يجب التنبيه أولاً عند النظر الى موقف الإسلاميين من المسألة الديموقراطية أن ذلك لا يتضمن فرضية مسبقة فحواها أن الديموقراطية حق مطلق يقتضي أن يكون محكّاً للحكم على الإسلاميين على أساس مواقفهم منه. فليس هناك اتفاق على الديموقرطية كضمانة للعدل والرفاهية حتى داخل الغرب ذاته، فهي لا تزال تمثل هدفاً لانتقادات العديد من المفكرين الغربيين أنفسهم. فماركيوز يرى أنها تعمل على تطويع الحاجات الإنسانية وإرغامها على أن تتفق مع حاجات النظام. وهي تحول دون التطور التلقائي للمجتمع عند هايك. وهي أداة السلطة في انتاج المفاهيم البشرية التي تتطلبها حاجاتها عند فوكو. ومن ثم فلا غضاضة إذا وجد على خريطة البحث العديد من الخلافات بين الإسلاميين والديموقراطية، فلا يعد ذلك كفراً بالعقلانية والحرية كما اعتاد بعض الباحثين ترديد ذلك. ومع ذلك تظل الروح الجوهرية للديموقراطية باعتبارها الارتضاء بحكم الأغلبية في مواجهة الاستبداد سليمة وتلقى القبول من الجميع، بل وتمثل قيمة من القيم المطلقة الراسخة في الضمير الإنساني. وعلى هذا الأساس فإننا لكي نستطيع النفاذ الى حقيقة الموضوع الذي طرحه وليد نويهض في دراسته المنشورة في "الحياة" تحت عنوان "الاسلاميون والمسألة الديموقراطية"، لاپبد أن يكون المحك الذي نحدد على أساسه موقف الاتجاهات الاسلامية المختلفة من الديموقراطية هو المعنى الحقيقي لجوهر الديموقراطية ذاتها حكم الأغلبية في مقابل الاستبداد وليس شيئاً آخر. وهو الأمر الذي لا يعني تجريد الديموقراطية من الأشكال المؤسسية التطبيقية لها فقط ولكن تجريدها من الشروط والعناصر التي ارتبطت بها في الفكر السياسي الغربي لنتحدث عن جوهرها هذا كفكرة عالمية مجردة حازت القبول لدى كل شعوب الدنيا، بل وصارت هاجساً مصيرياً في كيان هذه الشعوب. وحتى القول أن الديموقراطية هي أن يحكم الشعب نفسه بنفسه فإن ما تفهمه الشعوب منه هو أن يكون زمام الحكم بيد الشعب وممثليه، بمن فيهم الحاكم نفسه. ولكن لا يشترط لدى الشعوب لقبولها مفهوم الديموقراطية هنا، إدخال معتقدات الشعوب ومواريثها الحضارية تحت إرادة وأهواء بعض الأحياء من الأمم في كل مرحلة من المراحل، وهو أهم ما يقتضيه المفهوم العلماني الغربي للديموقراطية. وهذا المفهوم العام للديموقراطية هو ما يجعلها الغاية المنشودة لنظم الحكم لدى كل شعوب الدنيا وذلك لقبولها للدخول في أي وعاء حضاري إنساني. فإذا أردنا أن نحاكم موقف مختلف الاتجاهات الإسلامية من الديموقراطية على أساس هذا المحك لوجدناها جميعاً تقف في صف هذا المعنى الجوهري للديموقراطية بشكل حاسم. وقد ألمح وليد نويهض الى الاختلاف بين كتابات المفكرين وكتابات التنظيمات الإسلامية، ولكننا نرجح الخلاف بين الكتابات الموجهة للتطبيق على كيانات محددة في الواقع العملي. فلا تجد صعوبة على المستوى النظري في تأكيد تبني الاتجاهات الإسلامية كافة لهذا المعنى الجوهري للديموقراطية. فالإمام البنّا يرى "أنه من حق الأمة أن تراقب الحاكم أدق مراقبة وعليه أن يشاورها وأن يحترم إرادتها". ومن المدرسة نفسها يذهب الشيخ محمد الغزالي الى أن "الاستبداد السياسي هو المسؤول عن بقاء الكفر في الأرض والزيغ في شتى الأفئدة". وتأتي في السياق نفسه فتوى الشيخ القرضاوي المشار إليها في دراسة وليد نويهض والتي