يخبىء سمير الصايغ جديده شعراً ورسماً ويصبر عليه ويتأنى في كتابته وتنميقه قبل أن يطل في معرض يُخرج به إلى العلن ما طواه في سريرته وما أنجزه في عزلته. وهو في معرضه الجديد في غاليري "أجيال"، متنوع في اختباراته ومواده وسطوحه التصويرية، ومتجدد في طروحاته الجمالية ومساءلاته للتراث الخطي والزخرفي في الفنون الإسلامية. ثمة مسار خفي يربط هذه التجارب التي يفوق عددها العشرين رسماً وتشكيلاً على الخشب والورق بالحبر والغواش والأكريليك وتقنيات التذهيب، التي تدخل على متونها الحفر الناتئ والتجويف الغائر. فهو في مقارباته للمساحة يعتمد على تأليف هندسي مستلهم من مفردتين هما المربع وثلثه المقتطع منه أي المثلث. وفي هذه المقاربات تنجلي تنوعات لا حد لها من التراكيب الهندسية التي تجمع بين الخط والزخرفة، في بناء قويم يمنح العنصر البصري جماليته البارزة. فقد عمل الصايغ على ثنائيات وثلاثيات من عبارات بسيطة ليست إلا متواليات للبسملة والسلام ونور على نور واسمي الإشارة هو وهي. وهي قسم من المعرض أما القسم الثاني فهي عبارة عن لوحات "مينياتورية" مقطوفة من أجزاء لحركات الحروف، وهذه التجارب الأخيرة تزين كتابه الشعري الذي حمل عنوان "ذاكرة الحروف". اللافت في معرض الصايغ هو الجانب التلويني في شخصية الرسام الحروفي، فهو يستبعد التذهيب التقليدي ذي اللمعان الأصفر المتوارث في ذاكرة الفنون البصرية الإسلامية، ويستبدله بألوان الذهب التي تمتلك قابلية التخضيب مع اللون الصناعي، مما يعطي الطبقة اللونية مظهراً لامعاً بخفر، ومصقولاً بفضل الطبقة الواقية اللزجة التي عادة ما تستخدم في طلاوة سطح الخشب. وفي خوضه في غمار اللون يميل إلى الاشتقاقات اللونية الحارة للقرمزي أو درجات الرمادي غير البعيدة من ذاكرة الحبر. غير أن ملوانة الصايغ لا تتعدى اللونين في تحقيق تدرجات ظاهرة ذات جاذبية مضافة إلى عنصر التوليف البصري للأشكال الهندسية. فإذا تأملنا في لوحة نور فسنجدها مكتوبة على حقلين متجاورين مرة في شكل صحيح ومرة في شكل مقلوب، فالقراءة البصرية من اليمين إلى اليسار ثم من اليسار إلى اليمين تمنح الشعور بأن النور يلف الأرض بلا اتجاه وبلا أجل محدد. فالجزء هو الكل والكل هو الجزء في مبدأ قوامه الوحدة. من هنا تستمد أعماله متانة تراكيبها وغنى احتمالاتها وتعددها وتوالد مفرداتها على نحو متشابه وغير مشتبه. لعل الجانب الحِرَفي والمتميز في عمل سمير الصايغ، يظهر في طريقة العمل على تقطيع الحرف من خلال خرط الخشب إلى أجزاء هي بمثابة مفردات، ثم يقوم بتوصيلها ضمن منطق رياضي هندسي يصل فيه إلى معادلات فنية وأشكال مبنية من تجاور المثلثات الصحيحة والمقلوبة وما ينشأ بينهما من حوار في لغة التجريد نفسه. وهو بذلك يحقق المنهج الأساسي لوظائفية الفنون الإسلامية التي تجمع بين الفن والحرفة وكذلك بين الفكر وتطبيقاته العملية. وهذا المنهج الذي تبنته مدرسة الباوهاوس في مقابل الفردانية الخانقة التي كان يعيشها الفن في الغرب، بعيداً من الوسائل التي تحيط بعين الإنسان في حياته اليومية. اتخذت أعمال