يتقدم الناقد والشاعر سمير الصايغ في تجاربه الحروفية كي يصل إلى تأويلات عميقة الأغوار في استنطاق إمكانات الحرف العربي وطاقاته الجمالية وأبعاده الفلسفية، داحضاً كل النظريات التي تدّعي وصول هذا النوع من الفن إلى الطريق المسدود. فهو يمضي في تأملاته إلى ينابيع الشعر، بل إلى الاستعارات الشعرية في تكوين مفهوم جديد لليد التي تخط والعين التي ترى: «في الخط الحروف ملائكة تنزل إلينا من السماء، تهمس في آذاننا وتختبئ في أحلامنا. في الخط الحروف ملائكة تنزل لتأخذنا وتعود إلى السماء» في معرضه الجديد الذي يقيمه في غاليري أجيال (29 لوحة أكريليك على قماش وخشب) يكتب سمير الصايغ حروفاً بمعنى انه يرسمها رسماً لا من أجل أن تُقرأ بل من أجل أن تملأ فضاء اللوحة بتكوين ينشأ من علاقات هندسية - عقلانية معطوفة على جمالية التسطيح اللوني، وذلك في تعبير غرافيكي يتسم بالاختلاف في المظهر والجوهر، لكأننا نرى الحرف للمرة الأولى. فالحرف هو الأصل من الكلمة والحروف هي إمكانية بصرية قبل كل شيء، بمعنى أن رؤية الكلمة هي دوماً سابقة للمعنى. في هذا الاتجاه فكّك الصايغ السياق اللغوي للحروف بعد أن جردها من معناها، ثم تقدم ليفصل الحرف عن سياق الكلمة، ما جعل الحرف يتحول صورة مكتفية بذاتها وعناصرها ونظامها ومكنوناتها، كعالم مستقل متجرد من أي معنى قبل أن يكون تجريدياً بالمعنى الحداثي للتجريد. إنه الحرف كوحدة زخرفية أيضاً أو علامة لغوية أو شكل هندسي خاضع لنظام مبني على الدائرة التي تمثلها النقطة والتربيع القائم على الخطوط المزواة وتقاطعاتها. هكذا يتخذ كل حرف مشهدية صُورية جديدة، لها مدلولات وتأويلات. إنه إذاً التفكيك الذي سمح برؤية مغايرة من خلال السطوح المجزّأة للتكعيبية في الغرب، وهوالنسق الفكري الذي شرحه الفيلسوف جاك دريدا، نراه متمحوراً في أعمال الصايغ حول الحروف التي تتراءى له أجساماً لها أسماء وصفات: «في الخط النون بحيرة ونقطة النون قمر، والألف بداية والكاف كون». ولا يبتعد التفكيك عن أصوله العربية الأولى في الحروف التي استهلت بعض السور القرآنية، وهي حروف القَسَم: قسَم الخالق على المخلوق، والواجد على الموجود. إذا سلّمنا بأن ثمة مقاربة جديدة في مخاطبته للحرف آتية من تراكمات ثقافته المعرفية، فإن أعمال سمير الصايغ تقول أشياء أبعد من ذلك بكثير، وإذا اعتبرنا أن البعد الروحاني الخفي هو من أسباب قوة حضور الحرف، ظاهره وباطنه فإن ذلك أيضاً ليس كل المسألة، وإذا اعتبرنا اللوحة على أنها مكونات بصرية مؤلفة من الشكل الهندسي للحرف مع طلاوة لونية وقاعٍ ذهبي، فإن هذا التعريف يظل أيضاً قاصراً عن تحديد ماهية اللوحة في حلتها المعاصرة، كأنني اعترف بعدم الفصل بين حركة انبثاق الحرف واليد الحرة للكاتب، بشخصه وطقوسه وقريحته ومزاجه وتوقيعه اللحني، كما لا يمكن الفصل بين أحلام الرائي وحدائق رؤاه، في سعي دؤوب لا يكون فيه البحث عن الحرف إلا رديفاً للبحث عن ذات الفنان والدروب المفضية إليه. في مديح الحروف كتب سمير الصايغ عن الكوفي المربع، فوصَفه بأنه قمة الصفاء الهندسي أو التجريد الصرف، وواحد من التجليات الفنية الباهرة. فهو يتألف من نقطة مربعة سوداء ونقطة مربعة بيضاء تمضيان معاً، في رسم الحروف والكلمات، على شبكة هندسية تقوم على تقاطع خطوط الطول بخطوط العرض وأن تكون نقطة الالتقاء زاوية قائمة. فالمربع الكوفي ما هو إلا لغة هندسية لغة الطبع الإنساني وهي أصل كامن في جوهر الوجود. مع ذلك نستطيع تقييم تجربة الصايغ الأخيرة من منظار الحداثة، لنقول إنها تأتي بنوعٍ من التجديد، يتمثل من جهة بالتجريد الهندسي، ومن جهة أخرى بألوان البوب - آرت التي تتجاور جنباً إلى جنب مع أوراق الذهب (التي تذكر بالأيقونوغرافيا البيزنطية والزخرفة الإسلامية) في مزج غريب بين مذاهب الغرب والشرق وما يحدثه من صدمة أو دهشة للبصر، وكذلك بإمكاننا أن نشير إلى شكلانية الحرف نفسها التي تلتقي مع التجريد الذي يسمى في أميركا بتجريد ما بعد الرسموية Post painterly Abstraction وتجريد الحد القاسي، على الأخص تجربة فرانك ستيللا الذي أوصل الشكلانية الزخرفية بألوانها التناقضية وتقاسيمها الهندسية الى حال تتصف بالمينمال. الفرق أن شكلانية الغرب تتصف بالذهنية وهي ذات مبتغى بصري نابع من التقنية، في حين أن شكلانية الشرق منبثقة من علم وهندسة وجمال ونظام، في تناغم كليّ ليس إلا وسيلة لمسرى الروح. من الذاكرة إلى الجذور، تبدو علاقة سمير الصايغ بالحرف العربي، علاقة أصيلة ومتينة أشبه ما تكون بعلاقة المثقف بيومياته وذاكرته وزمانه ومكانه. إنها صحبة عمر حملت في طياتها مراساً طويلاً مليئاً بالاجتهادات والتنظير والمقاربات والتذوق الفني، حتى أضحى الحرف بمثابة الرفقة الأنيسة التي تجلت على محمولات متنوعة وعديدة، في مناخات من التجريب والمطاوعة والمحاورة واللعب واللهو والتزيين والتنميق والكتابة الارتجالية والأوتوماتيكية وتجارب الخداع البصري على طريقة الأوب - آرت والتجارب المنفذة على الكمبيوتر. من ابتكار إلى آخر، تصل اللوحة في التجارب الأخيرة إلى رؤية جديدة للحرف، كصورة أو مفهوم أو وحدة أو مفردة. والرؤية من طريق العين هي مصدر أساسي لتذوق الفن الإسلامي على وجه الخصوص، ومن باب هذه الرؤية يأخذ التأمل بفيض الامتلاء.