تؤكد اتفاق الاسلام مع هذا المعنى الجوهري للديموقراطية. وبالنسبة الى التيار الجهادي يمكن التماس ذلك في تبنيهم للشورى منهجاً وفي كتابات الإمام المودودي أحد أهم مرجعياتهم الفكرية والتي جاء فيها أن الحكومة الإسلامية لا تستبد بها طبقة من السدنة أو المشايخ، بل هي التي تكون في أيدي المسلمين عموماً وهم الذين يتولون أمرها والقيام بشؤونها وفق ما ورد به كتاب الله ورسوله. وفي تبنيهم الحرفي المثالي لما حدث في عصر الخلافة الراشدة حيث تم تقديم عثمان على علي رضي الله عنهما لتولي الخلافة بناء على قاعدة الأخذ بموقف الأكثرية. فإذا جئنا الى المستوى العملي من المسألة صدمتنا صعوبات وتعقيدات كثيرة في فهم الصراع حول الديموقراطية، فكما يقول وليد نويهض في دراسته "المنظمات الاسلامية من الصعب فصلها عن البيئات التي تتحرك فيها وتحديداً نمط علاقتها بالدولة الوطنية المعاصرة والحديثة فالبحث في أفكار الهيئات الإسلامية يبقى مقصوراً إذا لم يتم تناول المحيط السياسي الذي تنشط فيه كذلك ستكون الأفكار مجرد آراء عامة ومعزولة عن حركة الواقع ومناخاته الاجتماعية والثقافية، ففضاء الحركات الإسلامية في النهاية فضاء سياسي ولاپبد من قراءة صلتها بالواقع لفهم اضطراب علاقاتها ببعض الدول العربية". ومبعث هذا الاضطراب في نظري يعود الى ثلاثة أسباب: الأول: هو انفصال العقيدة الدينية عن النظام السياسي للحكم في فلسفة الديموقراطية الغربية المطبقة عملياً في واقع الدول العربية والإسلامية الدائر فيها هذا الصراع، وهو الأمر الذي يتناقض مع التصور الإسلامي الذي يرتبط النظام السياسي فيه بالعقيدة رباطاً عضوياً. الثاني: الرؤية الفكرية الى العمل السياسي الدعوي عند هذه الاتجاهات من حيث انتسابه الى العقيدة الثابت غير القابل للاجتهاد أم الى الفقه المتغير القابل للاجتهاد. ثالثاً: اختلاف هذه الاتجاهات حول الجدوى الواقعية لمصلحة الدعوة من العمل السياسي في إطار النظم الديموقراطية القائمة. فللسبب الأول لا تستطيع أي من الاتجاهات الإسلامية قبول الديموقراطية القائمة قبولاً مطلقاً لأن العقيدة الإسلامية لا تسمح أن يُحكم المسلمون ممن لا ينتمون لعقيدتهم في دولة يشكلون فيها الأغلبية ومن ثم فموضوع تداول السلطة بين مسلمين وغير مسلمين يمثل مساساً بتلك العقيدة. وإن كان موقف الجهاديين من ذلك موقفاً جهيراً فإن الإخوانيين لا يختلف موقفهم كثيراً عن ذلك، ولكنهم يفضلون الصمت بهذا الشأن، ولهذا تلحظ الحرج الشديد في موقف قادتهم عند سؤالهم عن مدى قبولهم لوجود أحزاب شيوعية يمكنها أن تتولى السلطة في ظل الديموقراطية القائمة، حيث يتراوح موقفها في الإجابة عن ذلك بين الصمت والمراوغة، بل وأحياناً الرفض المعلن. ولا يقدح في ذلك بروز فئة جديدة من الإسلاميين المعلنين في المرحلة الأخيرة تقبل بكل ما هو قائم فعلاً تحت دوافع براغماتية مبتعدة عن جذورها الاصولية تدريجاً ولا تعبر عن تمثيل نسبي حقيقي في الشارع الإسلامي، لجهة عدم اختلاف توجهاتها عن النظم القائمة إلا في الشعار المعلن. وإذا نظرنا الى الصورة المعايشة أي الى الواقع العملي للديموقراطية الغربية ذاتها نجدها تتخذ موقف الإسلاميين نفسه، فلا توجد دولة في العالم تقبل أن يتولى سلطتها رجل ينتمي للعقيدة الإسلامية في دولة ذات أكثرية مسيحية. وفي