أثار تعيين السيد هوشيار زيباري وزيراً لخارجية العراق ردود فعل متباينة. واعتبر البعض هذا التعيين علامةً إيجابية على سلوك الدولة الصحيح في الإنفتاح على القوميات المؤلفة لنسيج المجتمع العراقي فيما رأى بعض آخر في الأمر، إشارة إلى ضعف الحكم وخوضه في سبيل خطير. وقوام هذا السبيل تفتت الدولة وتضعضع الكيان وتحلل الجسم. وفي الحالات جميعاً فإن رسم شخص كردي في هيئة وزير خارجية لدولة عربية، طالما تغنى القائمون على شؤونها بالعروبة كغلبة للقومية العربية وإنتصاراً للعنصر العربي، اعتبر ظاهرة غريبة في المشهد السياسي العراقي خصوصاً والعربي عموماً. والواقع أن ليس في الأمر شيئ عجيب. مرد الأمر أن الذهنية السياسية السائدة هنا تأثرت إلى حد بعيد بالمنظور العنصري الذي شيّده حزب البعث العربي. وكان صدام حسين صاغ هذا المنظور صياغة مؤذية إلى أبعد الحدود. فالحكومات العراقية ضمت وزراء أكراداً منذ قيام الدولة العراقية على يد الإنتداب البريطاني. وبالمقابل لم تكن مطالب الأكراد تتلخص في تعيين وزير كردي أو وزراء عدة في الحكومة المركزية بل هي تمثلت على الدوام في ضرورة اعتبار العراق وطناً مشتركاً للعرب والأكراد والقوميات الأخرى بحيث تتحقق المساواة بين الجميع وتزول نوازع التمييز. ولم تكن التمردات الكردية المتلاحقة سوى رد فعل على تقصير الحكومات المركزية في تطبيق هذا المطلب إلى حد أن الشيخ محمود الحفيد شعر باليأس وقرر رفض الإنضمام إلى الدولة الموحدة التي أراد البريطانيون تأليفها من ولايات البصرة وبغداد والموصل. وإذ رأى الحفيد لجوء سلطة الإنتداب البريطاني إلى وضع مقاليد الحكم في يد حاكم عربي الملك فيصل عمد إلى إعلان نفسه ملكاً على كردستان. وقاطع الأكراد في المناطق الكردية في كركوك والسليمانية على وجه الخصوص الإستفتاء الذي أقيم بشأن القبول بسلطة الملك فيصل. عارض البريطانيون طموح الشيخ محمود الحفيد معارضة شديدة. وحين أعلن هذا الأخير التمرد عمد سلاح الجو الملكي البريطاني إلى قصف المواقع الكردية واضطر الحفيد إلى الإستسلام ونفاه البريطانيون إلى الهند. وبعد ذلك انتقلت زعامة الحركة الكردية إلى يد الملا مصطفى البارزاني. وفي الحكومة التي ألفها نوري السعيد في 25/12/ 1943 شغل الأكراد ثلاث وزارات هي وزارة العدل والداخلية ووزارة أخرى للشؤون الكردية. وتمثلت إحدى مهمات الوزارة الأخيرة في الإتصال بالملا مصطفى البارزاني لإقناعه بوقف العصيان المسلح والرضوخ لسلطة الحكم المركزي. وكانت مطالب البارزاني تتمثل في تشكيل ولاية كردستان واعتبار اللغة الكردية لغة رسمية في الولاية وإعادة المبعدين وإطلاق سراح السجناء وممارسة الولاية لحكم ذاتي داخلي في ما يتعلق بالشؤون الادارية والثقافية فيما تبقى الأمور العسكرية والخارجية والمالية في عهدة الحكومة المركزية. وكما هو واضح فإن هذه المطالب كانت أقرب إلى صيغة "الفيديرالية" التي ينادي بها الأكراد الآن. ولم تكن الوزارات التي شغلها الأكراد ضئيلة الأهمية العدل والداخلية. وكان يمكن للأمور أن تتحسن وترقى إلى مصاف تفاهم كامل بين الحكومة الملكية والأكراد لو لم تجرف الموجة الشعبوية المناهضة للملكية الجميع. والغريب أن الأكراد كانوا متحمسين للوقوف إلى جانب الأحزاب القومية العربية الإنقلابية الداعية إلى إسقاط الحكم الملكي ومناهضة "الإستعمار