت وحشية وعنصرية ولاانسانية يجب ان ينظر اليها على انها للدفاع عن وجود اليهود. أي انه لا يجوز لأي كان ان ينتقد قتل الفلسطيني، وتهديم بيوتهم، والاغارة على مدنهم ومخيماتهم، والاذلال اليومي لهم. اسرائيل كانت تتابع بقلق مصادر تصاعد النقد العالمي لسياستها القمعية، فهو نقد يأتي من اوساط مختلفة ويتسع طيفها ليشمل يهوداً معتدلين هنا وهناك، ويشمل اصواتاً لا يمكن وصفها بأنها معادية لليهود كيهود. وكانت لا تستطيع ان تشل ذلك النقد، لأنه نقد سياسي بعيد عن الطائفية او العنصرية او "اللاسامية". لهذا فأرادت ان تحشره تحت مسمى اللاسامية حتى تسكت كل الناقدين. الآن يأتي الاستطلاع التاريخي ونتائجه ليصفع كل المحاولات الاسرائيلية تلك ويعري السياسة الاسرائيلية عالمياً بشكل لا مثيل له. بكلمة موجزة، العالم الغربي أخيراً بدأ يمتلك الجرأة للتعبير الصريح عن ضمير غالبية شعوبه متحدياً الارهاب الفكري الذي مورس وما زال يمارس عليه وعلى غيره عندما يتعلق الامر باسرائيل. اعتقادات اسرائيل الغبية فعلاً بأنها ستستمر في الاختباء خلف فزاعة ترويع الآخرين بتهمة اللاسامية للأبد تحطمت. الآن انتهت كل تلك الاعتقادات، والرأي العام الغربي دخل منعطفاً جديداً. لكن المطلوب عربياً وفلسطينياً هو استثمار هذا الجو الجديد بايجابية، وليس تحطيمه. ليس تحطيمه بعدم الانجرار العاطفي نحو أي مربع من مربعات العنصرية، مدفوعين بالابتهاج بلرسالة التي تنطوي عليها نتائج الاستبيان. يجب التحلي باليقظة والابقاء على مسافة واضحة وفاصلة بين الترحيب بهذا التغير التاريخي، وعدم الترحيب بأي نمو للعنصرية واللاسامية والتطرف ليس فقط لانها موجه ضد اليهود، بل لانها ايضاً ستكون مشتملة على عنصرية ولا سامية ضد العرب والمسلمين وكل ما هو غير ابيض. ويبقى المطلوب مضاعفة الجهود للوصول الى قطاعات أوسع من الرأي العام الاوروبي والاميركي لدفعها الى نقطة تراكم التأثير في صناعة السياسة نفسها. كما المطلوب ايضاً معاودة الاقتناع بأهمية الرأي العام العالمي الذي صار يستتفهه كثيرون ولا يلقون له بالاً. فتأمل ردود الفعل العالمية على نتائج الاستطلاع، اوروبياً واميركياً تحديداً، والهزة السياسية العنيفة التي ضربت اسرائيل من جرائها، كل ذلك يشير بما لا يدع مجالاً للشك الى اهمية مسألة الرأي العام العالمي وتأثيره الكبير. * باحث وكاتب فلسطيني، كامبردج.