تركيا أكثر الدول الإسلامية انتماءً الى الديموقراطية الغربية لا تقف السلطات العلمانية حائلاً فقط بين أي إسلامي والوصول الى السلطة ولكن بينه وبين التعبير عن المظاهر العملية لانتمائه العقائدي. وبالنسبة الى السبب الثاني، فإن الإخوانيين - لأنهم يلحقون العمل السياسي الدعوي بالفقه المتغير القابل للاجتهاد لا بالعقيدة - يقبلون الدخول في العمل السياسي في ظل النظم الديموقراطية القائمة من باب فقه الضرورة أو المناورة أو الحيلة على أساس أن غالبية المجتمع لا ترتضي غير المرجعية الإسلامية بديلاً ومن ثم فإن الواقع العملي للتعددية الديموقراطية القائمة لن يسمح بالضرورة عند الانتخاب الحر بتولي السلطة لغير الاحزاب التي ترتضي المرجعية الإسلامية. أما الجهاديون، فلأنهم يلحقون العمل السياسي الدعوي بالعقيدة لا الفقه، يتجمدون عن التصورات الحرفية المثلى للقيام بالدعوة من دون اعتبار لإمكان تطبيقها العملي، ومن ثم يرفضون المشاركة السياسية في ظل النظم الديموقراطية القائمة وإن كان حدث تطور خطير في هذا الشأن في ما يتعلق بالفئة المؤسسة لحزب "الشريعة" الذي أعلن تأسيسه أخيراً في مصر، وهو تطور يقتضي إفراد حديث خاص له. وبالنسبة الى السبب الأخير الجدوى الواقعية من المشاركة السياسية في ظل النظم الديموقراطية القائمة فإن الجهاديين يتخذون من الفشل المتتالي للجهود الإخوانية للصعود الى السلطة من خلال المشاركة السياسية في ظل الممارسات الإقصائية التي تمارسها السلطات القائمة سنداً لهم في التأكيد على صحة موقفهم الرافض للمشاركة السياسية، بل والسخرية من التوجهات والجهود الإخوانية عموماً، فالممارسات الاستبدادية للنظم القائمة تشارك مشاركة كبيرة في منح الصدقية الشرعية التي تعتمد عليها الحركات الجهادية في توجهاتها. أما الإخوانيون فلا يجدون في ظل المناخ الواقعي الحالي مناصاً من الدخول في المعترك السياسي مهما كانت الممارسات التعسفية الموجهة ضدهم لأنهم بعد خيارهم لنبذ العنف الأمر الذي اقتضته خبراتهم الطويلة في الصراع السياسي مع السلطات القائمة فإن المشاركة السياسية تمثل المبرر الأكبر لشرعية وجودهم على الساحة الإسلامية والذي يستمدون منه زعامتهم ودورهم التاريخي. ولكن هناك أمراً آخر مهماً لا ينتبه اليه الباحثون غالباً يدعم موقف الإخوان هذا، ويضفي عليه مشروعية كبرى. هذا الأمر مؤداه ان الحركات الإسلامية وفي طليعتها الإخوان حركات دينية في الأساس تستهدف الدعوة لدين الله وهو الأمر الذي تهيئه المشاركة السياسية وما يصاحبها من نشاط إعلامي لهذه الجماعات خصوصاً. ومن ثم فعدم بلوغ الإخوان الى السلطة لا يعني إنعدام انجازاتها على مستوى الدين للدعوة في الواقع المعاش، بل إنهم من هذا المنظور قد يكونون حققوا ما لم تحققه أي من الحركات الإسلامية الأخرى لدى الشارع الإسلامي. هذا هو الفحوى الحقيقي وراء كل ما تصدره الحركات الإسلامية المختلفة من البيانات والبرامج عن المسألة الديموقراطية، وهي بصدد واقع سياسي محدد تريد أو لا تريد المشاركة فيه، فالأمر لا يمثل هنا سوى برمجة تأويلية للموقف السياسي الذي تستهدفه من دون أن يمثل موقفها الشرعي الحقيقي من جوهر الديموقراطية المشار إليه، والذي لا يصح التماسه إلا من الكتابات التنظيرية لمفكري هذه الحركات. * باحث مصري.