"الحركة الوطنية الفلسطينية: من النضال المسلح الى دولة منزوعة السلاح" سِفر يجمع بين دفتيه أربعة كتب ومشروع كتاب خامس المؤسسة العربية 2003. وقد أدرج المؤلف "المشروع الأخير" في ما اعتبره "تقديماً" للكتاب وكان عنوانه "الدولة الفلسطينية والاستعصاء التاريخي"، وهو، في الحقيقة، أكثر من مجرد "تقديم"، كما انه ليس مدخلاً لفصول الكتاب على رغم من انسجامه مع عنوان الكتاب. وحتى "يفلت" المؤلف من المحاسبة نراه يتجنب تقسيم كتابه الى فصول، مكتفياً بإعطاء رقم متسلسل لكل موضوع على حدة، فيعالج ستة موضوعات في 233 صفحة من القطع الكبير، فضلاً عن 30 صفحة من الصور معظمها من النوع النادر والذي له علاقة حميمة بموضوع الكتاب. يرى صقر أبو فخر في تقديمه للكتاب أن فلسطين لم تكن، في أي حقبة، دولة أو إقليماً مستقراً. وقد أعاد المؤلف جذور فكرة الدولة الفلسطينية الى أوائل سبعينات القرن العشرين وإن كانت خمدت فترة من الزمن لتعود الى الظهور مجدداً بعد حرب تشرين الأول اكتوبر 1973، ثم لتظهر في اتفاق أوسلو الموقع في 13/9/1993. ويلاحظ المؤلف "ان ما يعيق قيام دولة فلسطينية حقيقية، فضلاً عن مسألة القدس وقضية اللاجئين، هو عدم سيطرة الدولة الفلسطينية عن مجالها الجوي وعلى منافذها البرية والبحرية" ص 13. وهنا يقفز صقر أبو فخر عن المقومات الرئيسية للدولة، أي دولة، فما أشار اليه كعدم السيطرة هو ضمن مقوِّم "السيادة". أما مقوم الأرض فيظهرها مفتتة وممزقة وتحيط بفتافيتها الكتل الاستيطانية الصهيونية والطرق الالتفافية. أما الشعب وهو العنصر الثالث للدولة فيُحظر على أكثر من نصفه مجرد الدخول الى الدولة المرجوة. وعلى رغم أن المؤلف يشير الى مكاسب للفلسطينيين مثل "جواز السفر" والطوابع البريدية والرمز الدولي للهاتف والى ما سيكون لهم لاحقاً من "عملة وطنية"، لكن هذه كلها تندرج تحت بند الشكل من دون المضمون. يقلل المؤلف، الى ذلك، من أهمية الدولة المنزوعة السلاح، لكنه يرجِّح أن تفتح "انتفاضة الأقصى والاستقلال" الراهنة والانتفاضات اللاحقة الباب "نحو قيام دولة فلسطينية مستقلة حقاً" ص 13، مضيفاً أن هذه الدولة ستكون "أمام اختبار الديموقراطية بالتأكيد". ويعيد أبو فخر تخوفه من احتمال غياب الديموقراطية الى نشوء فئات اقتصادية واجتماعية جديدة تبني مؤسسات الدولة "من زواج الأمني بالتجاري" ص 14. يعالج الكاتب مرحلة ما بعد النكبة منذ ان انحسرت حكومة عموم فلسطين وتضاءل حضور الهيئة العربية العليا، وهي المؤسسة الجبهوية التي كانت تقود الحركة الوطنية الفلسطينية عشية النكبة وفي أثنائها ثم بعد ذلك. أما ذلك الانحسار وهذا التضاؤل فيعيدهما أبو فخر الى اضمحلال الأساس الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع الفلسطيني وضمور السلطة السياسية للأعيان وملاّك الأراضي ص 19. وفي الحاشية يشير المؤلف الى إخفاق محاولة يحيى حمودة وعزيز شحادة ونمر الهواري في تأليف "المؤتمر العام للاجئين" في سنة 1949. لكن المؤلف لم يشر الى المحاولة التي قادها الشيخ عبدالله أبو ستة في هذا المجال، ولكن في قطاع غزة فقط. يبدأ المؤلف رصده للفصائل الفدائية بحركة "فتح" التي