في القاهرة التي لا تعرف النوم، تتحول الليالي الغنائية الى زمن خاص بلا حدود، تسود فيه لغة لا يعرفها الا من يحسن ولوج تلك الطقوس في هذه المدينة العجيبة. وقد بات الخميس الاول من كل شهر موعداً لهؤلاء مع "فرقة الطنبورة" البورسعيدية التي جاءت حاملة غناءها العابق برائحة البحر... غناء يقظ تتفاعل فيه الهويات الى حد الاندماج، ويأتي من الحناجر محملاً بميراث شاهد على زمن "المقاومة". وفي المخيلة ترقد صورة جمال عبدالناصر، وتثبت الزمان كله ليبدو "ايقونة" تعطي اللحظة شيئاً من القداسة. وفي مسرح "التاون هاوس" الواقع في وسط المدينة يتحول الطقس الى موعد لعشاق الفرقة بعدما ضاقت بهم القاعات الرسمية ولم يعد امامهم الا المسرح الذي كان "كاراجاً" للسيارات فبات ساحة للتفاعل. وقبل أيّام أحيت "الطنبورة" حفلة جديدة اضافت إليها الاجواء الرمضانية سحراً خاصاً اتى بجمهور ربما كان يشاهد الفرقة لأول مرة، والدليل الى ذلك كون اغاني الفرقة هي وليدة ايقاعات كما يقول زكريا ابراهيم عقل الفرقة المفكر، وهو يفسر تجاوب الجمهور مع الفرقة أو يشير الى معنى مهم يغيب في زحام الطقس... وهو ان الفرقة ورثت هذا الايقاع من تفاعل ابناء بورسعيد مع شعوب المتوسط. هكذا امتزجت غنائيّة "الضمة" وايقاعات الذكر، بتراتيل المتوسط... الى جانب وقار ادوار العشق الروحانية التي تقدمها الفرقة احياناً مع بعض الأدوار والموشحات. ولا ينبغي أن ننسى الطابع الساخر الذي يطبع الاداء أحياناً. ونذكر أغاني "الطنبورة" الشائعة مثل "شفت القمر على صدر جميل" و"نوح الحمام واه يا لالي يا لالي"، وغيرها. وفي حفلة "تاون هاوس" الاخيرة حرصت الفرقة على الاختتام بأغانٍ تنتمى الى خمسينات المقاومة الشعبية في مدينة بورسعيد مثل "غني يا سمسمية" او "في بورسعيد الوطنية" التي تحيي عبد الناصر كأنها تطلق حناجر ابناء التسعينات وما بعدها ضد سنواتهم التي تتوالد فيها النكبات. وكان من اللافت للنظر ان الجيل الرافض لبلادة الأغاني الوطنية الرسمية، هو ذاته المتفاعل مع اغانٍ تأتي إليه طازجة مملوءة بحيوية اكبر من معنى الاحتجاج، هي حيوية الراغب في الاكتشاف والاحتماء بنبرة مقاومة على رغم ما فيها من جروح وانكسارات... لذلك لم يكن غريباً ان تنجح الفرقة في بيع كمية كبيرة من شريط الكاسيت اليتيم الذي انتج العام الماضي، ويضم اغاني الفرقة. ولم يكن غريباً أيضاً ان تحرص فئات عدة من الجمهور الذي اختلطت فيه جنسيات وشرائح عمرية مختلفة على التعرف الى الفرقة في شكل اكثر وقراءة "بيانها الذي يشير الى معلومات أولية عن الفرقة التي تأسست عام 1989 وعرضت فنونها المتجولة في غالبية الاقاليم المصرية الى جانب عواصم ومدن عربية منها عمان وجرش... وصولاً إلى روما وفلورنسا وباريس التي شهدت ميلاد اول اسطوانة للفرقة من انتاج "معهد العالم العربي" قبل ان تنال جائزة المهرجان الدولي للموسيقى في كندا، وتشارك في مهرجانات ربيع الفنانين في مونبولييه في فرنسا ومهرجان الشتات ومهرجان مسرح الواقعيات في باماكو مالي. ويشير البيان كذلك الى مجموعة من الافلام الوثائقية والتسجيلية التي اعدت عن الفرقة ابرزها فيلم من انتاج قناة arte الفرنسية - الالمانية وفيلم "7 ليالي وصبحية" للمخرجة عرب لطفي من انتاج التلفزيون المصري عام 1998.