الصايغ على الخشب أحجاماً متنوعة منها المربعات التي تدنو من مفهوم اللوحة التشكيلية، ومنها المستطيلات التي تذكر بالحشوات الزخرفية التي تدخل عادة في تزيين المساجد والمدارس بأشكال الرقش والتزيين في فنون العمارة العربية. وفي هذه الأعمال يرسل الصايغ قريحته في تشكيل الحروف بمداد هو العاطفة والمزاج والتبصر كما يقوم بتركيب عالمه الهندسي بما ملكت يداه، ويغوص في اختباراته وتقصياته الشكلانية كمن يؤسس لبنية جمالية راسخة أو لنظرية هي خميرة معرفة عميقة وانتقائية للتراث، الذي ما برح يسبر أغواره و عيد قراءته وتقويمه، باحثاً عن الأسرار الخفية للنظام. النظام الآتي من التوالد والانسجام. لذلك نراه ينكب على الخط الكوفي من دون سائر الخطوط، بعدما يجرده من كل أشكال التوريق النباتي، معتمداً على خصائصه الهندسية الخالصة المجردة من شوائب الزخرف، وما يمنحه من احتمالات بامكانها أن تشكل إسقاطات لرؤية محدثة. وذلك بإحساس من يستعيد حكايات المجد الضائع للكوفي. فقد أثار انتباهه أن الخط الكوفي تحديداً لم تكن غايته التواصل اللغوي، بمقدار ما كان تعبيراً زخرفياً، كفن حقيقي بكل ما ينطوي عليه من هندسيات رائعة في لغتها البصرية ونظامها الرياضي الذي أدهش الغرب. من هنا عالميته لأنه مبني على أسس عميقة لمفهوم الشكل والنسب والكبير والصغير والرفيع والسميك والغائر والظاهر والمعشق الدائري والمربع المعين. فالتنوع المدهش للطراز الكوفي لا يدل على عفوية بل على تصميم وتفكر وفلسفة دينية. إذ يعتبر الصايغ أن عبقرية هذا الفن هو قدرته على ترجمة الرؤية الدينية بلغة فنية مركبة ومشغولة إلى ابعد الحدود كي تليق بآيات الوحي. لذلك كان عليه ان يرتقي ليشمل الرؤية الإنسانية الكبيرة التي لا يحدها زمن. فقد انتقلت الحضارة العربية على مر تاريخها الطويل من حضارة شفوية إلى حضارة كتابية وكان ابن مقلة هو مفصل أساسي في النهج المضبوط لقواعد الخط. إلا أن مزاولة الكتابة لتحقيق المعاني اللغوية أدت شيئاً فشيئاً إلى تراجع الكوفي الذي أخذ بالاضمحلال في الحقبة العثمانية، وطغيان اللغة على الفن شكلاً وقالباً. يقول الصايغ: "أرجع لهذا الأول غير القابل للانقسام. من هذا المكنون الصغير الذي يقربني من خصوصية هذا الفن وحميميته وهمسه الأول، لفرط ما تراكم عليه من غبار وحجب لا نستطيع معهما أن نرى الكل". سمير الصايغ في مقاربته يرينا ما يرى، ويسمعنا ما يسمع، مخاطباً الحروف كأمة من الأمم - بحسب تعبير ابن عربي - مستوحياً في كتابه حال الحرف عند كتابته من خلال توجيهات المعلم للمريد. فالكتاب ما هو إلا مخطوط عكف الصايغ على كتابته بكل ما يحمله نصه الشعري من تأثيرات التوغل في ذاكرة كبار الخطاطين العرب. ولكنه يبتكر للحرف فضاء مؤاتياً لسفر الطريق مبللاً بالبياض ومليئاً بالدهشة والغرابة، فيه عصب اليد ونبض القلب فيه انكسار الغصن وبهجة الطيران. في "حوار بعد حين" يقول: لا تشد بأصابعك على القصب بل شد على الحبر/ لكنه طري كالماء خفيف كالهواء/ شدّ على الطراوة يستقيم أفق وتتوازن الكواكب/ غداً شدّ على البياض.