كان خبير الاستراتيجيا الأميركي روبرت كايغان قد نشر في ذورة الأزمة العراقية كتاباً يدافع فيه عن فكرة انهيار مفهوم "الغرب" وحلول شرخ دائم بين أوروبا والولاياتالمتحدة. ومن المرجح ان صاحب النظرية يشعر بكثير من الارتياح اذا كان يتابع النقاشات الدائرة حالياً حول مسودة الدستور الأوروبي. فهذه النقاشات، بل مشروع الدستور نفسه، حجة من الحجج التي يمكن له ان يستعملها لدعم نظريته. لنتذكر ان الاطروحة الرئيسية لكاغان تتمثل في إبراز التعارض، في مجال سياسة العلاقات الدوية، بين اختيارين: الولاياتالمتحدة اختارت، في رأيه، المنهج الهوبزي نسبة الى الفيلسوف الانكليزي توماس هوبز، بينما اختارت أوروبا المنهج الكانطي نسبة الى الألماني عمانوئيل كانط. هوبز كان يرى ان الانسان ذئب لأخيه الانسان، وان القوة وحدها هي التي تردع الميل الطبيعي للبشر للاعتداء والعنف. بينما كان كانط اكثر تفاؤلاً بمستقبل الانسانية، فآمن بأن المنشود اقامة سلام عالمي يقتضي سحب قواعد السياسة الحديثة الى مجال العلاقات الدولية ايضاً، كي تقوم هذه العلاقات بدورها على مبدأ السلام واحترام الآخر والتقيد بالمعاهدات والمواثيق. ويرى كايغان أن أوروبا والنظام القديم المرتبط بها، نظام الأممالمتحدة ومختلف الهيئات والمؤسسات المتفرعة عنها، اصبح مصنعاً لانتاج النصوص، بينما تنفرد الولاياتالمتحدة بصناعة الأحداث. واتهم مسار الوحدة الأوروبية بأنه السبب في ضياع أوروبا، فقد جعل له طموحاً ان يوحد مواقف بلدان مختلفة في مصالحها وتاريخها ورؤاها وامكاناتها، فأصبح همه الأكبر الوصول الى نصوص معاهدات مشتركة وإن خلت من النجاعة ولم تتمخض عن فعل. أصبح النص هو الهدف، على غرار فلسفة ما بعد الحداثة بمختلف تياراتها التي تلغي كل واقع غير الواقع النصي. مع الأسف، يبدو ان كايغان أصاب في هذه النقطة الأخيرة على الأقل. فأوروبا تعيش منذ فترة أزمة استثنائية: دور يقارب الصفر في كل الأزمات العالمية ومنها أزمة العراق وملف السلام العربي - الاسرائيلي، عجز عن الالتزام بموقف مشترك، وعن التفكير خارج الرؤية الاميركية، وعن اطلاق مبادرات ولو محدودة باسم أوروبا. القرار الأخير الصادر عن مجلس الأمن شاهد اضافي على ان اميركا تفرض ما تريد ولو بعد حين، ولا تقيم وزناً للانتقادات والاقتراحات الأوروبية. فغاية ما تنارلت عنه هو القبول بالتنصيص على تاريخ يكون موعداً للانسحاب لا يتجاوز بضعة اشهر، كما قبلوا بالاعتراف بالجيش الاميركي سلطة شرعية في العراق. شاهد آخر على هذا العجز اتضح مع القمة الأوروبية التي انعقدت في بروكسيل وبلغت الضغوط الاميركية خلالها حدودا قصوى ولم تنته بأي نتيجة واضحة. ولا تقتصر خيبات أوروبا على مجال العلاقات الدولية. فالوضع الاقتصادي في تراجع، بل يهدد بالانكماش في بعض البلدان مثل فرنسا، والضرائب في تزايد، وأنظمة الحماية الاجتماعية في خطر، والعلاقة بين المواطن والمجتمع السياسي علاقة