كثيرة هي الأخطاء التي ارتكبتها الإدارة الأميركية وسلطة الاحتلال في العراق منذ انهيار نظام صدام حسين. أخطاء عسكرية ترتبت على تعجل وقف العمليات العسكرية الرئيسة للمباهاة بتحقيق نصر سريع، ما أتاح لقادة عراقيين ميدانيين فرصة لانسحاب منظم نسبياً الى مناطق آمنة في شمال بغداد وشرقها لم تصل إليها الحرب إلا في شكل عابر. أما الأخطاء السياسية فهي أكثر من أن تحصى في مثل هذا المقام. ولكن يكفي الإقدام على تسريح جيش قوامه الأساس من الشبان المجندين الذين لا يمكن اعتبارهم موالين للنظام المخلوع بدلاً من الاعتماد عليه في حفظ الأمن. فباستثناء الجنرالات، وربما الكولونيلات، كان سهلاً إعادة تأهيل الجيش النظامي في ظل قيادة جديدة لأداء وظائف تشتد الحاجة إليها حتى الآن. وقل مثل ذلك عن قطع رزق كل من انتسب الى حزب البعث في بلد لم يكن ممكناً للمرء أن يجد عملاً من دون أن تكون له علاقة مع هذا الحزب. ساهمت هذه الأخطاء وغيرها بالقطع في تعثر سلطة الاحتلال وقواتها وصولاً الى المأزق الراهن. غير أن هذا لا يكفي لتفسير إخفاق المشروع الكبير الذي استهدفت واشنطن إنجازه، وهو بناء نظام ديموقراطي ناجح وعلى مستوى مرتفع في أدائه واشعاعه على دول أخرى، ليكون نموذجاً للتغيير في المنطقة العربية ورائداً في عملية نقلها الى عصر جديد. وكم تحدث الرئيس بوش وأركان إدارته قبيل الحرب عن العراق الحر الذي "سيكون قدوة تحتذى" و"سيشجع الاصلاحات السياسية في أنحاء المنطقة". ولكن بعد أكثر من خمسة شهور على سقوط بغداد، ما زال المجتمع العراقي مستعصياً ليس فقط على هذا المشروع الشديد الطموح، ولكن أيضاً على استعادة حال الأمن والاستقرار. وإذا كانت النتائج تترتب على مقدمات، فما يحدث في العراق الآن لا يمكن أن يكون مقدمة للنموذج الذي يؤدي دور قاطرة تقود المنطقة الى عصر الديموقراطية. فأقصى ما يمكن بلوغه هو إقامة نظام تعددي شبه ديموقراطي يوفر فرصاً للمشاركة السياسية وتمثيلاً لمعظم فئات المجتمع. ولكنه سيبقى مزعزعاً لفترة يصعب تقديرها بسبب قوة الانتماءات التقليدية الطائفية والعرقية والعشائرية في مجتمع ارتد الى تكويناته الأولية بسبب اجتثاث السياسة منه لأكثر من ثلاثة عقود. ونظام هذه حاله لا يصلح مصدر اشعاع يغير جيرانه، بل على العكس يحتاج الى مساعدة هؤلاء الجيران، أقله على مستوى الامتناع عن التدخل لاستغلال أو تدعيم الخلافات الطائفية والعرقية. فهذا النوع من التدخل يمكن أن يكون شديد الإيذاء بسبب ضعف مناعة النظام الجديد الذي سيقام في العراق. ويعني ذلك اخفاق المشروع الأميركي على نحو لا تكفي الأخطاء التي حدثت تفسيراً له. فما كان لكثير من هذه الأخطاء أن يقع، وأن يكون له مثل هذا الأثر، إلا لخلل جوهري في بنية المشروع نفسه. ولعل هذا هو ما قصده الجنرال الأميركي المتقاعد انتوني زيني القائد الأسبق للقيادة الوسطى عندما حذر أخيراً من مخاطر الفشل في العراق بسبب "غياب استراتيجية متماسكة وخطة جادة" على حد تعبيره. غير أن هذا الغياب يقتضي بدوره تفسيراً نجده في افتقاد المعرفة الكافية بتعقيدات المجتمع العراقي والرؤية الصائبة لمستقبله. فالخلل الجوهري في المشروع الأميركي للعراق والمنطقة يرجع الى فقر في معرفة المجتمع الذي يهدف المشروع الى بناء النموذج المبتغى فيه، والى فقر في الفكر الذي يقوم عليه هذا المشروع أصلاً. فأما الفقر المعرفي فهو إحدى نتائج تعاظم الشعور بالقوة وما يقترن به من غطرسة تدفع إما الى الاستغناء عن المعرفة أو الى الاستهانة بها. وحدث شيء من هذا وذاك أدى الى تجاهل سؤال منهجي أساس هو: هل يمكن بناء ديموقراطية كاملة وناجزة في شكل فوري في مجتمع نزعت منه السياسة ودمرت هيئاته المدنية وفقد معظم صلاته بالحداثة؟ وبسبب تجاهل هذا السؤال، وجدنا المفارقة بين ثراء شديد في معرفة صانع القرار الأميركي بمسرح العمليات العسكرية وفقر مدقع في فهمه طابع المجتمع العراقي الراهن وتكويناته الأساسية. وأما الفقر الفكري، والأخطر أثراً، فهو ظاهر في عدم انتاج فكرة واحدة جديدة مما هو ضروري لمشروع كبير بحجم بناء نظام ديموقراطي في مجتمع شديد التنوع والتخلف في آن، وعلى أنقاض أكثر النظم استبداداً وقسوة في عالمنا، فضلاً عن أن يكون هذا النظام نموذجاً للتغيير في منطقة من أكثر مناطق العالم ركوداً. فالجمود السياسي هو عنوان المنطقة المراد تغييرها انطلاقاً من نموذج يقتضي بناؤه إنجاز تحول شامل وفوري في مجتمع يصعب القول إنه مهيأ لذلك في مدى قصير. ومشروع يواجه هذه الصعوبات كلها يفترض أن تسنده أفكار جديدة خلاقة مبدعة. غير أن أصحابه لم يدركوا أهمية مثل هذه الأفكار، واكتفوا بأن "ينهلوا" من تجارب سابقة على رغم أن أوضاعها كانت مختلفة تماماً عن الوضع العراقي الراهن. فعندما فكروا في بناء العراق النموذج، عادوا الى حالي ألمانياواليابان بعد الحرب العالمية الثانية، على رغم صعوبة إيجاد قواسم مشتركة يعتد بها مع العراق بعد حرب الخليج الثالثة. والغريب أن الإصرار على المشابهة مع تجربة ألمانيا ظل مستمراً على رغم كل الاخفاقات في العراق. فبعد نحو خمسة شهور على سقوط بغداد، كانت مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس تتحدث أمام مؤتمر لقدامى المحاربين الأميركيين في سان انطونيو. وعندما أرادت أن تقنعهم بأن التعثر في العراق موقت، لجأت الى تجربة ألمانيا وقالت إن هذا البلد لم يكن مستقراً ولا مزدهراً بين عامي 1945 و1947، وكان ضباطُ الصاعقة النازيون يقومون بأعمال تخريب ويهاجمون القوات الحليفة تماماً مثلما يفعل اليوم بقايا البعثيين وفدائيي صدام على حد قولها! وفضلاً عن أن العراق ليس، ولا يمكن أن يكون، مثل ألمانياواليابان، لم يكن أي من هذين البلدين مصدر اشعاع أو أداة تغيير إقليمي بعد بناء النموذج المرغوب فيه. فلم تنتشر الديموقراطية في آسيا. والإنجاز الاقتصادي الذي حققه "النمور" اعتمد على دور أميركي مباشر، وليس من خلال اليابان، ارتبط بخطة لمنع انتشار الشيوعية في جنوب شرقي آسيا. كما أن تغيير ألمانيا استهدف جعلها ديموقراطية مثل إقليمها الأوروبي، وليس العكس. ولأن حالي ألمانياواليابان لا تصلحان أساساً للتفكير في تغيير المنطقة العربية إنطلاقاً من النموذج العراقي، لجأ صقور واشنطن الى "نظرية الدومينو" التي كان الأميركيون يخشون أثرها عندما واجهوا خطر انتشار الشيوعية. ولم يثنهم عدم وجود تطبيقات يعتد بها لهذه النظرية في شأن انتشار الديموقراطية. فهم يستطيعون المغالاة في تفسير الأحداث، مثلما يغالون في مواقفهم. ولذلك