والرجعية والإمبريالية الأميركية". وعند قيام الضباط العراقيين بزعامة عبد الكريم قاسم بالإنقلاب الدموي الذي أطاح الملكية وقف الأكراد مع الإنقلابيين وساندوا مسعاهم. وعبر البارزاني عن دعمه الكامل لقاسم وحكومته عبر برقية تهنئة إلى "سيادة قائد الشعب العظيم الزعيم الركن عبدالكريم قاسم". وفيها أكد البارزاني "باسم الشعب الكردي على مواصلة النضال في سبيل تدعيم كيان هذه الجمهورية وصيانتها بالتضامن مع أخواننا العرب ضد جميع محاولات الإستعمار وعملائه". وعلى غرار مجلس الحكم الإنتقالي القائم الآن تألف مجلس قيادة للثورة بزعامة عبد الكريم قاسم، وكان على هذا النحو: محمد نجيب الربيعي وهو عربي سني، ومحمد مهدي كبه وهو عربي شيعي، وخالد النقشبندي وهو كردي. كما ضم مجلس الوزراء وزيرين كرديين هما بابا علي شيخ محمود ابن الشيخ محمود الحفيد ومحمد صالح. ليس أمراً جديداً، إذن، قيام الحكم المركزي بتأليف المؤسسات بطريقة تتوزع فيها المقامات الحكومية على القوميات القائمة في العراق. وليس جديداً، أيضاً، تمتع الأكراد بحقائب وزارية. وقد استمر هذا التقليد حتى في ظل سلطة صدام حسين. وبعد اتفاقية 11 آذار 1974 بين حكومة البعث والأكراد أحدثت وزارة سميت "وزارة شؤون الشمال" اسندت إلى الكردي سامي عبد الرحمن. وكان الدستور العراقي الذي وضع عقب انقلاب تموز أشار إلى أن دولة العراق تنهض على أساس المساواة بين العرب والأكراد الذين هم "شركاء في الوطن". وبدورها فإن حكومة عبد الرحمن البزاز أكدت ضرورة تمتع الأكراد بنوع من الحكم الذاتي في سياق حكومة لامركزية. والحكومات المتعاقبة للقوميين العرب والبعثيين عبد السلام عارف، أحمد حسن البكر، صدام حسين استمرت في الإنشغال بالشأن الكردي وأعطت مساحة لا يستهان بها للعلاقة التي ينبغي أن تقوم بين الحكم المركزي والأكراد. لم يكن الحضور الكردي في الميدان السياسي العراقي ضئيلاً منذ البدء، كما لم يكن الصوت السياسي الكردي هامشياً أو طارئاً. ولكن على رغم حالات التقارب التي بلغت أحياناً درجة الإتفاق النهائي وتكرست في إتفاقات ومواثيق مكتوبة، فإن العلاقات انحدرت في كل مرة إلى أسفل وإنهارت الأمور حتى وصلت، مع سلطة البعث وصدام حسين، إلى نقطة أحرقت فيها الجسور وبدأت سيرورة رعب فظيعة كادت تتحول إلى عملية إبادة واستئصال نهائية. والآن، هوذا عهد جديد يبدأ مع مجلس حكم انتقالي يضم الأكراد على أرفع مستوى. ما الذي يجعل الأشياء مختلفة الآن عن الحقبات السابقة؟ ما هو ضمان ألا يكون الواقع الجديد حلقة أخرى من حلقات الإلتقاء التي انتهت، على الدوام، بسوء الفهم وتخضبت بالدم؟ لماذا ينبغي أن ينظر واحدنا إلى تبوؤ هوشيار زيباري، الكردي، موقع وزارة الخارجية العراقية كعلامة على مستقبل جديد لن تعود فيه الأشياء إلى الوراء ولن تتدهور العلاقة بين المركز والأكراد بحيث تبدأ مسيرة جديدة من النزاع والتناحر؟ هناك الكثير من العوامل السلبية الموروثة من الحقب السابقة. ومثل هذه العوامل كانت تنهض كل مرة وتكبح جهود التفاهم. وهي تقوم في الداخل والخارج على السواء. باستثناء بعض الشخصيات والأحزاب العراقية، العربية، فإن المطلب الكردي في الفيديرالية أي الإتحاد الإختياري مع العرب يقابل بالرفض، علناً أو في السر، ويفسر تفسيراً تآمرياً بكونه غطاءً لنيات مضمرة. ويمكن لواحدنا أن يتساءل عما كان يمكن أن يحصل لو أن الأكراد طالبوا بضرورة تمتعهم بحق تقرير مصيرهم بأنفسهم الذي يتضمن، بداهة، حقهم في الإستقلال وبناء كيانهم السياسي الخاص. وعلى حدود العراق تقف الدول المجاورة مستنفرة إلى أبعد الحدود، تراقب كل تحرك كردي. وهذه الدول مهيأة لأن ترتكب الحماقات من أجل الحيلولة دون تحسن الحال الكردي على نحو يؤهل الأكراد لأخذ أمورهم بأيديهم. وتقوم الحكومة التركية بالدور الأساس في هذا الميدان. والحال أن الشأن الكردي بقي، منذ تأسيس الدولة التركية وإلى الآن، بمثابة الغصة التي تعلق في حلقوم الدولة التركية فلا تستطيع أن تبلعها ولا أن تلفظها. ولا يقصر القلق التركي المزمن على أكرادها في كردستان تركيا بل هو يمتد ليشمل الأكراد أنى كانوا. وسبق لمسؤول تركي أن قال أنهم لن يرضوا عن دولة كردية ولو قامت في الأرجنتين. والاتفاقات التي تحققت بين الحكومات العراقية المتعاقبة والحركة السياسية الكردية كان يمكن لها أن تدوم ويتحقق التفاهم لولا التدخلات السرّية من جانب الحكومات التركية التي كانت تخشى من آثار تلك الاتفاقات على الأكراد في كردستان تركيا. ثمة عامل سلبي آخر يبعث على القلق يتمثل في ما يسمى وضع البيت الكردي نفسه. حتى الآن لم يستطع الطرفان الكرديان الرئيسان اللذان يتقاسمان السيطرة على كردستان العراق التوصل إلى حل خلافاتهما ودمج حكومتيهما وتشكيل مؤسسات موحدة قادرة على تمثيل الأكراد بصوت واحد. ولا يعرف المرء كيف يمكن الأكراد أن يطالبوا بإتحاد فيديرالي مع العرب في العراق وهم أنفسهم عاجزون عن تحقيق الإتحاد في ما بينهم. لا يمكن نكران التقدم الذي حصل في الديبلوماسية الكردية في كردستان العراق في الفترة الأخيرة وقد ساعد استتباب الأمن الذي وفرته الحماية الغربية لما سمي المنطقة الآمنة، على توفير مناخ نما فيه الإحساس بالأمان وانتشرت لذة الحرية والتعبير عن الذات والتعددية في الآراء. وتخلصت السياسة الكردية شيئاً فشيئاً من التشنج الذي فرضته سنوات طويلة من الطغيان البعثي وأجواء القمع والكبت والملاحقة. وبات الخطاب الكردي يميل أكثر وأكثر نحو الهدوء والعقلانية وتبني الشعارات الواقعية والتخلي عن النزعات العابرة للدولة والإلتفات إلى واقع الحال الفعلي للأكراد بعيداً عن الخطابات الرنانة. ولكن رغم كل هذا فإن استمرار حال الإنقسام في الإدارة الكردية يعد بمثابة قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة. وبدورها فإن الحماية الأميركية للأكراد لا يمكن أن تدوم وهي لا تقوم بالأساس على مبدأ استراتيجي بل مرهونة بمصالح ظرفية وإعتبارات إقليمية. ويمكن لهذه الحماية أن تتقلص بل أن تندثر إذا ما حصلت تبدلات معينة في رؤية الإدارة الأمريكية وكذلك في علاقاتها مع الدول ذات العلاقة بالشأن الكردي تركيا أو سورية أو إيران أو كلها مجتمعة. لا يمثل تعيين هوشيار زيباري وزيراً لخارجية العراق معجزة إلا لأن ذلك يأتي في أعقاب سقوط دكتاتورية طاغية وعنصرية. ولو لم يُبتلَ العراق بالمصائب التي تدافعت منذ الإنقلاب الدموي الذي حصل في 17 تموز يوليو 1958 لربما كان من الممكن أن نرى اليوم هوشيار زيباري أو مسعود البارزاني أو جلال الطالباني أو أي سياسي كردي أو شيعي أو آشوري أو تركماني أو صابئي... إلخ رئيساً للعراق من دون أن يثير ذلك إنتباه، دع عنك استغراب، أحد. * كاتب كردي.