رجّح بأن تكون نقطة القوة لديها في اتساعها لجميع التيارات السياسية. لكن لا أدري لماذا أشار أبو فخر الى أن كمال ناصر وعبدالمحسن أبو ميزر كانا من البعثيين الذين انضموا الى "فتح"، فيما لم يحدث ان انضم الى فتح أي من ناصر أو أبو ميزر ربما المقصود انضمامهما الى منظمة التحرير الفلسطينية. كذلك ذكر المؤلف ان نمر صالح وأحمد عبدالرحمن ومرعي عبدالرحمن جاؤوا الى فتح من اليساريين والشيوعيين والقوميين، وهؤلاء الثلاثة غدوا يساريين، بهذا القدر أو ذاك، في سياق المواجهة مع اسرائيل وليس قبلها، بل ان مرعي عبدالرحمن بدأ حياته السياسية في أواخر ستينات القرن العشرين معادياً للشيوعية قبل أن يتحول في أواسط السبعينات من القرن نفسه الى اليسار ثم يهجره في مطلع الثمانينات. أما "كتيبة الحق" فلم تبادر الى الاشتباك مع اسرائيل من قطاع غزة في مطلع الخمسينات من القرن العشرين، أي ان قيادة الاخوان المسلمين في مصر لم توعز الى هذه الكتيبة بوقف التسلل الى اسرائيل ص 26. وأذكر أن خليل الوزير كان مسؤولاً عن شباب الاخوان في قطاع غزة آنذاك، وهو الذي يشير اليه المؤلف باعتباره أحد قادة هذه الكتيبة وكان في السادسة عشرة حينذاك. يقفز المؤلف من الموضوعي الى الشخصي، فيخصص عنوانه الجانبي الثالث في هذا القسم لياسر عرفات والتعريف به. علماً أن عرفات لم يكن الرجل الوحيد أو الأول في تأسيس "فتح". أما ميلاده في القاهرة فكان في 4/8/1929 وليس في 24/8/1929. ثم ينتقل أبو فخر في حديثه عن "فتح" من "الخلية الأولى" الى "المسار المتعرج" حتى صدور البيان الأول عن "قوات العاصفة" في 1/1/1965، ثم انتقال "فتح" من مرحلة التأسيس وبناء القواعد السرية الى مرحلة بناء قواعد الاسناد الثابتة. وهنا لا بد من الإشارة الى أن عضو اللجنة المركزية ممدوح صيدم أبو صبري لم يستشهد بل مات على فراشه. في "المرحلة الجديدة" أي مرحلة المنفى بعد سنة 1982 لا بد من الايضاح ان آخر سفينة حملت الفدائيين الفلسطينيين من بيروت لم تخرج في 31/8/1982 بل في 1/9/1982 وكنت ضمن من حملتهم هذه السفينة الى ميناء طرطوس السوري. بتوقيع "اتفاق أوسلو" شهدت الساحة الفلسطينية انقساماً جديداً. والمؤلف يعرض لأهم المحطات اللاحقة بهذا الاتفاق من عودة عرفات الى غزة وإجراء أول انتخابات تشريعية في مناطق الحكم الذاتي وانتخاب عرفات رئيساً للسلطة الفلسطينية "ما أنهى مرحلة الكفاح المسلح من خارج فلسطين ودشن مرحلة الكفاح المتعدد الجوانب من داخل فلسطين نفسها، فيما عجزت المعارضة الفلسطينية عن إسقاط اتفاق أوسلو أو حتى إعاقة تعديل الميثاق الوطني، بل فشلت في إنشاء كتلة معارضة فاعلة وأصيبت فاعليتها العسكرية بالشلل" ص 39. لكن المؤلف لم يفسر مظاهر هذا العجز، وأكثر من هذا أسقط من قائمة المنظمات التي رصدها: "ثوار فلسطين" بقيادة محمد عبدالعزيز أبو سخيلة و"الفداء القومي" بقيادة الشريف ناصر و"ج.ت.