الكتاب: "جماعة الأهالي" منشأها، عقيدتها، ودورها في السياسة العراقية 1932- 1946. الكاتب: مظفر عبدالله الأمين إصدار: المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2001. ما إن صدر كتاب حنا بطاطو "الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق" في العام 1978، ومن منشورات جامعة برينستون الأميركية، حتى ساد اعتقاد أن هذا السِفر قال الكلمة الأخيرة عن تاريخ ذلك البلد منذ تأسيس دولته الوطنية وعلى مدى خمسة عقود تلته. وهذا الاعتقاد مبرر تماماً، إذا وضعنا في الاعتبار القيمة العلمية المتفردة لعمل بطاطو، الذي اصبحت البحوث والدراسات تتفرع منه مثلما تتفرع الأغصان من جذع شجرة. فقلما يصدر كتاب عن العراق من دون الاعتماد على، أو الاقتباس من هذا المرجع الموسوعي، أو ربما الاختلاف مع منهجه. وفي هذا السياق تأتي دراسة مظفر عبدالله الأمين، وهي في الأصل أطروحة جامعية قدمت في العام 1979 الى جامعة درهام البريطانية، لتبحث في أسس نشوء وعقيدة ودور "جماعة الأهالي" حصراً بين أعوام 1932 ولغاية 1946. حسناً فعل الأمين، وربما، بتوجيه من المشرف بيتر سلوغليت، المختص في الشأن العراقي، في التنبه الى دراسة بطاطو واعتبارها واحدة من مراجعه المهمة، وكونها "مصدراً لا غنى عنه في طلب المعلومات وإسناد الآراء". لم تكن "جماعة الأهالي"، كما تتبع الدراسة "حزباً سياسياً بالمعنى الدقيق، وإنما كانت تجمعاً فضفاضاً لأفراد من ذوي الآراء المتشابهة يؤمنون في شكل معين من الديموقراطية الاجتماعية سموها "الشعبية". جاء ظهورها ليعكس نوعاً من تطور الفكر السياسي للجماعات المدينية، خصوصاً "أفندية" بغداد، ما جعلها السباقة بتبني سياسة تضع على طاولة نقاشاتها اليومية مطالب غير مألوفة. فالمطالبة، مثلاً، بالاستقلال الوطني الحقيقي، والحاجة الى إصلاحات اقتصادية واجتماعية، ورفع مستوى معيشة الفقراء، هي مفردات لم يدرج على طرقها آنذاك سوى تلك الشلة من الشباب المتعلم. وما عداها ظلت تدور حول سياسة ذلك العهد وفلك البلاط وتدخلات الإدارة البريطانية ودسائس الوجهاء والاقطاعيين. دراسة الأمين حاولت تقصي الأصول التاريخية والعقائدية ل"جماعة الأهالي" والبحث في فلسفتها السياسية، وتقويم دورها في سياسة المعارضة العراقية ومدى إسهامها في الحركة الوطنية بأسرها، كما يقول في مقدمته. كان لا بد من دراسة الخلفية التاريخية للعراق الحديث لوضع هذه الحركة في سياقها الطبيعي. وهو ما جعل الباحث، يتوقف عند ثورة العشرين باعتبارها مفصلاً مهماً من مفاصل تعاظم ظهور النزعة الوطنية ضد المستعمر البريطاني. فقد كانت تلك الثورة باهظة التكاليف "في شكل محرج للحكومة البريطانية من حيث الأموال والأرواح". وحتى تتويج فيصل ملكاً على العراق في آب اغسطس العام 1921، وتشكل وزارات لإدارة شؤون البلاد، كانت اشبه بسدود للجم بمثابة تنامي الحراك السياسي والاجتماعي الذي عبرت عنه تلك الثورة. قضيتان شغلتا المشهد السياسي العراقي في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، الأولى، كيفية التعاطي مع سلطات الانتداب البريطاني المحتل بعد اندحار القوات العثمانية في الحرب العالمية الأولى. والثانية تكمن في تحديد شكل العلاقة مع سلطة الملك الجديد. ومثلما هزت القضيتان قناعات ومسلمات وطرائق تفكير النخب المدينية، خصوصاً فئة "الأفندية"، وطرحت عليهم اسئلة مقلقة لا سابق لأعمارهم أو تجاربهم بها لتتركهم في غمرة البحث عن إجابات شافية لها. فإن ثمار مردودها الإيجابي جاء أبعد من تخبطات وحسابات ومصالح القوى المتصارعة، وتمثل في إعادة اكتشاف مفهوم الوطن. فالعراق بعد اربعة قرون عاشها في ظل السلطنة العثمانية وجد نفسه يتيماً. وما تقسيماته الإدارية على الطريقة العثمانية واختصاره بثلاثة "سناجق" كشف لرجال السياسة الفتي والعامة الباب على مصراعيه عن تعقيدات ما كانت في الحسبان. ويشير الأمين "ان العراق كان كياناً مصطنعاً، انشئ في عام 1918، وكانت قوى الاندماج الوطني آنذاك ضعيفة نسبياً. وأن الخلافات الاثنية والطائفية، والفوارق الثقافية والاقتصادية بين المدينة والريف، والتباين الشديد بين الأغنياء والفقراء، والطبيعة غير التمثيلية للنظام السياسي" خلقت شروطاً استحال حلها بالوسائل السياسية التقليدية. ومثل هذه الحقيقة المرة جعلت شكوى الملك فيصل الأول، الذي اضطلع بمشروع تحديثي وتوحيدي طموح للعراق المتخلف والممزق في مكانها، حيث اعترف صراحة بصعوبة ادماج كل تلك الاختلافات تحت مظلة الشعور الوطني الواحد. لكن تبلور هذا الشعور جاء خارج سياق صراعات النخبة الملتفة حول الحكم، وكانت بؤرته تحديداً معاهدة 1930 التي وقعها نوري السعيد مع سير فرانسيس همفريز في نهاية شهر حزيران يونيو من ذلك العام لتنظم علاقة العراق ببريطانيا، وأفضت الى النهاية الرسمية للانتداب. اما التنكب العملي للتصدي لها، فقد اتخذته "جماعة الأهالي" على عاتقها حال ظهورها الى العلن في العام 1932. اتفق المؤسسون، كما تشير الدراسة، على مجموعة مبادئ اساسية وسموها "الشعبية"، وقرروا إصدار صحيفة يومية باسم "الأهالي" ومنذ صدور عددها الأول عرفت تلك المجموعة ب"جماعة الأهالي".وكان وراء هذه التسمية غايات واضحة منها، انها تعنى بمشكلات الناس وتأخذ جانب الشعب. كما انها تختلف عن الأسماء المتداولة آنذاك، وفيها محاكاة اعجاب لحزب الوفد المصري ولصحيفته التي تحمل الاسم نفسه. وقف وراء هذا المشروع السياسي الطموح اربع شخصيات وزعت في ما بينها المسؤوليات، إذ أنيطت بعبدالفتاح ابراهيم مهمة العمل العقائدي، ومحمد حديد التخطيط الاستراتيجي، وحسين جميل العمل الصحافي، وعبدالقادر اسماعيل التفرغ للنشاط العملي أسقطت عنه الجنسية العراقية في الثلاثينات ولم يعمل لدى الدولة طوال حياته، ومثلما كانت تلك التجربة فاتحة جديدة في العمل السياسي، فإنها أدخلت، أيضاً، شكلاً جديداً في تمويل صحيفتها. ومن خلال جعلها مشروعاً تجارياً، شرط عدم تدخل حملة الأسهم في رسم سياستها أو توجهاتها أو سلوكها. ويبدو ان التجربة الطالبية لقادتها، خصوصاً في بيروت وبريطانيا، ما عدا عبدالقادر اسماعيل الذي أكمل دراسة الحقوق في بغداد، كانت وراء ابتداع مثل هذه الأساليب المستحدثة. حدثان كبيران وقعا في فترة متقاربة وضعا "الجماعة" على محك التجربة العملية. تمثل الأول في انتفاضة الأشوريين للمطالبة بالاعتراف بحقوقهم السياسية، والقمع المسلح الذي شهدت ذروته قرية "سُميل" في آب وراح ضحيته النساء والأطفال غير المسلحين. وأهمية هذا الحادث انه مهد لبروز "الجيش وقائده بكر صدقي كقوة يحسب لها حساب في السياسة العراقية" ولعقود تلت. بينما جاءت وفاة الملك فيصل المفاجئة لتهز "حجر الزاوية التي