متأزمة، والفكرة الاوروبية في تراجع، والعملة الاوروبية اليورو بلغت حداً مشتطاً من الارتفاع ينهك قطاعات اقتصادية عديدة، وضوابط التصرف السليم في الموازنات المالية كما وضعتها المجموعة الاوروبية لم تصمد امام ضغط الوقائع، ومؤشرات البطالة او العمل الهامشي عادت تتصاعد، الخ. يشعر المواطن الاوروبي بالاحباط والخيبة، وهناك كتب عديدة صدرت في فرنسا موضوعها الانحطاط الفرنسي، تلتها مناقشات في الصحافة وغيرها حول طبيعة هذا الانحطاط: هل هو نهائي ام حالة عرضية يمكن الخروج منها. وفي المانيا رفعت المحرمات حول قضية التوحيد بين الجزئين الشرقي والغربي، واصبح عادياً ان نقرأ مقالات تقول ان ذلك القرار كان خاطئا، وتحاليل تتهم الولاياتالمتحدة بأنها دفعت اليه لينهار الاقتصاد الالماني. وفي مناخ الاحباط والخيبة هذا، لا يجد السياسيون الاوروبيون الا مبادرة واحدة يطرحونها على الرأي العام، هي مشروع الدستور الاوروبي، وهو دستور لا يسمن ولا يغني من جوع ومجرد وثيقة تضاف الى وثائق عديدة تقرر الغايات والطموحات وتبقى حبرا على ورق. ماذا سيستفيد الاوروبي، خصوصاً اذا كان دون عمل، من المواطنة الاوروبية التي سيمنحها له هذا الدستور، هو الذي يتمتع منذ سنوات عديدة بحق التنقل كما يشاء في الفضاء الاوروبي؟ وماذا سيمنحه ذلك سوى اعتبارات رمزية لا اثر لها في الحياة الفعلية؟ بل الأمر لا يقتصر على غياب الفائدة، فهذا المشروع المطروح تطلّب انفاق اموال طائلة استفاد منها مئات الخبراء والمختصين الذين تولوا صياغته، وسيتطلب مبالغ اخرى يستفيد منها خبراء آخرون من الذين سيتولون شرحه وعرضه وتفسيره وتنقيحه، كما ستُصرف حوله الساعات الطوال في وسائل الاعلام للنقاش والمزايدة بين السياسيين، وقد بدا النقاش من الآن ومنذ الفقرة الاولى التي تتحدث عن "الثراث الديني" لأوروبا، ومن المرجح ان هذه المسألة وحدها ستستهلك طاقات ضخمة وتفتح معارك لا تنتهي بين اصحاب الموقف الراديكالي واصحاب الموقف الوسطي في قضية العلاقة بين الدين والدولة. وكل ذلك سيتواصل حاجبا القضية الرئيسية، وهي ان النموذج الاوروبي، في العلاقات الدولية كما في الاقتصاد، يسير نحو التأكل بل الانهيار، وان تقلص الدور الاوروبي في الساحة العالمية يرجع الى اسباب عميقة اذا لم يتم تداركها قريباً فقد يفوت الوقت والى الابد، او لعله فات ولما تنتبه اوروبا لذلك. فالنفقات العسكرية الاميركية تقارب ضعف نفقات البلدان الاوروبية مجتمعة، والاقتصاد الاميركي ما فتئ ينمو بسرعة وثبات اكبر، ويمكن ان يتجاوز مجموع الاقتصاديات الاوروبية بعد بضعة سنوات، فتفقد اوروبا آخر اوراقها، اي القدرة على توزيع الاعانات بسخاء، في ظل سياسة خارجية هي اقرب الى العمل الانساني. عندما بدأت الانظمة الشيوعية تتساقط الواحد تلو الآخر، فهم الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران ان فرنسا، واوروبا عموما، سيفقدان دورهما الاستراتيجي، وان