منذ ايام الفراعنة ادرك المصريون ان التجديد انواع، فثمة تجديد يندفع بصاحبه الى امام، يتطور به من المطبة الى الرم المدرج الى هرم خوفو المعجزة. وتجديد آخر اكتفى به الكسالى من الفراعنة، يتركون القديم على قدمه، ويمحون نقوشاً قديمة لتأتي مكانها رسوم جديدة. ثم هناك الابتكار الذي يمارسه حزبنا الحاكم - أو المتحكم - وهو الاستمرار من دون توقف في ترديد انشودة التجديد من دون جديد جدي. ولكي نكون منصفين يتعين ان نقرر أن مجرد ترديد شعارات التجديد، هو في ذاته تعبير عن اكتساب فهم جديد لضرورة التغيير في هذا البناء الذي أصيب منذ زمن بشيخوخة مبكرة. تماماً مثل تكرار الحديث عن تعزيز الديموقراطية والتعددية. لكن الفيصل هنا هو في مدى توافر الارادة الحقيقية في منح الشعارات القدرة على التحول الى اهداف يجري استهدافها فعلاً. كذلك فإنه من المستحيل ادارة عملية التغيير في الواقع العلمي من دون تغيير العقلية التي صنعت او جرى تصنيعها عبر آليات التسلط والفرض والاستهتار، والاستناد الى أجهزة الادارة والأمن في ادارة الدولة. ومثل هذه العقلية التي تتحدث عن تخلصها من فكرة "الحزب الواحد" تجد نفسها مغموسة حتى آذانها في فكرة "الحزب السيد"، اي الحزب الذي يتفضل على الآخرين بفتات مما لا يمتلك فيما يتوحش في الاستيلاء على كل ما هو مفترض ان يكون ملكاً للوطن وللجميع. وكنموذج لهذه العقلية يمكن تقديم أمثلة عدة. اذ استبق الحزب الحاكم انتخابات المحليات بتعديل في التشريع يلغي الاشراف القضائي عليها متذرعاً بالصعوبات العملية وواعداً بأن تتمتع هذه الانتخابات بالشفافية، لكن الوعود تحولت الى وعيد، وانتهز الحزب فرصة غياب القضاء للقضاء على العملية الانتخابية برمتها واستولى في حال محمومة من الجشع على كامل المقاعد ال40 ألفاً. والمثال الاخر يصاحب دوماً مؤتمرات هذا الحزب. اذ تتحول الصحف القومية والقنوات التلفزيونية التسع والفضائيات المصرية وكل قنوات الاذاعة التي لا نعرف عددها الى مسرح يلعب عليه الحزب ورجاله طوال الوقت. وينسى القائمون على الامر ان هذه الادوات جميعاً ليست ملكاً لهم. والغريب انهم في غمار هذا الاستحواذ الجشع على أدوات اعلام مملوكة للشعب يتحدثون عن تعزيز الديموقراطية والتعددية وتعزيز العمل الحزبي، ناسين أن عقلية "الحزب السيد" تجعل منهم كناظر مدرسة يمر في ترفع على اطفال المعارضة الجالسين في دار الحضانة. واستمرار هذه العقلية التي تستهل العبث بالقواعد والقوانين هو في ذاته نقيض كل ما يقال. ويقترب من ذلك هذا الحديث الذي يدعو الى الحوار مع أحزاب المعارضة. وبالطبع نحن نرحب بمثل هذا الحوار وبأي حوار شرط أن يكون جاداً، وأن يكون فيه فهم وتفهم وقدرة على التفاهم، وليس اشهاراً لمواقف حضرة الناظر... وحسب. اذ اننا دخلنا هذه التجربة مرتين، في "المؤتمر الاقتصادي" وفي "الحوار الوطني". وفي كلا المرتين طويت صفحة الحوار، وتم تناسي النتائج. مرتان... وهذه الثالثة، والمصريون يقولون "الثالثة ثابتة" اي أنها الفرصة الأخيرة. على أننا لا نعتقد في جدوى الحوارات المنغلقة في غرف مغلقة. ونطمح ان يبدأ الحوار على صفحات الجرائد القومية وعلى أثير الاذاعات والقنوات التلفزيونية بأمل اشراك الجماهير في هموم الوطن. ولا يعني ذلك اننا نضع شروطاً وانما نقدم افضلياتنا. على أن أغرب ما يحيرنا هو اننا نتعامل مع كائن يتحرك ويتعايش، بل ويستمد قدرته على العيش، من قديمه لنفسه عبر قسمين ملتصقين كالتوأم السيامي: واحد يتكلم ويعد ويقول ويقترح، والآخر يفعل العكس تماماً. ويبدو أن لكل من القسمين ضرورته: الكلام ضروري والحديث عن رغبات وأمنيات ومشاريع تعبر بنا عبر قارب الديموقراطية الى شواطئ الامل والرفاهية، والقسم الآخر ينفذ العكس تماماً. والأمر الغريب ان الحزب الحاكم لا يدرك خطورة استمرار هذا الكائن السيامي. فمؤتمره السنوي يذكرنا بالقمم العربية السنوية، تتالى وكل منها يصدر قرارات ويعلو صوته بالشجب ثم تنفض القمة ولا يتحقق شيء. ويسير الحزب الحاكم على الدرب نفسه. ففي مؤتمره السابق العام الماضي صدرت قرارات اقتصادية حاسمة: ضبط سعر الصرف والتحكم في الاسعار والتوازن بين الدخول والأسعار وخفض الدين العام... إلخ، ثم انسحب النصف المتكلم ليترك النصف الآخر الذي فعل العكس تماماً: جن جنون سعر الصرف، والتهبت الاسعار، وتضخم التضخم، وزاد الدين! ولم يستشعر المؤتمر التالي أي حرج في ذلك، بل امتدح الحكومة على ما فعلت!. باختصار أن نظرية التوأم السيامي مجدبة وغير مجدية، بل هي على المدى الطويل ضارة بأصحابها. على أن ذلك كله لا يعني أنه لا جديد، هناك جديد: هو استشعار ضرورة التجديد، واستشعار الحاجة الى حياة حزبية اكثر فاعلية وديموقراطية اكثر رحابة. وهناك ان البعض في الحزب الحاكم يسعى فعلاً نحو الجديد وان اتخذ مسلك استخدام القديم كأداة للتجديد، وهو مسلك لا يجدي. فالأشخاص هم أنفسهم والعقلية ايضاً، عقلية "حضرة الناظر" أو "الحزب السيد" وهي عقلية طاردة وغير ممكنة الوجود في ظل المعطى المصري الحالي، تماما كفكرة التوأم السيامي. ويبقى أن نقرر أن الأمر ليس سهلاً لا عليهم ولا علينا، فإن عبارة كينز الشهيرة "أن الدعوة الى الجديد أمر صعب أما التخلص من القديم فهو أمر شديد الصعوبة". هذه العبارة تحلق فوق رؤوس الجميع في دول العالم الثالث وما من مخرج امامنا وأمامهم الا أن نحاول ونحاول ونصمم وأن نمتلك ارادة التغيير الجاد والعاجل والحقيقي. فهل يمتلكونها حقاً؟ تلك هي القضية. * الأمين العام لحزب "التجمع" اليساري المصري المعارض.