يمسك بالكيان القلق ويشد بعضه الى بعض". حماسة الانسياق وراء الحدث الأول، دفع ب"الجماعة" الى التعاون والتحاق اعضائها بحكومة حكمت سليمان اثر انقلاب قادة بكرة صدقي في العام 1936. ومثل هذه المغامرة كان لها مضاعفات سلبية على مستقبل الحركة الوطنية بأسرها، ما أفقدها حصاناتها ودفعها الى العمل السري. وكان من نتائجها، ايضاً، فتح شهية الجيش للهيمنة على الحكومات اللاحقة الذي توجهته حركة رشيد عالي الكيلاني في العام 1941، عندما تحالف مع العقداء الأربعة. لكن تلك الحركة سرعان ما انهارت تحت وقع الضربات البريطانية ومن دون ان يجديها تحالفها مع النازية الألمانية. ومع هذا يجد الأمين انه "باستثناء "جماعة الأهالي" والحزب الشيوعي لم يكن للأحزاب السياسية شيء من الهيكل التنظيمي أو الرصانة العقائدية"، إذ يرى ان "الجماعة" "هي المنظمة السياسية الوحيدة التي دعت الى إصلاحات في المجتمع العراقي وربطت بين مسألة التغيير الاجتماعي الداخلي بالاستقلال الوطني، وكانت سباقة في رفضها الوضع السياسي القائم في البلاد". كما انها والشيوعي حاولا "تمثيل أوسع ما يمكن من عينات السكان، واتخذت المعارضة السياسية بظهورهما وظيفة جديدة ومهمة في السياسة العراقية، وظيفة تلتف حول القضايا لا حول الشخصيات". صحيح ان "جماعة الأهالي"، كما يخلص المؤلف "لم ترتب لنفسها آلية حزبية ذات تنظيم جيد، ولم يكن لديها ضمانات بأن العسكر لن يسيئوا استخدام السلطة، ولم تكن نداً حقيقياً لخصومها المدنيين الذين كانوا يمثلون قوى عميقة الجذور في النظام السياسي، فتمكنوا من سحقها بسهولة". ويرى ان "سذاجة" قادتها جعلتهم يقعون فريسة تحالفات وصفقات سياسيين محنكين من امثال كامل الجادرجي وجعفر أبو التمن وحكمت سليمان. وعلى رغم ذلك، كما يلاحظ الباحث لم تكن "الأهالي"، "جماعة طائفية على الإطلاق، ولا تتسم بالتحيز الإثني". وقع الأمين في اكثر من مغالطة وسهو وسوء ترجمة. فعند تناوله لقضية المدرس السوري انيس النصولي عقب إصدار كتابه "الدولة الأموية في الشام"، وفيه تجريح بشخصية الإمام علي، راجع حنا بطاطو ص 49 المجلد الثاني رمى اللوم على وزير المعارف "الشيعي" الذي امر بفصل وطرد الأستاذ من البلاد. لكنه لم يكلف نفسه عناء البحث في دور ساطع الحصري، شغل منصب المدير العام في الوزارة نفسها، بتأجيج مشاعر العداء المذهبي. ولنا في "دمغته" الشهيرة عندما رمى بها قامة شعرية كبيرة مثل الجواهري بوسمه "شعوبياً". كما ان الباحث بالغ في الاعتماد، على مصدر غير محايد في قراءة حادثة الأثوريين، يسميهم الأشوريين في الصفحة 22، وهي يوميات خلدون ساطع الحصري. وعلى المنوال نفسه يلمس القارئ عدم دقة الباحث حين يشير في الصفحة 18 "اندلاع ما يعرف بثورة العشرين"، ثم يعود في الصفحة المقابلة ليسميها بثورة العشرين. الفارق بين العبارتين واضح. لعل قيمة هذا الكتاب تكمن في استجلاء معالم حركة سياسية مدنية لعبت دوراً مهماً في تاريخ العراق قبل استقلاله الناجز في العام 1958، ثم اختفت بعد ذلك التاريخ من دون ان يبقى لها اثر يدعي وراثتها أو حمل تقاليدها. وعلى رغم الطيف الواسع للأحزاب السياسية المعارضة الآن، لا يشعر المراقب بأن فيها ما يعبر عن امتداد تلك الحركة أو حزب البورجوازية العراقية التقليدية الممثلة ب"الحزب الوطني الديموقراطي" بزعامة كامل الجادرجي.