ثقل العلاقات الدولية سيتحول الى مركز آخر، فبادر الى نفخ الروح من جديد في فكرة التكامل الاوروبي كي يتقدم بخطى اكثر سرعة وشمولية ويضم الدفاع والسياسة الخارجية. وكان صديقه المستشار الالماني هلموت كول منشغلا بتوحيد الجزئين الشرقي والغربي لألمانيا، فوجد في المشروع الأوروبي خير ضمان يقدمه لجيرانه كي يتخلوا عن توجسهم التاريخي من العملاق الالماني اذا نهض، ويتخففوا من ذكريات المآسي التي تسبب فيها سابقاً. هكذا بدأت أوروبا تقطع اشواطاً حثيثة بفضل ما دعي بالمحور الألماني - الفرنسي. الا ان هذا المحور فقد دوره عندما توسعت المجموعة الأوروبية واصبح حلفاء السياسة الاميركية يمثلون الاغلبية. لكن ينبغي الإقرار ايضاً ان المشروع الأوروبي لم يحقق ولن يحقق نتيجة ملموسة في مجال السياسة الخارجية والدفاع. فغايته انه نجح في فرض نموذج الاقتصاد الليبرالي على شكل معاهدات دولية ذات قيمة قانونية أعلى من التشريعات المحلية، مع نقل جزء كبير من السلطة الاقتصادية من البرلمانات الى هيئات الخبراء والمفوضين الذين لا يحظون بشرعية الانتخاب، واضعف مسار الوحدة الأوروبية الممارسة الديموقراطية وساهم في تعميق الهوة بين الجمهور ومجمع السياسيين، وأضعف هامش المناورة الاقتصادية لدى الحكومات التي اصبحت مقيدة بضوابط وعملة لا تتحكم فيها، واضعف المواقف الدولية للبلدان الأوروبية التي اصبحت تكتفي بالبيانات التوفيقية التي ترضي الجميع لكنها لا تحتوي حلولاً ناجعة لحسم المشاكل المطروحة. وها ان مشروع الدستور جاء وثيقة اضافية تعزز الأرشيف الأوروبي. فهو جرد لغايات جميلة مثل "الصياغة المتدرجة لسياسة دفاعية مشتركة يمكن ان تؤدي الى دفاع مشترك" بند 15، فقرة 1. انها عبارة أقل حزماً مما ورد في معاهدة ماستريخت "تتخذ المجموعة هدفاً لها تأكيد هويتها في الساحة الدولية خاصة عبر اقامة سياسية خارجية وامنية مشتركة" الفقرة الأولى من المعاهدة. وفي الوقت الذي يتابع العالم كله عجز أوروبا عن اتخاذ مواقف موحدة، يأتي الدستور ليقول ان على الاعضاء ان يساندوا بحزم السياسة الخارجية والأمنية المشتركة الفقرة 2، لكن كيف يمكن للأعضاء ان يساندوا بحزم شيئاً غير موجود وغاية المأمول ان يقع ايجاده "بالتدرج" في مستقبل غير معلوم؟ اما قرار تسمية وزير خارجية لأوروبا فهو يندرج على الأرجح في سياق بعث اكثر ما يمكن من المناصب لتمكين اكثر عدد من الاعضاء منها، فلا يتوقع ان يكون وزير الخارجية المعين اشد ثقلاً في المفاوضات الدولية من رؤساء الحكومات المتعاقبة على رئاسة المجموعة الأوروبية. والحاصل ان أوروبا تثبت بمشروع الدستور انها غير قادرة على رفع التحديات الحقيقية، ما يدفع الى التساؤل عن مصيرها بعد بضعة سنوات أو عقود: ألا يكون مثل مصير امبراطورية النمسا بعد الحرب العالمية الأولى، أي فضاء جميل يطيب فيه العيش وتتحقق بعض الرفاهة، لكنه بعيد جداً عن عهود العز والعظمة التي عاشها قديماً؟