يرون ما لا يراه كثير غيرهم، وهو أن سقوط النظم الشمولية في دول الكتلة الاشتراكية السابقة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي يعتبر تطبيقاً لنظرية الدومينو. وهذا رأي مطعون فيه، لأن التغيير في تلك الدول حدث بالتوازي مع تفكك الاتحاد السوفياتي، وللأسباب نفسها. ومع ذلك فحتى إذا اعتبرنا التغيير الذي حدث في دول شرق أوروبا مترتباً على تفكك الاتحاد السوفياتي، فليس هناك الكثير مما يجمع العلاقة بين موسكو وتابعاتها والعلاقة بين بغداد وجيرانها. وهكذا بني المشروع الأميركي للعراق والمنطقة العربية على أساس هش فكرياً. ولا يمكن أي قوة عسكرية مهما بلغ جبروتها أن تعوض هذه الهشاشة. فالقوة العسكرية ينتهي دورها عند اسقاط النظام المراد تغييره. ولكنها لا تفيد في بناء النظام المبتغى أن يكون نموذجاً ولا تستطيع إنقاذ المشروع الذي استهدفته الحرب من الإخفاق. وعلى رغم أن هذا الإخفاق فاجأ كثيرين، إلا أنه ليس الأول من نوعه ولكنه الأكثر وضوحاً على الإطلاق. خذ مثلاً ما يحدث في أفغانستان الآن، حيث نظام الحكم الذي أقيم لا أثر له تقريباً في خارج كابول، فيما مقاليد الأمور في أيدي الميليشيات المسلحة وأمراء الحرب وتجار المخدرات. ولا يقلل من فداحة الإخفاق في أفغانستان أن صقور واشنطن لم يفصحوا عن مشروع لهذا البلد عندما شنوا الحرب على حكومة "طالبان" وشبكة "القاعدة" في تشرين الأول أكتوبر 2001. وربما يجوز أن نرد إخفاق المشروع الأميركي للعراق والمنطقة العربية الى ما هو أبعد من الفقر الفكري للمحافظين الجدد في واشنطن، وأن نعود به إلى الأزمة التي يعانيها الفكر الاستراتيجي الأميركي منذ انتهاء الحرب الباردة الدولية. فلم يهتد هذا الفكر بعد إلى رؤية استراتيجية واضحة ومتماسكة للنظام العالمي الجديد تتجاوز ضمان الانفراد بقمته. غير أن هذه الأزمة تفاقمت في عهد الإدارة الحالية بسبب النزعة الأيديولوجية للمحافظين الجدد وما تؤدي إليه من ميل الى التبسيط واعتماد فائق على القوة. ولذلك تبدو أميركا اليوم جسداً قوياً من دون روح، بخلاف ما كانت عليه فرنسا الثورية والقوية أيضاً في نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر. فما نشهده اليوم في محاولة أميركا تغيير العالم بالقوة لم يحدث منذ حروب نابليون ضد الملكيات الإقطاعية في أوروبا. فالقاسم المشترك هو رغبة عارمة في تغيير العالم والهيمنة على النظام الدولي. ولكن، كانت لفرنسا رؤية استراتيجية واضحة وأهداف بدت تقدمية في حينه ما جعل فيلسوفاً كبيراً مثل هيغل يتحمس لدورها العالمي حينئذ ويرى في نابليون "روح العالم" التي تتحرك على حصان. ترى، ما الذي يمكن أن يقوله هيغل عن الرئيس بوش لو امتد به العمر ورأى ما يفعله هو وأركان ادارته اليوم. هل يقول إن أميركا جسد شديد القوة ولكنه بلا روح، وأن العالم ما زال في انتظار تلك الروح التي تجسد - عند هيغل - حركة التاريخ الصاعدة؟ ربما يقول ذلك وفق ما تعلمناه من فلسفته. ولكن الأكيد أن عالم اليوم سيئ الحظ ليس فقط لأن الدولة الأعظم متغطرسة وجامحة في استخدام القوة، ولكن أيضاً لأن فقرها الفكري يؤدي الى ممارسات يدفع غيرها أثمانها الفادحة. * كاتب مصري مساعد مدير مركز "الأهرام" للدراسات السياسية