ف." بقيادة أحمد السعدي، مع أن أبو فخر ذكر الأولى والثالثة في غير موضع من هذا القسم. وفي السياق نفسه لم يخصص المؤلف موضعاً للحديث عن "فتح - المجلس الثوري" و"فتح - الانتفاضة" و"منظمة 15 أيار". أما الجبهة الشعبية - القيادة العامة فليست انشقاقاً عن الجبهة الشعبية بل نتيجة لفض الاندماج بين جبهة التحرير الفلسطينية وحركة القوميين العرب بعد عشرة أشهر على قيام هذا الاندماج. في القسم الثالث غطى المؤلف على مدى 33 صفحة "المسألة اليهودية" والمراحل الثلاث للحركة الصهيونية، ثم انتقل أبو فخر الى دحض الشائع ونقد السائد عن اليهود، ففنّد الخرافات والأوهام أمثال "تهمة الدم" أو "فطير صهيون" وشعار "حدودك يا إسرائيل من الفرات الى النيل" و"بروتوكولات حكماء صهيون" و"نداء نابليون بونابرت الى اليهود" وكذلك "تقرير كامبل بنرمان" الخرافي، من دون أن يهمل أوهام "المؤامرة اليهودية" و"القوة الخفية لليهود" و"خرافة العبقرية اليهودية" و"اللوبي اليهودي المسيطر على الولاياتالمتحدة الأميركية". وينشر أبو فخر في ختام هذا القسم مسرداً وافياً بتواريخ المذابح الصهيونية ضد العرب والفلسطينيين مع ذكر تاريخ كل مذبحة ومكانها وعدد الضحايا. يخصص المؤلف القسم الرابع ل"القضية الفلسطينية وتاريخها المعاصر ومسارها الطويل"، فيعيد نشوء القضية الفلسطينية لا إلى سنة 1948 بل الى بدايات الاستيطان اليهودي في فلسطين سنة 1882 الذي انكشف خطره مع صدور تصريح بلفور في 2/11/1917 ودخول الجيش الانكليزي الى القدس بعد شهر وأسبوع واحد فقط، وما أعقب ذلك من إقرار عصبة الأمم صك الانتداب على فلسطين وظهور الميثاق الوطني الفلسطيني الأول الذي حدد أهداف الكفاح الوطني الفلسطيني في ثلاثة هي: وقف الهجرة اليهودية الى فلسطين، وإنهاء الانتداب البريطاني، والانضمام الى الوحدة السورية. وفي هذا القسم يتعقب الكاتب ظهور حركة الجهاد الاسلامي ونشوء حركة "حماس"من تحت عباءة "الأخوان المسلمين"، والاسلام السياسي في إطار النضال الوطني، قبل أن ينتقل الى الدستور الفلسطيني ودين الدولة. وهنا يتساءل أبو فخر عما حل بفكرة الدولة الديموقراطية العلمانية ما دام الدستور المقترح ينص على أن "دين الدولة الرسمي هو الإسلام". ثم يخلص الى طرح سؤال مهم هو: "هل هزيمة إسرائيل ممكنة؟". وفي معرض الإجابة يعتقد الكاتب أن من المحال ان تنجح أي محاولة للنهوض العربي قبل تحرير العقل العربي من سطوة النص، ولكي يظهر فولتير عربي يجب أن يظهر مارتن لوثر عربي أولاً. ويأخذ أبو فخر على السلفيين رؤيتهم الاقتحام الغربي لبلادنا مجرد "صليبية جديدة"، فيما لا يرى أولئك السلفيون في هذا الاقتحام ثمرة 500 سنة من العلم والتقدم والحضارة. الأمر البارز في هذا الكتاب هو أن المؤلف صقر أبو فخر يرصد في ستين صفحة مئة وعشرين سنة من الوقائع الفلسطينية أي من 1882 حتى 2002، لينهي كتابه بتلك المجموعة النادرة من الصور التي تزيد الكتاب فائدة ومتعة بصرية. ولعل القارئ، بين يدي هذا الكتاب، كأنه أمام سجل مفتوح للقضية الفلسطينية والصراع العربي - الاسرائيلي، لكن من زوايا متعددة ومنفصلة ما أفقد أقسام الكتاب جانباً من النسق الضروري، وإن كانت هذه الملاحظات الهامشية لا تقلل من القيمة التاريخية والفكرية لكتاب يندرج تحت راية الذاكرة الوطنية الفلسطينية، ما يجعله موسوعة ضرورية للباحثين في الشأن الفلسطيني والصراع العربي - الاسرائيلي، وللجيل العربي الراهن.